تحقيق: زهراء عودي شكر
خمس سنواتٍ ونصف مضت على نصر القصير، ولا يزال صداها،
وأزيز رصاصها، وأهازيج انتصارها تصدح في الأجواء. من الصعب أن تنسى مثل تلك المعركة
التي كانت بمثابة المدماك الأوّل للتحرير الثاني، بعد الغوطة ومحيط منطقة مقام
السيدة زينب عليها السلام.
* ضخامة المعركة وجهوزيّتها
إنّها المعركة الأصعب والأهمّ، حيث مهّدت لوضع نطاق أمان للقرى اللبنانيّة عبر
اقتلاع الإرهابيين، كما أمّنت المدن السورية الرئيسة.
وصف الإعلاميّ في تلفزيون المنار محمّد قازان أجواء القصير قبيل اقتحامها بقوله: "كان
المشهد مهيباً هذه المرّة. نحن لسنا برفقة مقاومة تصدّ هجوماً، بل كان جيش المقاومة
هو في موقع الهجوم، كلّ شيء يوحي أن هناك شيئاً تغيّر، الدبابات، الطائرات، المدافع
الثقيلة، الوحدات القتالية الخاصّة، مخازن الأسلحة، الدعم، الجرّافات، المستشفى
الحربيّ، غرفة العمليّات، إنّه جيش حزب الله مدعوماً بالجيش السوري". ولعلّ هذا
الوصف يعكس ضخامة المعركة وجهوزيّتها إلى أقصى حدّ.
* ليلة ما قبل الهجوم
كان ليل ما قبل الهجوم على القصير استثنائيّاً: جهوزيّة عالية في صفوف المجاهدين،
ثبات، عزيمة ومعنويّات. هكذا كان رجال الله هناك، كلٌّ يؤدّي دوره من موقعه، وأصوات
صلواتهم ودعواتهم ومناجاتهم علت إلى السماء. لم يكن للنوم وقتٌ لديهم، ولا للراحة
سبيل. استغلّوا كلّ لحظة في التقرّب إلى الله وتسابقوا في طلب الشهادة.
* فجر التاسع عشر من أيّار
انبلج فجر التاسع عشر من أيّار 2013م، فأذّن الرصاص منادياً: أنْ حيّ على الجهاد،
فاعتلى المجاهدون صهوة القتال ببأسٍ كبير وهتافات حيدريّة وحسينيّة وزينبيّة،
وأطلقوا العنان لسلاحهم وخاضوا المعركة، معيرين جماجمهم لله، وسطّروا أروع ملاحم
البطولة على مدى 18 يوماً، كانت كفيلةً بتحرير المدينة والقضاء على أعداد كبيرة من
الإرهابيين بمختلف فصائلهم التكفيرية، فسجّلوا نصراً جديداً في سجلّ الانتصارات،
راهن الكثيرون على مدى إمكانية تحقيقه.
معركة القصير بحجمها العسكريّ الضخم، واتّساع رقعتها القتالية، وطول مدّتها نسبيّاً،
وتحصينات وأنفاق إرهابيّيها المدعّمة، كلّها كانت بحاجة إلى سيلٍ من الدماء الزاكية
ليسطع نور الانتصار، فارتقى في هذه المعركة عددٌ من الشهداء إلى جنان الخلد.
* همسات في رحاب الشهادة
1- الشهيد جسور إسماعيل "تراب علي":
عزفت الشهادة ألحانها وهمست قصائدها في أذن الشاب جسور إسماعيل، فهبّ كالريح
العاتية ململماً أغراضه الضروريّة ليمضي إلى القصير حيث النداء والفداء.
تقول والدة الشهيد: "لم يتوانَ "جسور" يوماً عن أيّ مهمّة أُوكلت إليه، فشهامته
وبأسه وإيمانه العميق كانت الدافع له للمضيّ في طريق الجهاد مهما كان شائكاً. لم
تكن تغرّه الحياة، فجلّ همّه كان رضى الله، فتراه يسارع للقيام بالواجبات
والمستحبّات ومساعدة الناس وأداء حقوقهم".
وبغصّة تكمل الوالدة حديثها: "من ميزات الشهيد إخلاصه الكبير لعمله، وكتمانه لكلّ
صغيرة وكبيرة فيه، ووصلت تبعات ذلك إلى أنْ أخفى عنّي جراحه التي أصيب بها أكثر من
مرة في محيط مقام السيّدة زينب عليها السلام. والغريب أنّ صمته ذاك كان يُكسَر
عندما يحدّثني عن الشهادة ومواساة أهل البيت عليهم السلام والسيّدة الزهراء عليها
السلام، وكأنّه كان يمهّد لشهادته، ولطالما كان يردّد على مسامعي (يا ليتنا كنّا
معكم فنفوز فوزاً عظيماً)، ويؤكّد على ضرورة قرن القول بالفعل حتّى نحظى بالفوز".
* قبيل الاستشهاد
ويأخذ أم الشهيد "جسور" الحديث إلى مرحلة ما قبل الاستشهاد وجلساتها معه، "خلال
حديثنا في إحدى المرات طلب منّي أن نتبادل المسامحة، ولمّا سألته عن مناسبة ذلك قال:
(لا ندري متى يأخذ الله أمانته منّا). إنّه كان على يقين من أنّه ماضٍ إلى الشهادة
لا محال. كلّ شيء فيه كان يوحي بذلك، تصرّفاته، عبادته، وداعه.. حيث لم يودّعني في
تلك المرّة ملوّحاً لي بيده كالمعتاد وناظراً إليّ حتّى أغيب عنه، إنّما غادرني دون
أن يرمقني بنظرة، وآخر كلامه لي (لا تخافي، لا تخافي، والله ما جاييكِ إلّا شهيد).
ولا أنسى وجهه في تلك اللحظات كيف كان مشعّاً كالبدر يُلتمس النور منه".
في 19 أيّار عام 2013م، ارتفع "جسور" شهيداً إلى السماء وبقي جثمانه 56 يوماً في
القصير، إلى أن عاد إلى أحضان الوالدة والوطن.
وحكاية الشهيد "تراب عليّ" لم تنتهِ مع استشهاده، بل أُلحقت بمجموعة أجزاء بطوليّة
صاغها رفاق دربه ووضعوها بين يدي الوالدة التي قالت: "للقصير صورة في خيالي رسمتها
حكايا رفاق "جسور" في كلّ زيارةٍ لهم إليّ، حيث كانوا يحدّثونني عن بأسه وبطولاته
وصموده.. كيف حملت يداه شهداء وجرحى وسحبتهم إلى منطقة الأمان، وكيف خلّصت مجاهداً
من أيادي التكفيريّين، إلى أن ارتفع في آخر المطاف في سُوح القتال شهيداً عطشانَ
وهو ينادي: (يا زهراء)".
2- الشهيد حسن فيصل شكر (السيّد ساجد):
لم تمضِ ساعات على بداية المعركة حتّى ارتفع حسن فيصل شكر شهيداً في الميدان، بعد
أن غدرت به إحدى رصاصات القنّاصة، مشرعاً صدره للشهادة والبسمة تملأ ثغره، رامياً
حطام الحياة وراءه، ومضى إلى حيث كان يرنو دائماً. في تلك اللحظات، خفق قلب الوالدة
وانتابها شعورٌ غريبٌ بالقلق، فأهدت لسلامة "ساجد" سيلاً من الصلوات، كانت كفيلة
لتقرّ بها عيناه وتهدأ نفسها.
"مع يقيني من أنّ ابني سيعود إليّ يوماً ما شهيداً، إلّا أنّي لم أكن متوقّعة أنّها
ستكون تلك المرّة، فلا شيء كان يوحي بذلك، غادرني كالمعتاد دون إنباءٍ بالرحيل
الأبديّ، رمقني بنظرةٍ ومشى". تحكي والدته وهي ترقب تلك النافذة التي أطلّت عليه
منها.
يقول السيّد فيصل شكر (والد الشهيد): "السلوك والأخلاق والتديّن والتعاطي الاجتماعي
للشهيد، كلّها كانت تميّزه عن أقرانه في العائلة. كان الأشجع والأكثر التزاماً
والأهدأ، كلّ شيءٍ فيه كان يقول إنّه ماضٍ للشهادة. فقيامه بواجباته الدينيّة
ومواظبته على صلاة الليل وزيارة عاشوراء...، وكذلك مثابرته على التدرّب بشتّى الطرق
لتطوير مهاراته القتاليّة، كلّها كانت كفيلة بشقّ طريق النور ولقاء الله".
وفي ما يخصّ مرحلة ما قبل الشهادة مباشرةً، فيصفها السيّد فيصل بأنّها "كانت
طبيعيّة جدّاً، حتّى إنّ الشهيد "حسن" قبيل استشهاده تعرّض لأكثر من حادث وإصابة
خلال اشتباكات الغوطة ومنطقة السيّدة زينب عليها السلام، لم يفصح عنها لولا الصدفة،
وذلك من خلال ثيابه الممزّقة والمحروقة مرّة، واختلال مشيته مرة أخرى.
ربّما كتمان الشهيد حسن نابع من سرّيّة عمله، حيث جعله يخفي ملامح الشهادة والوداع
الأخير عنّا، في حين لاحظ كلّ من التقاه ليلة ما قبل المعركة ويومها إشراقة الشهادة
على مُحيّاه؛ إذ كان وجهه يتلألأ كالقمر، وجفناه لم يطبقا لحظة؛ تارةً من التجهّز
للمعركة، وطوراً من العبادة، أدّى ليلتها صلاة الليل قبل وقتها بقليل؛ خوفاً من
ضياعها عليه عند التحرّك، عندها راح الشباب يمازحونه (مين قدّك يا سيّد ساجد، والله
إنّك شهيد ومكتّر). وفعلاً ارتفع حسن صباح الأحد الموافق 19 أيّار شهيداً متأسّياً
بعطش الحسين عليه السلام، حيث أراد الاحتفاظ بالماء لإخوته المجاهدين؛ وآثر
الاستشهاد عطشاً كسيّد الشهداء عليه السلام".
بعد معركة القصير، زار أهالي معظم الشهداء المنطقة ومن ضمنهم السيّد فيصل، حيث عكس
مشاعره ومشاهداته قائلاً: "زيارة القصير ولّدت داخل كلّ من كان، بالتأكيد، شعوراً
ملؤه الفخر والعزّة والقوة وحتى الطمأنينة النفسيّة؛ لأنّ أبناءنا كانوا رجالاً بحقّ،
أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم. فمعاينة كلّ بقعة وشجرة ومنزل ودشمة ونفق كانت
تعكس فداحة وضراوة المعركة. كانت حرباً أشبه بحرب العصابات، وأتصوّر أنّها من أصعب
الحروب التي يتحاشاها قادة كبار الجيوش، ومع ذلك خاضها رجال حزب الله، وأفنوا
تكفيرييها، ورفعوا رايات النصر على أطرافها، فلهم كلّ التقدير والشكر شهداء كانوا
أو جرحى أو مجاهدين".
* شهادة حيّة
يقول أحد المجاهدين ممّن شارك في القصير: "دخل المقاومون القصير والنصر مكتوب على
جباههم، كانوا مسلّمين بسقوط شهداء إلّا أنّهم كانوا على يقين من أنّهم لن يعودوا
إلّا والنصر حليفهم. فقد كانت معنويّاتهم مرتفعة؛ نتيجة رسوخ إيمانهم وإخلاصهم، حتى
إنّهم كانوا يتسابقون لخوض الاشتباكات في الصفوف الأمامية".
إذاً، القصير كانت مفتاح الحرب السوريّة، كانت بحاجة إلى جحافل من الجيوش لتحرّرها،
ولكن استطاع ثلّة من الفرسان البواسل كسر شوكة التكفيريّين وشقّ طريق التحرير. لقد
رأى الله إخلاصهم وإيمانهم وتوكّلهم عليه فأخذ بأيديهم وأهداهم النصر.