الشيخ كميل شحرور
عندما يُخلّد الزمان شخصيّات عظيمة، فذلك بسبب ما قدّموه من تفرّد وتميّز؛ لأنّ كلّ عظيم يكتب بسلوكه وعمله على صفحات الدهر سطراً سطراً، ليكون للأجيال قدوة. وممَّن كتب بريشة الصبر على جبين الزمن أحرف العزّة والإباء، وحوّل البلاء حلقات من الجمال في طريق رضى المحبوب، تلك المرأة الشامخة زينب الكبرى ابنة عليّ والزهراء عليهم السلام؛ فلا تعجبنَّ كثيراً، فقد غذّتها أمُّها سيّدة النساء، وتربَّت في حجر محمّد وعليّ خير البشر.
•ميلاد العقيلة
ولدت عليها السلام في الخامس من جمادى الأولى، على أشهر الأقوال(1). وأُخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فأتى إلى منزل ابنته فاطمة عليها السلام وقال: "يا بنيَّة ائتني بابنتك المولودة". فأخذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وضمّها إلى صدره الشريف ووضع خدّه على خدّها، فبكى بكاءً شديداً، وسالت دموعه على خدّيه، فقالت فاطمة عليها السلام: "ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينك يا أبتاه"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بنتاه، يا فاطمة، إنّ هذه البنت ستُبتلى ببلايا، وتَرِد عليها مصائب شتّى، ورزاياها أدهى. يا بضعتي ويا قرّة عيني، إنّ من بكى عليها وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها"(2)، ثمّ سمّاها زينب.
أمّا معنى كلمة "زينب"، فيذهب الفيروز آبادي إلى أن تكون مركّبة من كلمتين: "زين الأب"، أو أنّها اسم لشجر طيّب الرائحة، حسن المظهر كما في لسان العرب.
•زينب عليها السلام في عهدة الأطهار
من الثابت أنّ التنشئة والتربية في الصغر هما الأساس في بناء الشخصيّة، فماذا لو كان أبو الأمّة جمعاء جدَّها، وسيّد البطحاء ومجندل الفرسان ووارث النبيّ أباها، وسيّدة نساء العالمين بما خصّها الله من أنواره أو تجلّيات صفاته فاطمة الزهراء عليها السلام أمّها؟
فقد فتحت زينب عليها السلام عينيها في وجه أطهر أمّ على وجه الأرض، عاشت معها ليلها ونهارها، وشاهدت منها أنواع العبادة في عمقها، والزهد والإيثار في أجلى الصور. كما تجدر الإشارة إلى أنّ العقيلة عليها السلام عايشت أسوأ الظروف التي ابتُليت بها أمّها الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنّما تلك الظروف القاسية كانت تهيّئ العقيلة لأيّام أصعب وأدهى.
وعاشت عليها السلام مع أبيها أمير المؤمنين عليه السلام في بيت أَذِن الله أن يُرفع، يعلّمها من علمه، ويؤدّبها بأدبه، ويبنيها بيديه.
•زواج السيّدة زينب عليها السلام
لمّا بلغت العقيلة عليها السلام سنّ الزواج، خطبها ابن عمّها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام. وزُفّت العقيلة عليها السلام إلى بيت زوجها في أجواء ملؤها الحبّ والعاطفة.
•مَن هو عبد الله بن جعفر؟
هو ابن جعفر الذي لقّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الطيّار)، بعد أن قُطعت يداه في قتال الكافرين، فأخبر النبيّ الناس أنّ الله أبدله بهما جناحين في الجنّة يطير بهما حيثما شاء. ويذكر المؤرّخون أنّ عبد الله كان شخصيّة لامعة في عصره، فقد كان رابط الجأش، قويّاً، وشجاعاً.
وقد نال دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طفولته، كما يذكر ابن سعد في طبقاته، حينما نعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفراً إلى أهله، وممّا قاله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله ولأخيه: "اللهمّ، إنّ جعفراً قد قَدِم إلى أحسن الثواب، فأخلفه في ذريّته بأحسن ما خلّفت أحداً من عبادك في ذرّيّته"(3). ومع هذه الصفات كلّها والمكانة لعبد الله، لا يمكننا أن نشكّ في الأسباب التي منعت عبد الله من أن يشارك في كربلاء، إلّا أن تكون موانع قويّة وهو الذي أرسل أولادَه للشهادة، وهذا له مكانه للبحث.
•أولاد العقيلة
اختلف المؤرّخون في عدد أولاد السيّدة زينب عليها السلام، وأنا أنقل عن الطبرسيّ: عليّ وجعفر وعون الأكبر وأمّ كلثوم(4). وذكر ابن الجوزيّ أنّ أولادها هم: عليّ وعون ومحمّد وعبّاس وأمّ كلثوم(5). والمعلوم أنّ محمّداً وعوناً استشهدا مع خالهما الإمام الحسين عليه السلام.
•زينب عليها السلام أمّ المصائب
وكيف لا تكون كذلك، وقد رأت أمّها فاطمة عليها السلام مظلومة ومضطهدة، مكسوراً ضلعها، مسقَطاً جنينها، ثمّ رأت أباها أمير المؤمنين عليه السلام محمولاً ورأسه مشقوق نصفين، ثمّ رأت أخاها الحسن عليه السلام على فراش الشهادة يتقيّأ كبده المباركة، لتحملها الأيّام، وتكتمل فصول المصائب في أفجعها وأشدّها، لترى الأكبر والقاسم والعبّاس وأولادها والأصحاب أجساداً بلا رؤوس، ثمّ لترى المشهد الذي أبكى ملائكة السماء، وتمنّت العقيلة أن تكون عمياء ولا ترى جسد المولى أبي عبد الله عليه السلام تحت سنابك الخيل، والرأس على رأس القنا مرفوعاً، ثمّ لتُحمل أسيرة سبيّة ورؤوس حماتها موزّعة بين المحامل. وصدق الشاعر:
سلام على القلب الكبير وصبره بما قد جرت له الأدمع الحمر
فكانت مثالاً يُحتذى في الصبر وتحمّل المصيبة والبلاء.
•أهم ألقاب العقيلة زينب عليها السلام
العابدة، الفاضلة، العاقلة، الكاملة، الصابرة، الباكية، المحدثة، المخدّرة، الموثقة، الوحيدة، الغريبة، البليغة، الأسيرة، الشجاعة، المظلومة، أمينة الله، عقيلة حيدر، أمّ المصائب، عقيلة قريش، نائبة الزهراء، بطلة كربلاء، كعبة الرزايا، كعبة الأحزان، كافلة الأيتام، العقيلة الكبرى، وليّة الله العظمى، الصدّيقة الصغرى، الآمرة بالمعروف، عقيلة بني هاشم، أمّ المصائب، عقيلة قريش أو عقيلة بني هاشم أو عقيلة حيدر. ومعنى العقيلة هي المرأة المصون الكريمة العظيمة في شأنها ومقامها عند عشيرتها.
•"فَرِّق بينها وبين أهل المدينة"
كيف استطاعت تلك العظيمة أن تحمل ذلك الدور مع قلبها المتصدّع بتلك الأهوال؟!
لقد اهتزّ يزيد، واهتزّ العرش، وزُلزلت الأرض تحت أقدام بني أُميّة، ولكن ذلك لم يكن كافياً، فإنّ فاجعة الطفّ أعمق أثراً من ذلك، وإنّ الهدف منها أعظم وأخطر. لا بدّ أن تبقى وخزاً في ضمير المتقاعسين، ونوراً لدرب المجاهدين، وحبّاً للشهادة في نفوس المؤمنين.
فبعد أن نصبت زينب عليها السلام مجلس العزاء في الشام، عادت إلى المدينة ودخلتها هي والإمام زين العابدين عليهما السلام وسائر الأسارى بصورة مفجعة، فنصبت مجالس العزاء فيها أيضاً، وأخذت النساء يدخلن عليها وهي تصف لهنّ ما جرى عليهم، وتحرّض الناس على يزيد، حتّى كتب والي المدينة (عمرو بن سعد الأشدق) إلى يزيد يقول: "إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين". فكتب إليه (يزيد): "فرِّق بينها وبين أهل المدينة".
فطلب الوالي من السيّدة زينب عليها السلام مغادرة المدينة إلى أيّ جهةٍ شاءت، فأبت وتحدَّت أوامر يزيد قائلة: "قد علم -والله- ما صار إلينا، قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام، وحملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا"(6).
إلّا أنّ نسوة من الهاشميّات تلطّفن معها حتّى اقتنعت بالخروج من المدينة، وقيل إنّما خرجت بطلب من الإمام زين العابدين عليه السلام، ولعلّها عليها السلام رأت في الخروج من المدينة فائدةً للنهضة.
اختلف المؤرّخون في كيفيّة وفاتها، ومكان دفنها، ولكن أكثر ما اشتهر عندهم، أنّها بعدما أقامت العزاء على أخيها الحسين عليه السلام في المدينة، خاف يزيد أن يتحرّك الناس فنفاها إلى الشام، فمرضت وماتت ودُفنت هناك، أو أنّها عليها السلام ذهبت بتجارة مع زوجها وتُوفيت ودُفنت بالشام، وهناك رأي يقول إنّها دُفنت في مصر، واختلفوا أيضاً في المدّة التي عاشتها بعد شهادة أخيها الحسين عليه السلام، ولكنّ المشهور أنّها عليها السلام عاشت سنتين.
لقد حملت العقيلة معها بتلك المسيرة رأس الحسين العطشان، وكفَّي العبّاس، وجسد الأكبر، وجرح القاسم. أرادت أن يعلم العالم بما فعلته الطغمة الفاسدة ليحصل هدف الثورة وهو رفض الظلم. وقد أوصلت صوت الثورة إلى كلّ قلب، ليبقى النداء عبر التاريخ يتردّد ويسمعه العاشقون فيلبّونه "هيهات منّا الذلّة". إنّها بطلة كربلاء، وبجهادها انتصرت ثورة الحسين عليه السلام ووصل صداها.
فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث.
1.زينب الكبرى، جعفر النقدي، ص17.
2.الطراز المذهّب في أحوال سيّدتنا زينب.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج79، ص92.
4.إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسيّ، ج1، ص396.
5.تذكرة الخواص، ص175.
6.الصـدّيقة زيــنب عليها السلام شقيقة الحسين عليه السلام، المدرسي، ص89.