تحقيق: نقاء شيت
ثلاث ساعات كانت المسافة الفاصلة بين بيروت وبلدتَي "حوش السيّد عليّ" و"القصر" في
شمال الهرمل البقاعيّة، والشوق يملؤنا للتعرّف على تلك المناطق عند الحدود السوريّة،
علّنا نقاسي بعض ما قاساه أهلها ومجاهدوها على مدار سبع سنوات من الحرب السورية.
كانت الرحلة صعبةً عليّ وأنا في السيارة، فكيف بالمجاهدين المرابطين في تلك المنطقة؟
كيف تمكّنوا من اجتياز جرودها وجبالها وهضابها سيراً على الأقدام، وربّما زحفاً في
بعض الحالات، على الرغم من قسوة التضاريس وتقلّبات الطقس المتطرّف فيها؟
* "حوش السيّد عليّ"
1- قبل الحرب: جيرة وتعايش
في بلدة الحوش، حدّثَنا إمام البلدة السيّد محمد طالب رضويّ عن البلدة وتاريخها
خلال الحرب السوريّة، قائلاً: "قبل الحرب كانت البلدة تتعايش مع بلدات الداخل
السوريّ بألفة ومحبّة، وكان التعاون سائداً بين أهلها، وكانوا يتشاركون الأفراح
والأتراح، إلّا أنّ الأمر تغيّر بين ليلة وضحاها؛ ودون أن يدري أحدٌ انقلبت كلّ
الموازين، وتمكّنت ألسنة الفتنة من السيطرة على عقول وتفكير ساكني تلك البلدات،
حتّى وصل بهم الأمر للتفكير في القتل والسرقة والاعتداء على أهالي بلدتنا والبلدات
المجاورة لها، والسبب تأييد أهالي هذه المناطق المنتمين إلى مختلف المذاهب، للنظام
السوري". وبعد ذلك "كان أهالي البلدة يبعثون المراسيل للداخل السوري، محترمين حقّ
الجيرة، محاولين الحفاظ على سنوات خلت من الودّ العميق بين المنطقتين، إلّا أنّهم
لم يجدوا لرسائلهم آذاناً صاغية، بل كان الاعتداء بازدياد دائم، حتّى وصل حدّ
التهديد بالاجتياح وخطف المواطنين، تحت حملة "بدنا نتغدّى ع العاصي"، في محاولة
للإشارة إلى أنّهم سيحتلّون بلدات "الحوش" وجوارها وصولاً إلى نهر العاصي، إلى أن
وصل الأمر لضرب القذائف والصواريخ وخطف أحد المواطنين من بلدة "زيتا" المجاورة
لبلدة "الحوش".
2- الأهالي يدافعون
ويضيف: "أمّا عاما 2013-2014م، فقد كانا الأصعب على البلدة، حيث اشتدّت وتيرة
التهديدات والقصف، إلى أن أتت توجيهات المقاومة للبلدات الحدودية بالدفاع عن النفس
وردّ الاعتداءات عن الأهالي في "الحوش" والجوار بشتّى الطرق". حينها -وبحسب الأخ "كربلا"،
أحد القياديّين في المنطقة- تعاوَن الأهالي في الدفاع عن بلدتهم، فتسلّم كلّ رجل
وشاب سلاحاً يدافع به عن بيته وعائلته. ولاحقًا بدأ تدريبهم على كيفيّة الدفاع
والمواجهة، حتّى تمَّ تشكيل لجان أهليّة للدفاع عن النفس. واستمرّ الدفاع نحو سنة
ونصف، إلى أن تطوّرت الأحداث، وجاء القرار بالحسم العسكريّ، فدخل رجال المقاومة إلى
تلك المناطق، وسيطروا على المناطق الحدودية الأولى وفي المرحلة الثانية وصلوا إلى
جسر الدفّ، إلى أن تمَّ الإطباق على بلدة القصير من جهات الغرب، الجنوب والشرق، ثمّ
التحضير لمعركتها المشهورة وتمّت السيطرة على القصير كاملة في غضون 18 يوماً".
ويختم "كربلا": "إنّ بلدتنا كانت خط إمداد المقاومة من ذخيرة ومؤنة وغيرها إلى
الداخل السوريّ، إلى أن فُتح خطّ إمداد ثانٍ من بلدة "القصر" في المرحلة الثانية".
* القصر تصمد أمام 30 صاروخاً يوميّاً
انتقلنا إلى بلدة "القصر"، وهناك التقينا الأخ "أبو حسن"، أحد المجاهدين الذين
عايشوا تلك الحرب بكلّ تفاصيلها ومعاركها الحاسمة، فقال لنا: "في بداية الأزمة، كما
في بلدة "الحوش"، لم يكن ثمّة قرار بالتدخّل المباشر، بل شُكّلت لجان أهليّة للدفاع
عن النفس، وتناوَب الأهالي على حماية البلدة، إلى أن تمكّنت المقاومة من أن تهيّئ
البلدة وأهلها للدفاع التامّ عن نفسها. وبعد ازدياد وتيرة الاعتداءات على أهالي
ريفَي حمص الجنوبي والغربي وريف القصير والمناطق الحدودية اللبنانية، جاء القرار من
المقاومة بالتدخّل المباشر في سوريا لحماية المواطنين، الذين يحمل معظمهم الجنسية
اللبنانيّة". ويذكر "أبو حسن" أنّ بلدة "القصر"، في تلك المرحلة، كانت تتعرّض للقصف
بنحو 30 صاروخاً في اليوم، ولكن، لله الحمد، معظمها كان يقع في مناطق خالية من
السكّان. وبعدها تطوّر القرار لتحرير ريف القصير وصولاً إلى تحرير القصير وباقي
المناطق في سوريا. وهنا، بدأ يظهر جليّاً -بحسب "أبو حسن"- المخطط التكفيريّ الرامي
إلى اجتياح لبنان وسوريا، وظهر واضحاً الانعكاس السلبيّ لسقوط القصير (معقل إمارة
التكفيريّين) على الجماعات الإرهابيّة في سوريا؛ لما حملته هذه المنطقة من أهميّة
على الصعيد العسكري لهم.
ويعود "أبو حسن" ليؤكّد على نخوة أهالي "القصر" في الحرب السورية باستقبال
المجاهدين من شتّى أنحاء لبنان وتجهيزهم للدخول إلى سوريا، على الرغم ممّا تتعرّض
له البلدة من قصف وتهديدات. كما قدّمت البلدة أبناءها ورجالها للدفاع تحت راية
المقاومة.
* في حضرتهم: أثمرت دماؤهم نصراً مبيناً
عند الحديث عن أيّ حرب أو نصر إلهيّ، لا بدّ من أن يقترن ذلك بالحديث عن الشهداء
الذين بذلوا دماءهم في هذه الطريق. من هنا، كان لمجلّة "بقيّة الله" لقاء مع أهالي
4 شهداء من أصل 6 قدّمتهم بلدتا الحوش والقصر في الحرب السوريّة.
1- الشهيد القائد الحاج حسين علي مدلج
تُحدثنا زوجة الشهيد عن خواصّ الشهيد ومميّزاته الفريدة؛
كزوجٍ أولاً، ومن ثمّ كأب، فإنسانٍ فاعل في المجتمع. "كان غير شكل" تقولها بين نظرة
شوقٍ ورمقة عينٍ لصورة الشهيد أمامها على الطاولة. وتكمل: "كان هو الزوج المساعد في
كلّ الأمور، وصديق أولاده ورفاقه. كانت العلاقة أعمق من مجرد أبوّة، وأكثر من صداقة.
كان الشهيد عَماد البيت، وبفقده خسرت العائلة الكثير".
وأمّا عن أولاده، فتقول: "لم يكن الأمر سهلاً على أولاده الثلاثة الشباب، الذين
كانوا مع والدهم في معركته الأخيرة، وكان أصغرهم "أحمد" إلى جانب والده حين
استشهاده. أمّا الأخوان الآخران فكانا متقدّمَين عليهما في الصفوف الأماميّة. كيف
حال من يرى والده يسقط أمام عينيه شهيداً في وسط المعركة! ربّما كان الوقع الأكبر
على الابنة الوحيدة "فاطمة"، فهي كانت عزيزة أبيها؛ أخّرت زواجها سنتين بعد حادث
الاستشهاد؛ "كان عَزَا مش عرس، الحاج مش معنا"، تقولها زوجة الشهيد بغصّة الحرقة
وألم الاشتياق، وتسبقها الدموع دون أن تتمكّن من تهدئتها، وتسود لحظات صمت في
استذكار الواقعة. استشهد الحاج في معركة القصير في 25 أيّار 2013م. وعندما زارت
العائلة موقع الاستشهاد، كان اللقاء مليئاً بمشاعر الفخر والاعتزاز بما أثمره دم
الشهيد ورفاقه في هذه الأرض؛ "أخدت حفنة من تراب الأرض المجبولة بدم الشهيد حطّيتها
عندي بالبيت".
2- شهداء في عمر الورد
شهداء في عمر الورد، تسترجع بهم وبحديث الأهل عنهم، أبطال كربلاء وفتيةً قضوا حينها
بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام:
- الشهيد قاسم مشيك
"قاسم"، ابن بلدة القصر أيضاً، ارتفع شهيداً في معارك "رأس المعرّى"، وأُسر جثمانه
الطاهر نحو أربع سنوات. تلقّى شقيقه الأصغر (وهو أيضاً في صفوف المقاومة) اتصالاً
من جبهة النصرة يخبرونه فيه أنّ الشهيد لديهم، طالبين منه مبلغاً ماليّاً لتسليم
الجثمان. تواصل شقيق الشهيد مع القيادة في المقاومة، وتمّ تأكيد خبر الشهادة والأسر،
وظلت المفاوضات قائمة إلى أن تمَّ استرجاع الجثمان الطاهر في شهر رمضان المنصرم.
"قاسم" هو من اهتمّ بتربية إخوته منذ الصغر، وأنبتهم على حبّ أهل البيت عليهم
السلام وتعاليم الدين الإسلامي، وكان كثيراً ما يقدّم المساعدات للفقراء والمساكين
بما تيسّر.
- الشهيد سليمان جعفر
"سليمان"، ابن بلدة القصر، اختار بكامل إرادته هذه الطريق. خلال معركة الزبداني،
كان سليمان محاصراً مع رفاقه المجاهدين أثناء مواجهة التكفيريّين. حينها، طلب منه
أحد الأصدقاء البقاء في المركز لتأمين الحماية لهم، فرفض سليمان ذلك وأصرّ أن يكون
في صفوف المواجهة ويبقى صديقه لحماية المركز، وكانت تلك اللحظات هي الأخيرة له،
فارتقى بعد دقائق قليلة شهيداً أثمرت دماؤه نصراً عزيزاً في الزبداني.
على صغر سنّه، كان هدف سليمان دائماً مساعدة أهله ماديّاً وتحسين أمورهم المعيشيّة،
وتوفير الراحة لهم. كان ولداً بارّاً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.
- الشهيد عبّاس خير الدين
كانت مهمّة "عبّاس" فتح البوابة التي هي معبر الدخول من "الحوش" إلى الأراضي
السوريّة، وكانت بالقرب من منزل الشهيد. في تلك الأثناء كان والده يخضع لدورة
عسكرية، وتمّ إحضاره إلى المنزل، وفي طريق عودته، عرف أنّ ابنه ارتقى شهيداً. كان
في حال التصبّر والحمد لله، فـ"عباس" هو من أصرّ على المضيّ في هذا النهج على الرغم
من صغر سنّه.
* لحظات النصر المؤرخة
هذه الدماء الزكيّة، أثمرت نصراً عزيزاً، تلقّاه الأهالي بكل فرح وفخر وسرور. كانت
المشاهد في البلدات البقاعية أشبه بمشاهد تحرير عام 2000م في الجنوب، كما يقول الأخ
"كربلا"؛ النساء تنثر الورد والأرز على المجاهدين، وأعراس النصر قائمة في كلّ مكان.
فرحة النصر -بحسب "أبو حسن"- لا يمكن أن يغيب عنها بريق الدموع في أعين المجاهدين
وأهل الشهداء، فالذكريات التي لا تُنتسى تحضر بقوّة في هذه اللحظات. ففقدان من
أثمرت دماؤهم هذه الفرحة كبيرٌ جدّاً.
يطول بنا الكلام، ولا شيء يستطيع اختصار سبع سنوات من الجهاد والنصر والتضحيات،
وتبقى كلمات المجاهدين هناك رنّانةٌ في آذاننا: "مستمرّون على نهج الحسين عليه
السلام، ونرفض أن تُسبى العقيلة زينب عليها السلام مرّتين".