الشيخ أكرم دياب
* الظروف والوقائع:
بعد أن استقر حال المسلمين في المدينة وباتت التهديدات تحيط بهم من كل صوب، عمل النبي صلى الله عليه وآله على رص صفوف المسلمين وتجهيزهم وتهيئتهم للظروف الصعبة. وبدأ صلى الله عليه وآله بالتخطيط لمواجهة هذا الخطر من خلال مجموعة من الإجراءات التي تؤمن سبل الدفاع عن بيضة الإسلام وتحصين الداخل من أي اختراق. ولأجل ذلك، وضع صلى الله عليه وآله جل همه في وضع خطط الجهوزية والطوارئ على جميع المستويات العسكرية والاقتصادية والمعنوية.. ومنه تُعلم الأسباب التي لأجلها عمل صلى الله عليه وآله على رصد القافلة الكبيرة التي تحمل جل رأس مال العدو، وأمر أصحابه وأتباعه بالتهيؤ لتوجيه ضربة اقتصادية كبرى من خلال مصادرة أمواله (أي العدو)، التي هي جزء من معركة استرجاع الحقوق، التي كان قد اغتصبها من المسلمين عندما هاجروا من مكة نحو المدينة، والتي من جملتها:
1 - إضعاف جبهة الشرك من خلال ضرب أحد أركان قوته (القوة الاقتصادية لقريش).
2 - استرجاعه الحقوق المسلوبة.
3 - تقوية شوكة المسلمين في مواجهة الآلام والمحن المعيشية.
4 - إتخاذ عنصر المبادرة والمفاجأة لمقابلة أذى قريش، التي لم تنفك عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه طيلة الثلاثة عشر عاماً التي سبقت الهجرة، وهو صلى الله عليه وآله يعلم أن قريشاً لن تسكت عنه وعن دعوته بمجرد هجرته.
* النصر الساحق:
وأخيراً، اشتعلت نار الحرب ، فالتقى أبطال الإسلام بجيش الشرك والكفر، ووقف حمزة عم النبي وعلي ابن عم النبي، الذي كان أصغر المقاتلين سناً وجهاً لوجه مع صناديد قريش، وقتلا من بارزهما، فانهار ما تبقى من معنويات العدو، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة، وكان قد أمر بقتل أصحاب النبي من أهل المدينة "الأنصار" وأن يؤسر المهاجرون من أهل مكة. فقال النبي لأصحابه: "غضوا أبصاركم وعضوا على نوابذكم ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم". ثم مد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى الدعاء، ورفع بهما نحو السماء، فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة لم تُعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد..." فهبت ريح عاصفة على العدو. وكان المسلمون يحملون على عدوهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا للقتال، حتى قتلوا منهم سبعين "وأبو جهل من القتلى" وأسروا سبعين، وانهزم الجمع وولوا الدبر، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر قليل. وكانت هذه المعركة أول مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوهم من قريش، وانتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوهم (راجع تفسير الأمثل، ج5، ص 366-371).
* نتائج المعركة المظفرة:
1 - لقد كانت بدر الكبرى معركة الفتح الإسلامي الأول المؤثر في إعادة رسم الخارطة السياسية للجزيرة العربية.
2 - تم وعد الله الصادق بالنصر والمدد الغيبي.
3 - قويت شوكة المسلمين وارتفعت الروح المعنوية للمجاهدين.
4 - قدمت هذه المعركة نموذجاً آخر للانتصار، موازينه العملية تختلف عن المعهود والمتعارف، حيث إن النصر كان حليف الفئة القلية في مواجهة فئة كثيرة ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
5 - أرست هذه المعركة ثوابت وأسساً جديدة في التخطيط والتنظيم الجهادي، لجهة تقسيم الجيش إلى سرايا، وبث عيون الاستطلاع، ومعرفة ما يضمره العدو، واستخدام أساليب وتكتيكات حربية أدخلت المجاهدين الأوائل في نوع جديد من أنواع القتال، الذي يعتمد على العلم والمعرفة والبصيرة النافذة. ولم يكن الانتصار في هذه المعركة محض صدفة أو اتكال مطلق على الباري جل وعلا، بل كان انتصاراً يعتمد على التجهيز والتدريب وتأمين العناصر اللازمة والمعدة مسبقاً لمثل هذه المواجهة الحاسمة. وعندما التحمت هذه العناصر بأيدي المجاهدين البواسل الذين امتلأت قلوبهم حباً لله وأخلصوا له، تولدت هذه القوة الهائلة وألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (آل عمران: 12 13). وهكذا تحققت النبوءة الإلهية، ومنَّ اللهُ على هذه الأمة بنصر إلهي، ولتكون هذه المعركة عبرةً للأجيال اللاحقة..
* بدر... والوعد الصادق:
وليس بعيداً عن تلك الظروف التي عاشتها الأمة حينها، شاءت الإرادة الإلهية أن تظهر للناس في واقعنا الحالي والمعاصر تحققاً لهذا المعنى على أيدي المجاهدين الأبطال من المقاومة الإسلامية، حيث تشابهت الوقائع وتشابكت الأيدي على مواجهة هذه الثلة القليلة المجاهدة، وأمام عدو مستكبر ومتغطرس يشابه أبا جهل بإصراره على ضرب هذه الفئة المؤمنة تميز:
1 - بامتلاك العتاد الهائل من السلاح (الطائرات والدبابات).
2 - بحشد كل ما يستطيع من الجند والمقاتلين للمواجهة.
3 - بأنه أعطي الأمان والغطاء من كل مستكبري عصره.
استطاع مجاهدو المقاومة الإسلامية بما تميزوا به من:
1- إرادة صلبة وإيمان راسخ بالله جل جلاله.
2 - معرفتهم بالأسباب الحقيقية للنصر الإلهي الذي رأوه في بدر الكبرى.
3 - اتكالهم على الله، وتأمين كل الوسائل اللازمة، والبقاء على الجهوزية لمثل هذه المواجهة العظيمة.
4 - الثبات في مواقع الجهاد والمواجهة بقلوب مطمئنة.
استطاعوا أن يكبدوا العدو خسارة فادحة قل نظيرها في واقعنا المعاصر، مؤكدين النموذج البدري في تحقيق الانتصارات الحاسمة.. لا شك أن يد الغيب قد امتدت لتعلن أمام الملأ صدقهم كما صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِين﴾ (الأنفال: 17 18).