الشيخ تامر محمد حمزة
كتبت في جوانب شتى وأناملي لم تخادعني وقلمي لم يخاتلني حتى رحلت إلى بقعة لأكتب عن رجالها فطفقت حائراً ما الذي جرى لي؟ ولماذا تشتتت أفكاري وغدت روحي معلقة بعالم أنس حين أنار بصيرتي نور من وراء حجاب؟ فاستفقت على صرير قلمي وعلمت أنني كنت واقفاً على أعتابكم يا شهداء كربلاء.أسماء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله لقد جرى ذكركم على لسان الصادق الأمين وأخبر عنكم الذي لا ينطق عن الهوى. وإذا كان كل ما يقول هو وحي يوحى فأنتم إذاً ممن أوحى بكم الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وهو بدوره يخبرنا عنكم حيث يقول صلى الله عليه وآله: "وهو (أي الحسين) في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل. وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم" (1).
* أمير المؤمنين عليه السلام يطوف حول مصارعهم
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لما خرج أمير المؤمنين إلى حرب صفين فلم يزل سائراً حتى إذا كان قريباً من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين تقدم يسيراً أمام الناس حتى إذا صار بمصارع الشهداء طاف على فرسه في تلك البقعة وقد أرخى رجليه من الركاب وهو يقول: هنا والله مناخ ركاب ومصارع شهداء لا يسبقهم بالفضل من كان قبلهم ولا يلحقهم من كان بعدهم" (2).
* أحرف من نور
في عصر يوم التاسع من المحرم زحف عمر بن سعد لعنه الله مع جيشه نحو معسكر الإمام الحسين عليه السلام وهو جالس أمام خيمته متقلداً سيفه فقال له أبو الفضل عليه السلام: يا أخي أتاك القوم، فنهض الإمام عليه السلام وقال: يا عباس اركب، بنفسي أنت يا أخي، حتى تَلْقَاهم فتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم وتسألهم عما جاء بهم، فأخبروه بأن الأمر جاء من أميرهم يعرض عليهم إما النزول على حكمه أو المنازلة. ثم رجع أبو الفضل إلى أخيه الإمام يطلعه على قرارهم، فقال له الإمام عليه السلام: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنا العشيّ لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره وهو يعلم أنّي قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار (3). وقد حصل منهم على ما أراد. يقول الإمام السجاد عليه السلام: "عمد الإمام عليه السلام إلى جمع أصحابه وذلك عند قرب المساء فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء... أما بعد: فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجازاكم الله عني خيراً... ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً (4)، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله(5).
* آيات الوفاء الناطقة
إنّ آيات القرآن التي تتحدث عن الوفاء لو لم نجد لها أشخاصاً يكونون مصاديق لها لضلّت معانيها في عالم النظريات ولعجزنا عن تفسيرها أو تأويلها. ولكن بعد أن قرأنا صفحات من كربلاء أدركنا أن الآيات تقص وفاءهم وكأنها تقول لنا: أنا آيات الوفاء الصامتة وأولئك هم آيات الوفاء الناطقة. وهكذا كانوا حيث تطابقت أفعالهم مع أقوالهم ومواقفهم حيث أجابوا ونطقوا وتكلموا مع سيدهم كلمات صيغت أحرفها من نور، منها: ... ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك. ... ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. ... والله لو علمت أني أُقتل ثم أحيا ثم أُحرق حياً ثم أذر يُفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك. ... والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم أُقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك(6). ... أكلتني السباع حياً إن فارقتك (7) . ... والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا(8). هؤلاء وجدوا ضالتهم ألا وهي السعادة كل السعادة الكامنة في الدفاع والفداء والتمسك وعدم الفراق والتضحية بين يدي الإمام عليه السلام.
* وكشف الغطاء
بعد أن سمع الإمام عليه السلام كلامهم وقرأ صدق نياتهم، قال لهم: "إنكم تُقتلون غداً كلكم ولا يفلت منكم رجل". فقالوا: "الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك. أولا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله" (9)؟ وهنا فُتحت بصيرتهم وكُشف لهم الغطاء وأمسوا يتلذذون بما بين عالم الملكوت وبين معشوقهم الحسين في عالم الملك. إنها ليلة، وبحق، اعتصرت فيها كل ليالي القدر وانطوت على مكنونات لا تشبهها ليلة واحدة مذ خلق الله الزمان والمكان. ويدل عليه ما رواه الإمام السجاد عليه السلام: ثم دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه (10).
* فراشات تحوم حول معشوقها
ينقل بعض أرباب المقاتل كمقتل العوامل (11) ومقتل الخوارزمي (12) أن أصحاب الإمام عليه السلام كانوا إذا أرادوا القتال استأذنوا الإمام بقولهم: "السلام عليك يا ابن رسول الله وكان يجيبهم بقوله: وعليك السلام ونحن خلفك. ثم يتلو قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب : 23). وكلما سقط منهم جريح أو شهيد مشى لمصرعه أو مكانه الإمام عليه السلام. وتلك لحظة لا نظير لها حيث إنّ أرواحهم كانت تفيض بين يدي مولاهم الحسين ويتسلمها بارئها وهم على أنحاء وصور شتّى فهذا واضح التركي مولى الحرث المذحجي عندما استغاث بسيده الحسين عليه السلام أتاه واعتنقه فقال: "ومن مثلي وابن رسول الله صلى الله عليه وآله واضع خده على خدي"، ثم فاضت نفسه الطاهرة (13) وكذلك وقف على مصرع جون ودعا له بقوله: "اللهم بيّض وجهه وطيّب ريحه واحشره مع الأبرار وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله(14) وهكذا بالنسبة لأغلب الشهداء.
* شهداء خالدون
بدأت حياتهم الحقيقية بشهادتهم. فهم شيّدوا الصرح لمدرسة الوفاء والتضحية على مرّ التاريخ. قد جرى ذكرهم فرادى وجماعة على ألسنة أئمة الهدى من بعد الحسين عليه السلام وصولاً إلى خاتم الأوصياء الإمام الحجة ابن الحسن العسكري عجل الله فرجه. فلم تكتب أسماؤهم بماء الذهب وحسب بل كتبت بما لا يرقى إليه شيء ألا وهو الأنامل المباركة للأئمة الأطهار عليهم السلام كما جاء في الزيارتين المباركتين والمشهورتين بالرجبية والناحية ومما جاء في خاتمة الزيارة الثانية: "السلام عليكم يا خير أنصار.... أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء ومهَّد لكم الوطاء وأجزل لكم العطاء وكنتم عن الحق غير بطاء" (15).
(1) مستدرك سفينة البحار، الشاهرودي، ج 6، ص 185.
(2) المنتخب، الطريحي، ص 267.
(3) تاريخ الطبري، الطبري، ج 3، ص 317.
(4) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 91.
(5) تاريخ الطبري، م.س، ج 4، ص 318.
(6) الإرشاد، م. س، ج 2، ص 93.
(7) مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص 39.
(8) تاريخ الطبري، م. س، ج 4، ص 318.
(9) مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني، ج 4، ص 215.
(10) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 288.
(11) ص 85.
(12) ج 2، ص 25.
(13) إبصار العين في أنصار الحسين، الشيخ محمد السماوي، ص 85.
(14) مثير الأحزان، م.س، ص 63.
(15) بحار الأنوار، م. س، ج 45، ص 65.