هل فكر أحد منا أنه قد يضطر يوماً ما لربط أحد أبنائه
بحبلٍ إلى حديد النافذة أو عمود البيت كما يفعل بحيوان ما؟! على قدر ما يبدو هذا
السؤال مؤذياً وقد فكرت ألاّ أبدأ موضوعي بهذه القسوة إلا أن ما سمعناه وما لم
نستطع أن نراه أقسى مما تقدم بكثير.
* بداية سعيدة ولكن..:
القصة بدأت مع "أبي كامل سرور" منذ ما يزيد على نصف قرن، حين اقترن بابنة خالته.
على التوالي رزقه الله بصبي وبنت، كامل وصباح. كانت حالتهما طبيعية، حتى أنهما دخلا
المدرسة، ولكن مع بلوغهما سن السادسة والسابعة بدأ الانقلاب الكبير، أصبح الطفلان
في حالة غير سوية، تصرفاتهما غير متزنة، تعبر عن جنون واضح. عرضهما أبو كامل
بمساعدة إخوته على عدد من الأطباء. ويوضح شقيقه الأستاذ علي (مدير الثانوية لسنين
عديدة) أنهم لم يتركوا مشفى أو مركزاً متخصصاً إلا قصدوه وكل الآراء الطبية أجمعت
على وجود مرض عقلي، لا أمل في الشفاء منه.
* والمأساة تكبرُ:
في العام 1970 ، تعرضت عيتا الشعب لقصف مدمر على يد القوات الإسرائيلية وهاجرَ
الكثير من أهلها باتجاه العاصمة وضواحيها. كان أبو كامل قد رزق بأولاد جدد لم يكن
حالهم أفضل من السابقَين، فما إن يبلغ الأولاد سن السابعة أو السادسة حتى يقعوا
فريسة هذا المرض الخطير الذي يفتك بعقولهم، فلا يعودون يستوعبون شيئاً ويميلون إلى
التخريب وتكسير كل ما يحيط بهم. والسبب الأساسي في هذا الأمر ودائماً على ذمة
الأطباء - هو القرابة التي تجمع الوالدين، إذ تبين أن هناك أسباباً وراثية تقف وراء
هذا المرض. ولكن المأساة الأكبر بالنسبة لأبي كامل تمثلت في موت عدد من أطفاله في
المراكز التي أودعوا فيها. ويرد الأستاذ الأسباب إلى غياب العناية الطبية الحقيقية،
وإلى أن الأولاد كانوا حين يُخرجونهم إلى الملاعب للّعب والتعرض لأشعة الشمس يضربون
بعضهم بعضاً. وهو أيضاً لا يستبعد فرضية أن "القيمين كانوا يعطون هؤلاء الأولاد بعض
الأدوية التي تصب في دائرة الموت الرحيم، حتى أن القيمين على بعض هذه المراكز كانوا
يطلبون منا المسارعة إلى أخذ الأولاد لأنهم لا يتحملون تصرفاتهم ولا يستطيعون ضبطهم".
* أحلاهما مرّ:
أشفق أبو كامل على أطفاله، وامتنع عن إرسالهم إلى أي من هذه المراكز الصحية أو
المستشفيات أو المصحّات، وفضّل أن يبقيهم إلى جانبه في المنزل مهما كلفه الأمر "إشفاقاً
عليهم من الموت"، فهم رغم كل شيء أبناؤه وهو أولى بالعناية بهم. وأبو كامل رجل فقير
ومزارع بسيط، يعتمد في معيشته على زراعة التبغ من خلال الرخصة التي يملكها، ولذا
فهو لم يكن يملك أية إمكانيات لعلاج أطفاله المصابين أو إرسالهم إلى الخارج أو
إيداعهم مراكز متخصصة، علّهم يلقون العناية التي يحتاجونها إن لم يكن هناك من علاج.
وكانت المنطقة حينها تعاني من إهمال وحرمان كبيرين. لم يتغير الوضع كثيراً حالياً
على أية حال، فعيتا الشعب التي لم يبقَ فيها حجر على حجر في عدوان تموز 2006، ما
زالت طريقها، خصوصاً من جهة بنت جبيل، تنهشها الحفر والأخاديد، كأنها لم تعرف الزفت
يوماً. وعلمت "بقية الله" أن بعض الجهات التي تكفّلت بإعادة إعمار البلدة تراجعت عن
تعبيد طرقاتها لأسباب غير معروفة، وحالياً هناك وعد من الهيئة الإيرانية الناشطة في
المنطقة بتعبيدها. ولأنه لا يستطيع ترك أولاده، ولا طاقة له للتنقل بهم، فلم يغادر
أبو كامل عيتا الشعب إلا في الأيام الأخيرة للحرب، حين اضطر إلى النزوح إلى رميش
المجاورة، حتى أنه لم يُنصف في التعويضات التي قُدمت للبلدة جراء تدمير المنازل،
ولم يُنظر إلى وضعه المأساوي على أنه حالة خاصة تستحق عناية خاصة.
* معاناة لا تنتهي:
12 ولداً، كان حظ أبي كامل من الدنيا. لم تقر عيناه إلا بابنتين سليميتن وفي صحة
جيدة، وقد تزوجتا وأنجبتا وأولادهما بخير. ولولا صبره وجلده لما كان تحمّل كل هذه
المعاناة. ولكن لماذا الاستمرار في الإنجاب؟! وألم ينصحه المحيطون به بالامتناع
والحال هكذا؟ يؤكد أبو منير أن الجميع حاول معه، ولكن أبا كامل كان يحدوه الأمل بأن
ينجب ولو ولداً واحداً سليماً. توفي آخر أولاده العام الماضي عن 35 عاماً، وبقي
لديه ولد واحد فقط تجاوز الخامسة والأربعين من العمر. وأبو كامل الذي تخطى الثمانين،
يرعاه ويتولى الاهتمام به بمساعدة ابنتيه طبعاً - وهو بحسب أبي منير يحنو على
أولاده كثيراً ويحبهم بشكل كبير، حتى أنه لا ينام إلا وابنه إلى جانبه. ولكن مع
تدهور صحته في المدة الأخيرة، خصوصاً بعد وفاة زوجته وهي عائدة من زيارة العتبات
المقدسة في إيران، في العام 1991، فإنه لم يعد يحتمل تصرفاته، أو بالأحرى لم يعد
لديه طاقة على ذلك، وهو منذ مدة أصيب ببعض الرضوض والجروح، جراء ضربة تلقاها من
ابنه المريض، ما أدخله إلى المستشفى أياماً عدة. وبأسى يتحدث أبو منير عن استنجاد
أبي كامل به وبأولاده كي يريحوه من ابنه، لأنه لم يعد لديه القدرة على الاعتناء به،
وهو الذي كان يرفض إرسال أولاده إلى المراكز الداخلية كي لا يتعرضوا للأذى أو
يصيبهم مكروه نتيجة سوء المعاملة أو الإهمال.
* مركز للعناية بالمعوقين:
وتشاء الأقدار، أن تكون عيتا التي شهدت هذه المأساة، منطلقاً لأول مركز في المنطقة
للعناية بالمعوقين عقليًا. وبدل أن يظل هذا الأمر مصدر هم وغم لذوي المعوق، أصبح
فسحة لاكتشاف المواهب الكامنة في دواخل هؤلاء الأشخاص، فحمل اسم مدرسة الإبداع التي
نظمت في الأسابيع الأخيرة معرضاً لمنتوجات طلابها "المميزين"، حوى الكثير من
الأعمال الحرفية الإبداعية التي تعبّر عن الطاقة الخلاّقة التي خصّ الله تعالى بها
هؤلاء الفتيان والشباب.
* صدفة أم مأساة؟
وتكشف مسؤولة المدرسة دعد إسماعيل أنها ولجت هذا العالم عن طريق مشتركة بين الصدفة
والمأساة، إذ إنها ابتليت بولدها الأكبر حسين المصاب بتخلف عقلي، وكانت تعاني
الأمرّين لكي تقصد المراكز المتخصصة بعلاجه، وخلال فترة الاحتلال كان يصعب عليها
الأمر أكثر فأكثر، لا بل يستحيل أحياناً نتيجة إغلاق المعابر إلى المناطق المحررة.
وعن طريق شقيقها "د. حسين" الذي يحمل ابنها اسمه هو أصم وأبكم وبحد ذاته قصة نجاح
وإبداع - تعرفت إلى الأب أندويخ الوافد إلى لبنان منذ عشرات السنين والناشط في مجال
رعاية المعوقين. عرض الأب الهولندي عليها فكرة إنشاء مركز لرعاية المعوقين،
فتلقفتها بسرعة، وجعلت منزلها نقطة البداية. وعن تجربة شقيقها حسين، تروي دعد كم
تعذب هذا الشخص لكي يحصل على البريفيه في لبنان، ومن ثم سافر إلى الخارج وتابع
تحصيله العلمي حتى بلغ مرحلة الدكتوراه. لذا، فهي تؤمن بقدرات هؤلاء المعوقين
الهائلة. وهكذا، موّل الأب أندويخ المدرسة وتولت هي إدارتها، وتلقّت دعماً رغم
الإمكانات المحدودة من وزارة الشؤون الاجتماعية، ومن اليونيفل ومن عشرات المؤسسات
والجمعيات المحلية والعربية والأجنبية التي تحمست للمشروع، ولمست الأثر الإنساني
الذي تركه على سير حياة عشرات المعوقين. ولكن طريقها لم تكن معبدة بالورود، خصوصاً
وأنها اختارت عيتا الشعب مقراً لعمل المؤسسة، في ظل احتلال العدو الإسرائيلي،
وسيطرة عملائه على مفاصل الحياة في تلك المنطقة الحدودية لعشرات السنين. وقد تعرضت
هي ومؤسستها للتضييق والتنكيل، نتيجة عدم طلبها لأية مساعدة منهم بصفتهم قوى الأمر
الواقع. حتى أنهم هددوها بالاعتقال وزجها في سجن الخيام. وكذلك، فإن مهمتها العملية
لم تكن سهلة، فبعد أن كانت مسؤولة عن معوق واحد هو ابنها، أصبحت معنية بالعشرات من
المعوقين، بين سن الثلاثة أعوام والسبعة والعشرين عاماً، وهي السن التي تستقبل فيها
المؤسسة المعوقين. ولكنها مع الوقت أحبت العمل "أساساً لا يمكن أن ينجح المرء في
عمل ما، إن لم يكن يحبه" كما تقول. وفي عمل من هذا النوع "حساس ودقيق" يجب أن "يحب
العاملون فيه الأولاد ويعملوا على خلق البهجة والسرور في نفوسهم".
* عالم المعوقين كل عالمها:
راكمت دعد خبرة كبيرة في مجال رعاية المعوقين، وخضعت للعديد من الدورات الإدارية
والاختصاصية وشاركت في عشرات الورش التدريبية والتأهيلية والمؤتمرات في لبنان
وخارجه. أصبح عالم المعوقين كل عالمها، يعينها على ذلك تعاون أسري واضح، إذ إنها
وهبت الأرض والمبنى للمعوقين، وانضم إلى فريق العمل المتخصص في المؤسسة اثنتان من
بناتها اختارتا أن تتخصصا في مجالات يتطلبها هذا العمل، علوم اجتماعية وتقويم النطق.
وتستقبل المؤسسة حالات صعبة تبدأ بالصم والبكم، ولا تنتهي بالتوحد والشلل الدماغي.
وهي تسعى بشكل أساسي لتأهيل هذه الحالات، فالمركز تأهيلي وليس رعائياً، كما تشدد
اسماعيل، وجهوده منصبة على تطوير قدرات ومهارات هؤلاء الشباب الذين يملكون منها
الكثير، وفي مجالات شتى، أعمال حرفية، نجارة، ميكانيك، حلاقة. ويبقى الاستحقاق
الأهم بنظرها هو "الدمج الاجتماعي المهني لهم"، أي أن يجدوا لهم بين الناس رواجاً
وتشجيعاً لمنتجاتهم، وقبل كل شيء بناء الثقة بالنفس في داخل كل منهم، لا سيما وأن
المجتمع غير مهيأ للتعامل مع الحالات الخاصة، لأنها تتطلب رعاية خاصة، وتُقابل هذه
الحالات دائماً إما بالإهمال والتقصير، وإما بالسخرية والاستهزاء "المجتمع يصنع
المجنون" تقول دعد متأسفة للمعاملة التي يلقاها المعوقون، حتى من أقرب المقربين. من
هنا، فإن جهد القيمين على المركز ينصب على الشخصية، والعمل على دمج المعاق في
المجتمع من خلال تنظيم نشاطات مشتركة مع طلاب أصحّاء من مدارس متعددة، وكذلك من
خلال المعارض الحرفية التي ينظمها لعرض منتجاتهم، والسعي لتشجيع المجتمع على
احتضانهم كأشخاص منتجين وفعالين في محيطهم، وبإمكانهم الاتكال على أنفسهم وتأسيس
كيان مستقل لكل منهم. وبالاطلاع على هذه التجربة الرائدة، فإن الحسرة تبقى لدى أبي
منير لأن أولاد شقيقه، لم تتوافر لهم الرعاية اللازمة، فكان مصيرهم مأساوياً، في
نفس الوقت جاءت تجربة دعد إسماعيل لتفتح كوة في هذا الجدار السميك من الإهمال
والحرمان الذي تعانيه المنطقة منذ عشرات السنين، وكأن الدولة لا تعترف بانتمائها
لسيادتها، سوى في جباية الضرائب. وليس المجال هنا للحديث عن وضع الكهرباء والمياه
والخدمات. باختصار كما يقول كثيرون هنا "نعيش من قلة الموت. وندفع ضريبة احتضان
المقاومة جوعاً وعطشاً وحرماناً".