لقد نام عماد مغنية شهيداً ملء ضميره وقد أدى جميع واجباته في الصلاة والصوم والحج
والزكاة.. ودائماً في الجهاد. ربح الشهيد الحاج عماد مغنية نفسه في جهاده الأكبر
وفي جهاده الأصغر. أما نحن، فقد خسرناه في موقع قيادته وفي إدارته لمهامه وفي
مهاراته الميدانية، وفي إبداعه للأفكار في المسائل الجهادية، وفي حزمه ومبادرته
ومبادأته وفي التزامه وانضباطه. ولكننا ربحناه رمزاً للقادة الجهاديين ومثلاً أعلى
لكل المناضلين الأحرار ضد الاحتلال والاستعمار والعنصرية والعدوانية والامبريالية.
لم يكن عماد مغنية قائداً في الميدان فحسب، كان قائداً في معركة الأخلاق الثورية
والإيثار، وكان حارساً في موقع الحراسة وعيناً في مواقع كمائن المجاهدين، وقائداً
قتالياً في إدارة العمليات.
عندما اتخذ عماد مغنية لنفسه اسماً آخر: الحاج رضوان،
كان قد قرر أن لا يترك ظلاً له، ولا بصمة إبهام، ولا بصمة عين أو بصمة صوت، ليس
خوفاً من الموت وهو كان منذ مطلع شبابه، حين سكن إلى الميتين وألقى ظهره على الطريق
الفاصل بين ثانوية بنت جبيل وجبانة البلدة، لا يبالي إذا وقع على الموت أو وقع
الموت عليه، وكذلك حين لبس اسم الحاج رضوان، لم يكن قلقاً من سلوك طريق جلجلته إلى
تحرير المنطقة الحدودية، ولا إلى خوض الحرب في صيف 2006، بل لأنه أراد لنا أن
نستريح إلى أسمائنا وهو يحرسنا من الأعداء ومن "صيبة" أسلحتهم وعيونهم، وأن نستريح
إلى وجوهنا ونحن نرتدي تعبنا ونومنا وأحلامنا وهو يسهر ولا ينام. وهكذا، ومنذ أن
التقيته قبل واحد وثلاثين عاماً وهو عماد، وقد فاتني أن أودعه وهو الحاج رضوان وأنا
أمسك بأطراف كلماته القليلة القوية الاستشهادية الواعدة. ولكن ما لن يفوتني، هو
أنني شأني شأن كل الذين ينتمون إلى البطولة وليس إلى الكارثة سأبقي الحاج عماداً
علنياً وصريحاً وواضح الحضور في القلب وفي العقل أنموذجاً لهذه الأمة التي لن ترجع
ولو صبت النار على رأسها.
الآن إذاً ينام عماد مغنية شهيداً ملء ضميره وملء عينيه. يخلد إلى الراحة الأبدية
في جنان الخلد، حيث يسير فخوراً بنفسه بأنه من رجال الله، شديد البأس مثلهم مضيئاً
جميلاً، تغرد في شجرتي عينيه العصافير وهما تحملان التين والزيتون والبلد الأمين.
الآن عندما يستيقظ عماد مغنية الشهيد في صباحات عالمه المزدهر بالحق، يتطلع من
مارون الراس وعيترون إلى فلسطين، إلى ذلك المشهد الذي يمتد من قمم الجليل وبياراته،
إلى مرج بني عامر وطبرية، ويتطلع إلى أننا سوف لا نتراجع عن دماء الشيخ أحمد ياسين،
وأبي علي مصطفى، وخليل الوزير.. ودماء العامليين القادة الشيخ راغب حرب، ومحمد سعد،
وزهير شحادة، والأخضر العربي، ودماء السيد عباس وهي تتدفق من نبع الشهادة إلى مجرى
نهر النجيع الذي سيستمر يسقي الأرض حتى تحرير كل ذرة تراب من دنس الاحتلال الصهيوني
البغيض، وحتى تستعيد السواعد المؤمنة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك. الآن
تزدهر في عينيّ دمعة حب على أيام زمان، يوم كنا نغادر صف المقاومة في ثانوية بنت
جبيل في فرصة الصباح أو استراحة الغداء، ونذهب سوياً لنتمشى في بنت جبيل البريئة
القديمة، حيث تسكن الحجارة التي قدت من الصخر الصلب، وحيث الشبابيك المرفوعة على
دائرة الهلاك، وحيث البوابات العالية لقامات الكبار. الآن أمسك بيدك ونحن نعبر (الزاقوق)
وندق الباب على (أم ياسين) لنشرب (كباية شاي). ثم، ها نحن الآن ننزل من (حاكورة نص
الضيعة) إلى (الساحة القديمة)، ثم إلى (البستان)، ثم نسلك الطريق وكأننا وجع الماء
إلى بركة البلدة. الآن، ها أنت لا تغادرني في بنت جبيل، أستيقظ عليك وأنت تحرس
طريقي إلى الشهادة التي اشتهيتها كي أنام ملء ضميري، وكي أسكن إليك في جنان الخلد
شهيداً وأخاً إلى أبد الآبدين.
(*) أمين عام الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني.