مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: طائر اللقلق‏

نسرين إدريس

 



لم يعرف جهاد ابن السنوات الثلاث سبب الوجع المفاجئ الذي ألم بوالدته ذاك الصباح، مثلما لم يعرف لماذا فجأة انتفخ بطنها، وصار يهمس الآخرون بين فينة وأخرى: "أتريد صبياً أم فتاة؟!"، وهو يلوي رأسه جاهلاً بالموضوع. جلس جهاد على الكرسي قرب أمه التي تلاشت قواها قليلاً فغفت، وظلّ هو يرمقها بصمتٍ، حتى إذا ما بدأت تباشير الشمس تلوح عبر الزجاج، فتحت أمه من جديد عينيها على الصراخ. ارتبك ولم يدرِ ما العمل، ووالده الذي ذهب ليأتي بجدته تأخر، فأسرع وفتح الباب ليطلق قدميه للريح وصوته للجارة، لولا أنه رأى والده وجدته مع امرأة غريبة يهرولون باتجاه المنزل.

ارتمى جهاد، كعادته، في حضن جدته، التي ما أن قبلته حتى مسحت على رأسه وطلبت إليه أن يبقى خارجاً وأسرعت المرأة إلى الداخل فيما بقي والده خارجاً ينفث سيجارة قلقة. إنها المرة الأولى التي تعامله جدته هكذا، فقد طبعت قبلة وأدارت ظهرها بعد أن كانت بالكاد تفلته بالقوة. ثمة شي‏ء غريب يحصل في الداخل لا يعرف ما هو! تركه والده لتساؤلاته وقصد متجراً خارج المخيم ليأتي بلائحة الحاجات التي طلبتها منه جدته، فجلس جهاد على درجة البيت الصغيرة واضعاً وجهه بين كفيه، محولاً تقاسيمه إلى ملامح مضحكة، وهو يجرّب أن يحلل الأمور. وسرعان ما وقف مستنفراً. وكيف لم يخطر على باله ذلك؟!

لا شكَّ أن الطفل الجديد سيحلُّ ضيفاً هذا اليوم! ارتسمت ابتسامة انتصار على شفتيه، وقد اكتشف السر. ورفع بصره صوب السماء: إذن بين لحظة وأخرى سيصل ذلك الطائر حاملاً بمنقاره الكبير سلّة يغفو فيها الطفل، مثلما يحصل في الرسوم المتحركة التي يشاهدها ورفاقه على شاشة التلفاز الوحيدة في المخيم، لمدة نصف ساعة قبل وصول (الكبار) لمتابعة نشرات الأخبار. وضع يديه في جيبيه، وسار كالنشوان من الفرح في الزقاق الضيق الذي تسرق ثقوب جدران بيوته خيوط الشمس، وقد راح الأولاد يتراكضون ويلعبون، ولم تستدرجه شقاوته لمشاركتهم لعبهم، فهو قلق بشأن الطفل، الذي إن كان صبياً وسمّاه والده "قدس" سيصبح معه بعد سنتين شريكاً في اللعب، وإذا كانت فتاة وسموها "جِنين"، على اسم المخيم الذي دمره العدو الإسرائيلي، عند ذلك سيجد فقط من سيتشاجر معه ويُلزم بالانتباه عليه! ولمعت برأسه، عند تذكره اسم "جنين"، فكرة مرعبة... ولكن! يا رباه! ماذا لو أن الطائرات الإسرائيلية منعت طائر اللقلق من الوصول؟! ماذا لو استهدفته بصواريخها؟! ماذا لو ضيعت طريقه؟! هدأت مشاعر الفرح تحت رماد القلق! ما العمل؟!

جرّب أن يسترق النظر إلى داخل بيتهم، فلم يفلح! وعاد إلى الزقاق ليجمع كل ما وجد أمامه من حجارة صغيرة ووضعها في جيبيه حتى انتفختا، وحمل البعض منها بين يديه، وصعد إلى أعلى سطح في المخيم وجلس مستنداً على برميل ماء لينظر إلى البعيد. هو يعلم أن الحجارة لن توقع طائرة، لكن اللَّه في السماء سيساعده ويرسل عليهم طيراً أبابيل، هكذا تقول أمه دائماً... فتح جهاد عينيه والشمس تلسع خده من جهة، وحبيبات التراب نبتت على خده الآخر. رفع رأسه قليلاً. لقد سرقه النوم من انتظاره. ولكن الصراخ والضجيج الآتيان من رشقات رصاص قريبة أيقظه، أطلّ برأسه، ليرى الدبابات الإسرائيلية على بوابة زقاقهم، والفتية يضربونهم بالحجارة فيظهرون تارة ويختفون أخرى. إنهم هناك تحته، وهو فوقهم، شعر بالقوة وهو يمد يده إلى الحجارة يخرجها من جيبه ويرشقها صوبهم ثم يختبئ.

لاح العصر وجهاد على السطح وحيداً، دون طعامٍ أو شراب، والدبابات بدأت تعود أدراجها، فنزل بهدوء، حتى إذا ما وصل إلى الزقاق، سمع صوت والده الذي بدا عليه الإعياء. كان يبحثُ طوال النهار عنه مع جيرانه. أخذه بين ذراعيه وأدخله إلى البيت ليجد والدته وبالقرب منها لفافة، وهي تمسح دموعها وتمد يدها لتأخذ جهاد وتحضنه، وجدَّته تمسح على شعره، الجميع قلقون عليه. وقف بهدوء وهم يسألونه عن مكان تواجده، وأجاب: منعتُ الإسرائيليين من تأخير الطائر الذي أتى لنا بالطفل؟! هل هو صبي أم...! نظر إلى وجهها، كانت تغفو كالملاك، لا تهتم بصوت السلاسل أو الرصاص... لن يسرق اليهود أحلام الصغار المحمولة في مناقير عصافير الغد...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع