الشيخ مصطفى قصير
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله: "مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ الْوَلَدُ الصَّالِحُ" (1). يحب الإنسان بدافع غريزي وفطري أن يُرزق بالأولاد، وأن يكون له ذرّية. فقد يجد في أولاده نوعاً من الامتداد له، فهم يرثون اسمه وماله، وأحياناً يرى فيهم عوناً له على حياته يوم عجزه، أو غير ذلك.. ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ (الكهف: 46). لكن الأهم أن يعرف الإنسان كيف يربي أبناءه، وكيف ينشئهم نشأةً صالحةً، ليكون في وجودهم خير الدنيا والآخرة، وليكونوا من أهل الصلاح في مجتمعاتهم وعشائرهم.
إنّ الأنبياء والأوصياء عليهم السلام لم يطلبوا من ربهم أن يرزقهم ذريّةً إرضاءً للنزعة الغريزيّة البشريّة، وإنما سألوا الله تعالى ذرّيةً طيبةً وأولاداً صالحين. فقد حكى الله سبحانه وتعالى عن نبيه زكريا عليه السلام في القرآن الكريم قائلاً: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ (آل عمران: 38). وقال في موضع آخر: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ (مريم: 6). وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام قَالَ فيما روي عنه: "وَاللهِ مَا سَأَلْتُ رَبِّي وَلَداً نَضِيرَ الْوَجْهِ وَلا وَلَداً حَسَنَ الْقَامَةِ وَلَكِنْ سَأَلْتُ رَبِّي وُلْداً مُطِيعِينَ للهِ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ مُطِيعٌ للهِ قَرَّتْ بِهِ عَيْنِي" (2). فلا ينبغي للمؤمن أن يكون اهتمامه في الحفاظ على صحّة أولاده وسلامتهم الجسدية، وحرصه على تأمين حاجاتهم المعيشيّة ومستلزمات راحتهم، أكبر من اهتمامه بصحتهم الروحيّة وسلامتهم الأخروية، وأشدّ من حرصه على إيمانهم وصلاحهم وتقواهم، لأن العمل على ضمان آخرتهم أولى من الاهتمام بسلامة دنياهم، "الدنيا دار ممرّ والآخرة دار مقرّ" (3) و"الدنيا مزرعة الآخرة" (4) كما ورد في المأثور عن أهل بيت العصمة والطهارة.
* الولد من ثمرات الأعمال
يقول أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً ولده الحسن عليه السلام: "وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني"(5). ليست العبرة هنا بالخصائص الجسديّة والشكليّة، فليس الإنسان مسؤولاً عن طول أولاده وقصرهم ولا عن لون بشرتهم وشعرهم ونضارة وجوههم أو عدمها، وإن كانت خصائصه الوراثية تشكّل منشأً لذلك من الناحية العلمية والطبيعية. فهذه أمور خلقية وراثية لا تقع غالباً في دائرة اختيار الأبوين ليتحكّموا بها في الجملة. ولذا ليس من الصواب أن يفتخر الوالدان بشيء من ذلك أو يلام أيّ منهما على عدم وسامة الوليد أو عدم امتلاكه القامة أو الطلعة أو ما شابه. ما يقع ضمن دائرة التكليف وضمن دائرة الاختيار هو الجانب المعرفي والسلوكي والأخلاقي الذي يتأتّى من خلال التعليم والتربية والتنشئة، مع التسليم بتعدد العوامل المؤثرة في تكوين الصورة النهائية للشخصيّة العلميّة والأخلاقيّة والسلوكيّة، إلاّ أنّ البيئة التربويّة الداخليّة اللّصيقة تبقى الأقوى والأكثر تأثيراً، وهي بيئة يمكن للأبوين اختيارها وتشكيلها بوعي وإرادة، والتحكّم بها، فعندئذ يصحّ أن يقال إنّ الأبوين يتحمّلان مسؤولية النتائج المترتّبة على الفعل التربوي والمنهجية المعتمدة واختيار العوامل المؤثرة والبيئة الملائمة أو غير الملائمة. وعلى هذا الأساس يمكن إدخال الأولاد وما ينتج عنهم من قول وفعل وموقف ضمن دائرة الأفعال العائدة للأبوين أو أحدهما بحسب نسبة التأثير، فينطبق على ذلك ما ورد من نصوص كثيرة في المضمون الآتي: عَنْ الإمام أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "مَنْ عَمِلَ بَابَ هُدىً كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ وَمَنْ عَمِلَ بَابَ ضَلالٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِم" (6).
ومع ذلك فقد ورد في خصوص الولد الصالح ولحوق الوالدين من الأجر الناتج عن عمل الخير الذي يقوم به الأولاد عدة نصوص نتناول بعضاً منها: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله: "إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(7). وعَنْ الإمام أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "لا يَتْبَعُ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلا ثَلاثُ خِصَالٍ: صَدَقَةٌ أَجْرَاهَا للهِ فِي حَيَاتِهِ فَهِيَ تَجْرِي لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَسُنَّةُ هُدىً سَنَّهَا فَهِيَ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ"(8). وعَنه عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله: "مَرَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام بِقَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ ثُمَّ مَرَّ بِهِ مِنْ قَابِلٍ فَإِذَا هُوَ لا يُعَذَّبُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَرَرْتُ بِهَذَا الْقَبْرِ عَامَ أَوَّلَ فَكَانَ يُعَذَّبُ وَمَرَرْتُ بِهِ الْعَامَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ يُعَذَّبُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَدْرَكَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ فَأَصْلَحَ طَرِيقاً وَآوَى يَتِيماً فَلِهَذَا غَفَرْتُ لَهُ بِمَا فَعَلَ ابْنُهُ"(9).
* الولد الصالح يشفع لوالديه
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله: "اعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ يَلْقَى سِقْطَهُ مُحْبَنْطِئاً عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ (مستبطئاً الدخول إليها) حَتَّى إِذَا رَآهُ أَخَذَهُ بِيَدِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ وَلَدَ أَحَدِكُمْ إِذَا مَاتَ أُجِرَ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ" (10). فإذا كان هذا حال السقط فكيف بالولد الصالح؟ فينبغي أن يكون كذلك من باب أولى، خاصةً إذا كان من أهل المنزلة كالشهيد الذي ورد أنّه من أهل الشفاعة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال:
"ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيُشفَّعون: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" (11).
* الولد الصالح يدعو لوالديه
عَنْ الإمام أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَبِي عليه السلام يَقُولُ: خَمْسُ دَعَوَاتٍ لا يُحْجَبْنَ عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: دَعْوَةُ الإِمَامِ الْمُقْسِطِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأَنْتَقِمَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ لِوَالِدَيْهِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ الصَّالِحِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ وَلَكَ مِثْلُهُ" (12). حاجة الوالد إلى دعاء خالصٍ من قلبٍ خاشعٍ يدعو له بالمغفرة والعفو بعد موته وانقطاعه عن الدنيا أشدّ وآكد من حاجته إلى ذلك في حال حياته، لأنّه في ذلك العالم ينقطع عن العمل ويدخل عالم الجزاء، لذا لا تبقى له سوى نافذة ما تركه من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو دعاء أهله ومحبيه، فهو ينتظر منهم المدد والدعاء الخالص والهدية التي يبعث إليه بثوابها من العبادات أو الصدقات أو أبواب البرّ، فإنها تنفعه في ذلك العالم وتخفِّف عنه.
وأخيراً.. يجب الإلفات إلى أن التربية الصالحة لا تتمّ إلا إذا عملنا على توفير شروطها ومستلزماتها. فالإسلام يحثّ على أن يلحظ القادم على الزواج في اختيار الشريك الشروط المساعدة على صلاح الولد؛ لأن الأسرة الحاضنة للطفل تكسبه الكثير من الأخلاق والصفات التي تنطبع بها شخصيته، ويحث أيضاً على اختيار البيئة الاجتماعية المناسبة التي تساعد على التربية السليمة، فهذا إبراهيم عليه السلام يهاجر بأهل بيته ويسكنهم في أرض مقطوعة معللاً ذلك: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37).
نحن نشاهد في عصرنا الحاضر حالات واسعة من الهجرة والتغرُّب في سبيل طلب الرزق والبحث عن حياة أكثر رفاهيّة وأمناً، ولكن قلّما نرى هجرةً بدافع البحث عن البيئة التربويّة الأنسب والآمن لضمان صلاح الأولاد وسلامة دينهم وآخرتهم، مع أن هذا هو الواجب وهو الذي ينبغي أن يُضحى من أجله بالمال والراحة والغالي والنفيس وليس العكس.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 3.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 24، ص 133.
(3) م. ن، ج 75، ص 67. عن أمير المؤمنين عليه السلام.
(4) عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 1، ص 267.
(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، ص 38.
(6) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج 16، ص 175، ح 9.
(7) بحار الأنوار، م. س، ج 2، ص 22.
(8) الكافي، م. س، ج 7، ص 56.
(9) م. ن، ج 6، ص 3.
(10) وسائل الشيعة، م. س، ج 21، ص 357، ح 13.
(11) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 156.
(12) وسائل الشيعة، م. س، ج 7، ص 116، ح 1.