(لقاء مع قائد ميدانيّ)
حوار: أروى الجمّال
قدّم أبو جعفر نفسه أنّه أحد "المنتظرين الممهّدين لدولة صاحب الطلعة الرشيدة، صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف". هكذا عبّر في بداية حديثه عندما سألته عن تجربته في تحرير القصير عام 2013م: هل الداخل إلى بلدة القصير أثناء المعارك مفقود والخارج مولود؟ استفزّته هذه العبارة، فردّ مصحِّحاً زاوية رؤية المعركة: "القصير، كان الداخل إليها عارجاً إلى المعشوق، والخارج منها مدّخراً للمهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف". كم كانت الجملة مختصرة وعميقة!
* لا تلهيهم تجارة
أخذ أبو جعفر يروي لمجلّة بقيّة الله لحظة استدعائه: "عندما وردني اتّصال لاستدعائي إلى المعركة، كنت أنتظر اتّصالاً مرتبطاً بتجارتي التي تُشكّل مهنتي الأساس. لم يكن اتصالاً لتصفية تجارة دنيونيّة، إنّما كان اتصالاً من نوعٍ آخر. تركت التجارة التي أنتظر خبراً عنها، والتحقت بالركب لأكون أول الوافدين إلى سُوح العشق الإلهيّ. ودّعت أهلي بنظرات صامتة وكأنّها المرة الأخيرة. ويا لها من لحظات صعبة، إلّا أنّها لم تصعب على تلبية نداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام".
* رحلة العشق الإلهيّ
إلى رحلة العشق الإلهيّ انطلقنا، وكانت الساعة السابعة صباحاً. كان لا بدّ لي كقائد ميدانيّ أن أكون أوّل الوافدين؛ لأنتظر أصحاب الوجوه النيّرة الذين ما غابوا عنّي حتّى الآن بابتساماتهم الصادقة، ولا سيّما ابتسامة توكُّل "عليّ". فالأخ عليّ كان أكثرهم انتظاراً لأجمل ساعات الأنس في ساعة الانتظار للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* وجوهٌ مستبشرة
خمس ساعات إلى نقطة اللقاء. كانت وجوه الإخوة ضاحكة مستبشرة. هم فتية لم يأبهوا لضجيج الحياة، لا بل كان لهم على تلك الطريق أملٌ بلقاء معشوق أوحد.. هكذا كان حديث عليّ إسماعيل(1) الذي كان ينتظر هذا اللّقاء: "مش راجعين يا شباب، كلنا رح نستشهد بين إيدين أبي عبد الله عليه السلام". تذكَّرنا تلك الكلمات أنا وعليّ أثناء العودة من النصر، فقال لي ضاحكاً: "لا بدّ من رحلة عشق أخرى أكون أول الوافدين إلى المعشوق الأوحد". نعم، هكذا كان، فقد ارتقى شهيداً فيما بعد. إنّه الشهيد علي إسماعيل.
* وبدأت رحلة العشق
ها قد وصلنا إلى محطّتنا الأولى، فالتقينا مسؤول السريّة، حيث أخبرنا بقساوة المعركة وأنّها تتطلّب تضحياتٍ كبرى، وأنّنا ربّما نعود إلى قرانا شهداء أو جرحى، ولكن حتماً سنعود منتصرين.
كرّار.. ذو الفقار.. كربلا.. أبو زينب.. كنّا نناديهم بأسمائهم العسكريّة للتأكّد من جهوزيّتهم الروحيّة والنفسيّة واللوجستيّة.
إنّها معركة وجود. كانت من أقسى المعارك في سوريا وأهمها؛ عسكريّاً واستراتيجيّاً وعقديّاً، فقد كانت كلمة الفصل مع هذا العدوّ الجديد في تلك المرحلة. فنحن اعتدنا مواجهة "العدوّ الإسرائيليّ"، وقد دحرناه مذلولاً بشعار "هيهات منّا الذلّة"، ولكن هذه المرّة كانت مع عدوٍّ جديد، تلبيةً لنداء أبي عبد الله عليه السلام أيضاً، رافعين شعار "لن تسبى زينب مرّتين". في تلك المعركة لم نترك العدوّ التكفيريّ يستبيح قرانا ويذبح رجالنا، وكان لا بدّ من أن يعلم أنّنا الرجال الرجال، وأنّنا تركنا العيال والأهل والخلّان طرّاً في هوى المعشوق الأوحد، حاملين راية أبي عبد الله عليه السلام، ناصرين صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، قائلين للعالم إنّنا حيث يجب أن نكون سنكون.
تلك الكلمات، أفاضها علينا قائد لفصيل مؤلّف من ٣٣ شابّاً، يعلو جباههم نور العشق الإلهيّ، وانطلقنا.
* اللهمّ أرني الطلعة الرشيدة
كان الفجر محطّةً لتجديد الولاية، فكنّا نستهلّه يوميّاً بدعاء العهد ليكون تحيّةً وتجديداً للبيعة لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. يومها كنّا على طريق الوصول إلى مشارف قرية القصير، وكان الفجر ما زال بنوره الورديّ، فاستعنت بنور الولّاعة لأقرأ كلمات تجديد العهد: "فأخرجني من قبري، مؤتزراً كفني، شاهراً سيفي، مجرّداً قناتي، ملبّياً دعوة الداعي". وبنداء: "اللهم أرني الطلعة الرشيدة"، كنّا ننطلق بعزم وبأس.
* الداخل إلى المعشوق والخارج إلى موعود
في السابعة صباحاً، دقّ النفير، فكانت لحظات البداية: قصف تمهيديّ، وبعدها دخول سـريّــة الاستشهـاديّيـــن لتمهيــد الطريــق. رأيت ساجد الشحور (الشهيد محمّد خليل)، يرتقي شهيداً ولم أعلم أنّه صديقي الحميم إلّا حين عودتي من المعركة، وبعدها احتدم النزال. كنّا نلاحقهم من منزل إلى منزل، ومن حيّ إلى حيّ. تسعة عشر يوماً، وشهيد تلو الشهيد، وجرحى أوفياء، يقاتلون بعزم وإرادة وعقيدة راسخة.
هناك كلّ شيء مختلف. كان الحاج أبو علي مهدي -قائد سريّة الشهيد أبي عليّ سلّوم(2) واستشهد فيما بعد في حلب-، يطمئنّ على الجميع كالأب الحنون. كنّا نتقاسم الطعام والماء فيما بيننا، وكان الإيثار بين الإخوة في تلك اللّحظات في أوجه؛ فكان الأخ يتخلّى عن طعامه أو شرابه للآخر؛ نتيجة النقص الحاصل، وأذكر يومها تقاسمنا تفاحتين نحن السبعة، وكان لطعمهما لذّة المشاركة الروحيّة فيما بيننا.
* أخلاق العشّاق
بينما كنّا نطهّر البيوت من التكفيريّين، وصلنا إلى منزل بدا لنا للوهلة الاولى أنّه خالٍ، لكن تناهى إلى مسامعنا صوت بكاء فتاة (13 سنة)، وجدناها ترتجف في حضن والدتها التي تتوسّل فزعةً: "أرجوكم لا تذبحونا"، ظنّاً منها أنّنا كأبنائها الثلاثة التكفيريّين، ولكن سرعان ما تبدّدت الصورة، حين رأتني أعطي ابنتها العطشى قارورة الماء الوحيدة التي كانت لدينا، والتي كان من المفترض أن تكفينا مدّة ٤٨ ساعة، سنمضيها دون ماء. لم أتردّد أبداً في تلك الخطوة، وأنا أتذكّر دمعة أبي عبد الله الحسين عليه السلام على أعدائه.
* صور وذكريات
في تلك اللحظة، لاحت لي صورة ابنتي "نور الزهراء" (8 سنوات) وهي تودّعني. لقد كانت الأقرب إلى قلبي، وهي روحي وقطعةٌ منّي، نصف ساعة كفيلة بالوداع، وكأنّي أرى سيّدي أبا عبد الله عليه السلام يضعها في حجره مواسياً لها كابنة مسلم بن عقيل، كان ذلك حافزاً كافياً لأنطلق مطمئناً.
* القصير معركة وجود
"لو لم نقاتل في القصير والقلمون لوصلوا إلى بيروت والساحل". تلك كانت كلمات سماحة السيد نصر الله (حفظه الله)، التي شكّلت الدافع القويّ لنا في المعارك كلّها، وفي هذه المعركة تحديداً.
19 أيار 2013م، لحظة احتدام نزال الوجود. القصير الداخل إليها فاز بالجنة، والخارج منها مدّخر للتمهيد لدولة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
لقد عشنا العطش والصمود والإرادة بظروف مناخيّة قاسية؛ من حرٍّ شديدٍ وعطشٍ ونقصٍ في الماء والطعام ولحظاتٍ قاسية، ومعارك ضارية، ولكن الكلمة كانت: "ما تركناك يا حسين".
* طريق العودة
أثناء العودة، بدأت تلوح في مخيّلتي وجوه الشهداء النورانيّة، وأنا أنظر إلى الخلف في الباص لأرى أن أبا علي زعيتر(3) لم يعد معنا، بل أكمل طريقه نحو معشوقه، وارتقى شهيداً. كنّا عشرة، وعدنا خمسة سالمين، وأربعة جرحى واسَوا أبا الفضل، وشهيداً، وكلّنا نقول للموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف: "إنّنا على العهد باقون".
* إنّها الرابعة عصراً
لقد وصلتُ إلى بلدتي، وها هو الباص يقف أمام محطة جديدة وجولة جديدة من الانتصارات، وها هي نور الزهراء تحتضنني مجدّداً، ولكنّني همست بصمتٍ لعينيها المشتاقتين: "إنّني سأعود أدراجي لأكمل الطريق؛ حتّى نيل إحدى الحُسنيَين: إمّا النصر وإمّا الشهادة". ولم تمرّ إلّا أيّام قليلة، وجاءت المهمّة التالية، فهيّأت نفسي، ولكن هذه المرة كان معي ابني عليّ، الذي جهّز نفسه أيضاً ليشاركني في المعركة المقبلة، وهكذا كان، وإليها كان الانطلاق.
(1) استشهد الشهيد علي إسماعيل في حلب-حندرات بتاريخ 10/3/2015م.
(2) استشهد الشهيد أحمد حبيب سلوم الملقب بـ"أبو علي سلوم" بتاريخ 23/7/2013م.
(3) "أبو علي زعيتر" لقب الشهيد مهدي يوسف زعيتر الذي استشهد خلال معارك القصير بتاريخ 27/5/2013 م.
لبنان _ الجنوب
مايا
2018-11-30 02:32:29
قصة مؤثرة اكتر من رائعة...