لقاء مع سماحة الشيخ خير الدين شريف
حوار: السيّد محمّد السيّد موسى
للسيّدة زينب عليها السلام مكانة خاصّة في قلوب المجاهدين، الذين زحفوا مقدّمين أرواحهم فداءً لها، فملأوا الساحات كالسدّ المنيع، وراحوا يحمون مقامها بعيون ساهرة لم ترضَ النوم، وقبضات مرفوعة بشموخٍ تنادي: "لن تُسبى زينب مرّتين". حول هذه العلاقة الخاصّة، يحدّثنا سماحة الشيخ خير الدين شريف، وهو أحد علماء الدين المبلّغين المواكبين للمجاهدين في أرض المعركة.
•ماذا تمثّل السيّدة زينب عليها السلام في وجدان المجاهدين؟
لطالما كانت السيّدة زينب عليها السلام ذات مكانة في قلوب المجاهدين، ومقامها هو الذي دعاهم ليتوجّهوا نحو الميادين للدفاع عنها. والمسألة هنا عقائديّة، فحين يقدّم الشباب أرواحهم، فإنّما يقدّمونها في سبيل الله أوّلاً، ودفاعاً عن مقام السيّدة زينب عليها السلام وحرمتها التي هي حرمةٌ لرسول الله وذوداً عن شرفه صلى الله عليه وآله وسلم، ثانياً. فالسيّدة زينب عليها السلام كانت تناديهم وتستصرخهم وتستنصرهم، فتسابقوا إلى الميدان، وكأنّ كربلاء أخرى قد تجسّدت.
•ما هي أكثر الأمور التي أثّرت بكم خلال وجودكم مع المجاهدين؟
أكثر الأمور التي أثّرت بي شخصياً روحيّة هؤلاء الشهداء والشباب والمجاهدين، وتهافتهم على الميدان، فهم كانوا يتسابقون إليه لينالوا شرف الشهادة. ومن الأمور التي أثّرت بي أيضاً ذاك العشق والحبّ اللذين كنت أراهما في وجوه هؤلاء الشباب عند ذكر أهل البيت عليهم السلام.
•كيف تتجلّى قيم ومبادئ عاشوراء عند المجاهدين في أرض المعركة؟
تجلّت العقيدة والقيم والمبادئ في سلوك المجاهدين ومواقفهم؛ فالمجاهد ينزل إلى الميدان ولسانه يلهج بـ"لبّيكِ يا زينب" و"لبّيكَ يا أبا عبد الله"، وعندما يُصاب ويسقط أرضاً، ويطلب من المسعف أن يبلّل له شفتيه الذابلتين، تدمع عيناه فجأةً، ويقول: "أنا لم أستطع تحمّل العطش للحظات، فكيف بالإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه؟".
والمجاهدون يتحلّون بشجاعة لا نظير لها، هذه الشجاعة المستمدّة من التوكّل على الله سبحانه وتعالى أوّلاً، والارتباط بأهل البيت عليهم السلام والقضيّة ثانياً، بحيث يخوضون أعتى المعارك وأشدّها، وينتصرون فيها.
•ماذا يمثّل هؤلاء المجاهدون بالنسبة إلى الشباب؟
كيف لا يكون ذاك المجاهد قدوةً، وهو يقول لأمه عندما تطلب منه أن لا يذهب إلى الميدان قبل أن يرجع أخوه من هناك: "لنفترض أنّني لم أذهب، ونال التكفيريّون من مقام السيّدة زينب عليها السلام، عندها كيف سأخاطب أمير المؤمنين عليه السلام؟ ماذا سأقول له عندما يسألني: هل دافعتَ عن ابنتي؟ ابنتي هذه أمانة عندكم".
•عن قصص العشق ومجاورة العقيلة، هل لديكم ذكريات خاصّة مع المجاهدين تشاركونها قرّاء المجلة؟
هي كثيرة، أذكر منها:
- "أبو تراب" والوله الزينبيّ
سأحدّثكم عن قصّة الشهيد علي شبيب محمود "أبو تراب"، وهو من الإخوة الأوائل الذين ذهبوا للدفاع عن مقام السيّدة زينب عليها السلام. ومعرفتي به منذ كان في عمر الثانية عشرة تقريباً، حين انتقلت عائلته إلى منطقة السيّدة زينب عليها السلام، بعد أن تهجّروا من قريتهم (لبّايا) جرّاء اجتياح العدوّ الإسرائيليّ للبنان. وبما أنّ جدّه لأمّه خادم في المقام، فقد سكنوا في إحدى غرفه وعاشوا فيها، فتربّى الشهيد أبو تراب في أروقة مقام السيّدة زينب عليها السلام.
تعرّفتُ إلى عائلة الحاج أبو علي (عائلة الشهيد) خلال متابعة دراستي الحوزويّة في الشام، فتوطّدت العلاقة بيننا. كان الشهيد يأتي إلى بيتنا، وكان يأخذ ابني الطفل (3-4 سنوات) إلى الدكان ليشتري له، وبقيت العلاقة على هذا المنوال إلى أن كبر علي (أبو تراب) ولم أعد أراه، وانقطعت أخبار عائلته تماماً، كونها انتقلت إلى لبنان، وأنا بقيت في السيّدة زينب عليها السلام أتابع دراستي الحوزويّة إلى أن بدأت أحداث سوريا، والحمد لله حظيت بأن أكون ضمن الإخوة المبلّغين مع المجاهدين.
- "أبو تراب" قائداً
كنتُ دائماً أسمع الإخوة يتحدّثون عن أخٍ يدعى "أبو تراب"، كان قائد المنطقة العسكريّة في منطقة السيّدة زينب عليها السلام، إلى أن التقيته وتعرّفتُ به.
أصبحت لقاءاتي بـ"أبو تراب" كثيرة، كان كلّما يلتقي بي في المقام يُقبّلني. وقد فاجأني ذات مرّة حين هاتفني وقال: "أريدك أن تأتي إليّ الآن للضرورة". فذهبت إليه حيث مركز تجمّع الإخوة قبل الانطلاق إلى العمليّات. رأيت حوله نحو 300 مجاهد بكامل العتاد العسكريّ، وطلب منّي أن أتحدّث إليهم قبل انطلاقهم إلى مهمّة نوعيّة في الغوطة الشرقيّة. تحدّثت عن السيدة زينب عليها السلام: "وكأنّني بكم الآن تدافعون عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنّي بكم الآن تسمعون استغاثة الحسين عليه السلام واستغاثة السيّدة زينب عليها السلام". بعد أن أنهيت الكلام، ضمّني إلى صدره بحرارة. كنت إلى تلك اللحظة لا أعرف أنّ هذا الشاب هو نفسه (عليّ) الذي كان يزورنا، ويأخذ ابني ليشتري له. وبقينا على تواصل لسنوات، منذ 2011م تقريباً إلى 2015م، وتحديداً أواخر أيّام عاشوراء، حيث كنت في لبنان فوردني خبر بأنّ "أبو تراب" أُصيب وهو في المستشفى. وبينما كنت أهمّ بالذهاب إليه، هاتفني أحد المسؤولين قائلاً: "عليك أن تأتي إليّ مباشرة، أبو تراب استشهد".
حزنت كثيراً، لكن ما يعزّي هو الفخر به. كانت علامات الحزن والأسى بادية على وجوه الإخوة تكلّلها مهابة علامات الفخر والعزّة، فهو القائد والمحبوب من الجميع، ذلك الإنسان الترابيّ، المتواضع، الشجاع والبطل.
- لم يقل لي!
كانت وصيّته أن يبيت جثمانه في المقام، فبقيت قرب جثمانه أقرأ الدعاء، وأتلو القرآن حتّى الصباح، وإذ بأحد الإخوة يقول لي: "ها قد أتى والد الشهيد وعائلته". التفتُّ إلى الخلف لأراهم، انعقد لساني فجأةً؛ إنّه "أبو علي" صديقي القديم، وقف ماثلاً أمامي بعد انقطاعٍ طويل.. تنقّلت نظراتي بينه وبين الجثمان كالتائه، وبصعوبة سألته: "ماذا تفعل هنا؟"، فقال لي: "أنا والد عليّ (أبو تراب)"، قلت: "عن أيّ أبو تراب تتحدّث؟" قال: "الشهيد أمامك!". فقلت له: "أهذا عليّ؟ هو نفسه عليّ عزيزي الذي كان صغيراً؟"، دُهش وقال: "ألم يقل لك؟"، قلت له: "نحن نعمل معاً منذ نحو أربع سنوات، ولم يقلْ لي شيئاً!".
في تلك اللحظات، أجهشتُ بالبكاء، وضممتُ "أبو علي" إلى صدري. فكيف مضى هذا الوقت كلّه دون أن أعرف أنّه هو؟ لقد تغيّرت ملامحه كثيراً، كيف لم أستطع تمييزه؟! كان يعرفني لأنّه كان يناديني باسمي، ولكن لماذا لم يعرّفني بنفسه؟
تابع أبو علي: "هل بيَّض لي وجهي أم لا؟"، أجبته: "لم يبيّض لك وجهك فحسب، كان نموذجاً للتضحية والإباء، لقد كان يزور السيّدة زينب عليها السلام ويقول لها دائماً: يا عمّتي زينب، مولاتي، أنا إن شاء الله فداءٌ لك". عندما كان التكفيريّون يضربون القذائف حول المقام كان الشهيد يدخل المقام، يشدّ بيده على الضريح ويقول: "أنا أبو تراب، مسؤولٌ عن حمايتك وهؤلاء يقصفونك؟".
- رافع الراية
كانت وصيّة الشهيد أن يُدفن في السيّدة زينب عليها السلام، لكنّ السيّدة زوجته نقلت أنّها سألته: "أنت أوصيت بأن تُدفن إلى جوار العقيلة عليها السلام، لكن أولادك صغار، فكلّما اشتاقوا إليك سيصعب عليهم السفر إلى السيّدة زينب عليها السلام ليزوروك". فقال لها: "إذا استشهدت، استخيروا الله". وفعلاً كانت نتيجة الاستخارة أن يُدفن في لبنان.
إنّ الشهيد "أبو تراب" هو أوّل من رفع الراية على قبّة مقام السيّدة زينب عليها السلام، وكان العدوّ التكفيريّ على بُعد أمتار قليلة فقط منه، فقلت له: "يا حاج "أبو تراب"، أنت الآن مُعرّض للخطر"، فأجاب بثقة: "إنّ السيّدة زينب عليها السلام هي مَن تحمينا، ولسنا نحن مَن يحميها".
الفيديو ما زال موجوداً عند وضعه الراية، والقسم الذي أقسمه ما زال معتمداً إلى يومنا هذا.
قصص الجبهة في جوار العقيلة عليها السلام لا تنتهي، سأحدّثكم عن بعضها في لقاءٍ آخر.
دمشق السيدة زينب عليها السلام
عمار طه
2019-09-28 16:10:02
وفقكم الله مولانا لما يحب ويرضى... دعاؤكم