إعداد: د. حوراء حمدان
تُوثّق فصول كتاب "الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره" المحطّات الرئيسة لتحرّكات الإمام السياسيّة والحوادث التي كان لها تأثير كبير في منهجيّته الفكريّة، فبيّنت -باعتمادها على أكثر من 126 مرجعاً ومصدراً- المقوّمات الشخصيّة التي امتاز بها الإمام قدس سره، ومرتكزاته الفكريّة ورؤاه الاستشرافيّة.
تكمن أهميّة هذا الكتاب حاضراً في بعدَيْن: البعد الأوّل، هو نموذج القيادة الثوريّة المتمثّلة بالإمام قدس سره، أمّا البعد الآخر، فهو الكشف عن أقنعة الزيف لقوى الاستكبار العالميّ التي لا تزال تراوغ ضمن مسمّيات مضلّلة.
يشتمل الكتاب على واحد وثلاثين فصلاً، ويتناول المدّة الزمنيّة ما بين 1900م و1977م. وفيما يأتي، أبرز المحطّات في حياة الإمام السياسيّة.
فترة حكم رضا خان
بيّن الكاتب، محمّد حسن رجَبيّ، على مدار ثلاثة فصول، الوضعَين السياسيّ والاقتصاديّ العامّ خلال فترة انقلاب رضا خان(1)، والتي كان عنوانها الأبرز صراع الأمم الاستعماريّة على نهب خيرات البلاد. لقد كان انقلاب خان نتيجةً لعوامل داخليّة وخارجيّة متأزّمة، ووسيلةً لضمان مصالح بريطانيا الاقتصاديّة والسياسيّة.
في كتابه "كشف الأسرار" أشار الإمام قدس سره إلى انتقادات عدّة لنظام خان الديكتاتوريّ، وأوضح أنّ الإصلاح يجب أن يكون منصبّاً على الوضع بأكمله، وإلّا سيبقى الوضع على ما هو عليه(2). وقد كان الإمام قدس سره في تلك الفترة مواكباً للمسيرة الجهاديّة ضدّ رضا خان، ومُلِمّاً بطبيعة النظام الحاكم.
ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"
أشار الكاتب في الفصل الخامس إلى أنّ مسألة ولاية الفقيه قد طُرحت في كتاب "كشف الأسرار" للمرّة الأولى، في الوقت الذي لم تكن تشهد فيه الساحة نشاطاً من علماء الدين؛ أي قبل خمس وعشرين سنة من بحوث الإمام التدريسيّة في النجف. وقد أوضح الكاتب عدداً من أبعاد المسألة، من تفسير مصطلح "أولو الأمر"، إلى مسألة إقامة الحكومة الإسلاميّة بمجالاتها كافّة، وصولاً إلى شرح أصول الدستور الإسلاميّ.
الرؤية الوطنيّة للإمام قدس سره
بدأ نشاط الإمام قدس سره السياسيّ علناً بعد نشر كتابه "كشف الأسرار" عام 1944م. وقد انقسم النشاط إلى قسمين: أحدهما ضمن الحوزة، والثاني خارج نطاقها. والحادثة الأبرز التي دعته إلى الخوض في المعترك السياسيّ هي مسألة المرجعيّة الدينيّة بعد وفاة المرجع الأصفهانيّ، وتزامنها مع هروب رضا خان. وقد لعب الإمام قدس سره في تلك الفترة دوراً بارزاً من خلال مواقفه وعلاقته وانتقاده لبعض تحرّكات قيادات الانتفاضة الوطنيّة والسياسيّة.
بيّن الكاتب رؤية الإمام قدس سره تجاه المسألة الوطنيّة، مستعرضاً طبيعة موقفه من فكرة القوميّة التي اعتبرها إحدى حيل السيطرة الاستعماريّة، وموقفه من الانتفاضة الشعبيّة التي هتفت لأجل النفط والمادّة، حيث اعتبرها الإمام قدس سره خارجة عن نطاق الإسلام والهدف الإلهيّ. ويعتقد الإمام قدس سره "أنّ أيّ حركة ثوريّة في العالم الإسلاميّ لم تجعل أهدافها إسلاميّة ولم تسِر نحو تحقيق المبادئ الإلهيّة، فإنّ مصيرها الفشل"(3).
مواجهة الشاه محمّد رضا بهلويّ
بعد الانقلاب المدبّر الذي عاد بموجبه الشاه إلى عرشه في آب 1953م، دخلت البلاد ضمن الهيمنة الأمريكيّة (1953م- 1963م). سعى الشاه ورئيس الوزراء أسد الله علم إلى تنفيذ المصالح الأمريكيّة والخطّة الإصلاحيّة الخادعة المطلوبة دون قيد أو شرط.
وتُعّد مسألة لائحة إصلاحات الانتخابات(4) نقطة الانطلاق لنشوب النزاع والمواجهة بين الإمام قدس سره والشاه، حيث انفجرت انتفاضة 5 حزيران(5) التي أدّت في النهاية إلى نفي الإمام قدس سره. وتُعدّ هذه المسألة منطلقاً لنشوء الحركة الإسلاميّة السياسيّة بقيادة الإمام الخمينيّ قدس سره، التي خاض بها غمار معارك عدّة حتّى انتصار الثورة المباركة. وكانت أدوات المواجهة هي توعية الناس وإرشادهم إلى ماهيّة النضال الحقيقيّ بطابعه الدينيّ والأخلاقيّ، وكشف خطط الاستعمار ومراوغاته المعنونة بالحريّة الاجتماعيّة ومخلّفاتها الهدّامة للوطن والأمّة(6).
قدّم الكاتب تحليلاً مستوفياً لانتفاضة حزيران، مستعرضاً موقف الشاه والسلطة والكتل السياسيّة والصحف الأجنبيّة التي شنّت هجمة شعواء ضدّ هذه الحركة الجماهيريّة.
خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة
شُيّد بنيان هذه الحركة الجهاديّة على العقيدة الإسلاميّة وفكر أهل البيت عليهم السلام، وسارت على نهج القرآن الكريم ودستوره. كانت نهضة الإمام ثورة في وجه الظلم والطغيان والاستعمار، وكشف الزيف والقناع عن السلطة والبلاط عملاء أمريكا و"إسرائيل". لقد كان الإمام قدس سره قائداً فذّاً ومهيباً شجاعاً، صاحب عزم لا يلين، وإحساسٍ كبير بالمسؤوليّة الدينيّة والشرعيّة يوجّهها الإخلاص لله. تميّزت نهضته عن سابقتها بأنّها حركة إسلاميّة إلهيّة نابعة من قلوب الجماهير السائرة خلف مرشدها وزعيمها المخلص لها. وقد اتّسعت رقعة الحركة الإسلاميّة على الرغم من مكائد السلطة، واستطاعت قيادة حركة ثقافيّة إصلاحيّة، ما دفع الشاه إلى الحيل والمراوغات لمحاربتها وتشويه الهويّة الإسلاميّة وتزويرها.
في المنفى
لم يكن النفي إلى تركيا ثمّ النجف فباريس ليؤثّر قيد أنملة في مسيرة الإمام قدس سره، فخلافاً لما توقّع الشاه، ازداد الإمام قدس سره تصميماً على إقامة الحكومة الإسلاميّة مهما كلّف الثمن. بيّن الكاتب هذه المسألة من خلال البيانات والرسائل التي كان يوَجِّهُها الإمام قدس سره في تلك الفترة، وقد كانت عناوينها الرئيسة: الدعوة إلى السبيل القويم، ومقارعة النظام والكشف عن جرائمه، والسعي إلى فرض منهج موحّد وعمل تنظيميّ للثورة، والتنديد بالهجوم الوحشيّ الإسرائيليّ على الأمّة، وحثّ الدول المصدّرة للنفط على وضع طاقاتها كلّها في خدمة الحرب التحريريّة من أجل قطع أيادي "إسرائيل" والمستعمرين كافّة(7).
تحدّث الكاتب بإيجاز عن ثروة الشاه والاتّفاقات الأجنبيّة وصفقات الأسلحة، ولا سيّما بين 1973م و1978م، التي مُنعت عوائدها عن أبناء الوطن ودمّرت الاقتصاد الإيرانيّ، وبيّن موقف الإمام قدس سره وتوصياته حول تدهور الأوضاع، خصوصاً بعد خسارة أمريكا حربها على فيتنام وقضيّة Watergate في الداخل(8).
تفجّر الثورة الإسلاميّة
في 23 أيلول 1977م، وافى الأجل نجل الإمام قدس سره، السيّد مصطفى، بشكلٍ مفاجئ، وغلب الظنّ أنّها كانت عمليّة اغتيال نظراً إلى دوره ونشاطه السياسيّ إلى جانب الإمام قدس سره في النجف. وقد عبّر الإمام عن ذلك "إنّه لطف من ألطاف الله الخفيّة"(9). كان الشعب يعيش حالة من الغليان ومقارعة الطاغوت الذي كان يرتكب المجزرة تلو الأخرى، من قمّ إلى تبريز ويزد. وقد ورد في أحد بيانات الإمام قدس سره: "إنّ هذه المجازر ما هي إلّا دليل على عجزه (النظام) وخوفه من أمّتنا المجيدة، الأمّة التي خرجت نساؤها لتعلن معارضتها للنظام الجائر، التي أرهبت الشاه والبيت الأبيض... تلك أمّة عمادها القرآن، ثورتها من أجل إحقاق الحقّ ونشر العدالة الإلهيّة"(10). وتوالت الأربعينيّات والمجازر والثورة مستمرّة. لقد كان الشعب يحمل جثث الشهداء ويطوف في الشوارع وهو يصرخ: "الموت للشاه"، وحول هذا قال الإمام قدس سره: "لقد سُلبت حريّة الشعب الإيرانيّ، فلم يعد قادراً حتّى على التنفّس"(11).
لقد وعى العالم بأسره ما كان يجري في إيران، وأدرك أنّ نهضة الشعب الإيرانيّ يقودها رجل فذّ وهو بعيد عن أرضه وشعبه آلاف الكيلومترات، يمدّهم بالخطابات والبيانات المتتالية، ويعدهم بنصر الله القريب، فتفجّر نفوسهم، وتشعل الغضب بين أوساط الشعب. "لقد وقفت جميع الدول اليوم في وجه شعب لا يميل إلى الشرق ولا إلى الغرب، تريد قمعه... لكنّي على يقين كبير بأنّ انتصار شعبنا حتميّ وقريب بإذن الله"(12).
1- الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره، محمّد رجبي، ط1، دار المعارف الإسلامية، بيروت 2020 م، ص 23-109.
2- (م. ن.)، ص 108.
3- (م. ن.)، ص 151.
4- والتي جاء القرار فيها بحذف كلمة الإسلام من شروط الناخبين والمنتخبين. (م. ن.)، ص 175.
5- اندلعت هذه الانتفاضة بعد اعتقال الإمام، وكانت الهتافات منادِيةً إمّا الموت وإمّا الإمام، والموت للشاه، وقد واجه النظام هذه الانتفاضة بالعنف والسلاح والإبادة. (م. ن.)، ص 199.
6- منها الثورة البيضاء الأمريكيّة التي حرّم الإمام المشاركة في الاستفتاء العام حولها، وكذلك مصادقة البرلمان على لائحة الحصانة للأمريكيّين عام 1964م. (م. ن.)، ص 185-229.
7- (م. ن.)، ص 298.
8- قضيّة تجسّس داخليّ في أمريكا انتهت باستقالة الرئيس نيكسون بعد أن اتّضح تجسّس حزبه الجمهوريّ على الحزب الديمقراطيّ (1972م- 1974م).
9- الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ، (م. س.)، ص346.
10- (م. ن.)، ص 363.
11- (م. ن.)، ص 376.
12- (م. ن.)، ص 425.