السيد بلال محسن وهبي
لا جدال عند أهل المعرفة والتجربة أن عوامل عديدة تسهم في صناعة شخصية الإنسان وتؤثر في بنائها، منها العامل الوراثي، العامل التربوي، العامل الثقافي، ومنها عامل البيئة وعامل المحيط والصحبة... وإنّا وإن لم نقُل بتأثير العامل الأخير بشكل مطلق كما هو مذهب القرآن الكريم إلا أنه مما لا شك فيه أن للبيئة تأثيراً حاسماً، وأثراً خطيراً على صناعة الشخصية الإنسانية. ويمكن استنباط المذهب القرآني في هذا المجال من مجموعة من الآيات الكريمة والتي منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ (النساء: 97).
فالآية صريحة في تأثير البيئة في بناء الشخصية الإنسانية، البيئة التي تضغط على الإنسان فتمنعه من الوصول إلى الحق. ويمكن الاستشهاد لذلك بالبيئة التي ترعرع فيها كنعان ابن النبي نوح عليه السلام، وإسماعيل ابن النبي إبراهيم عليه السلام؛ فالأول عاش في بيئة ظالمة منحرفة فتأثر بمفاهيمها وعاداتها وقيمها الزائفة الأمر الذي منعه من الالتحاق بأبيه حين دعاه للركوب معه في السفينة طلباً للنجاة من الغرق، كما ورد في القرآن الكريم(1). وأما الثاني، أعني به نبي الله إسماعيل عليه السلام الذي عاش في بيئة طيبة سليمة، فلم يكتف بالاقتداء بأبيه ومشاركته في أداء تكاليفه الربانية، بل نراه يستجيب لأبيه وهو يدعوه إلى الاستسلام لإرادة الله في ذبحه دون تردد، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: 102). ولا شك أن البيئة الطيبة والتربية الصالحة ساهمتا في هذا الانقياد الإرادي الواعي لأمر الله تعالى. ولهذا رأينا الإسلام يحرص على النأي بالإنسان عن البيئة التي تساهم في حرفه عن فطرته السليمة، ويمنعه عن حضور المجالس التي تمثل بؤراً للفساد والفسق والفجور، وتحول بين الإنسان وبين ما ينبغي أن يكون عليه من صفاء السريرة، ونقاء العقيدة، واستقامة الأعمال. وهو ما أروم الحديث عنه في هذه العجالة؛ أعني الحديث عن المجالس التي يبغضها الله تعالى. وسأضيء على هذا الأمر من منظارين اثنين:
الأول: ويتضمّن حرمة حضور المؤمن في كل مجلس يتم فيه النيل من الدين وإسقاط قداسة عقيدته ورموزه وأتباعه. وقد دل على ذلك مجموعة من الآيات الصريحة في النهي عن الكون في تلك المجالس. قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ (النساء: 140)، لأن الحضور في هذا المجلس يعني قبول المؤمن بما يقال في دينه وحينئذ يكون عرضة لنزول العذاب والنقمة، ولن يفرق العذاب حين ينزل بين المنافق والمستهزئ والمؤمن.
الثاني: ويتحدث فيه عن حرمة الحضور في المجالس التي تتسبب للمؤمن بالتهمة والإهانة، أو تضعف إيمانه، أو تفتح له الأبواب على المعصية، ما يحوله في النهاية من ضفة الإيمان والطاعة والتقى إلى ضفة الفسق والفجور والمعصية. وهذا الأمر تكفي فيه الخطوة الأولى لتتبعها خطوات وخطوات إلى نهاية مفجعة، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور: 21). وليس متاحاً في هذه العجالة استقصاء كل المجالس المبغوضة من الله تعالى، لذا نكتفي بذكر بعضها، وعلى المكلف أن يحدد مصاديقها فيتخذ الموقف المناسب منها.
* مجالس اللهو
وهي كل مجلس يلهي الإنسان عما يفيده في حياته، سواء ألهاه عن ذكر الله تعالى، أم ألهاه عن كل ما هو ضروري لحياته. فالله تعالى منحنا الحياة فرصة للعمل، واللهو يحول بيننا وبين ذلك، ما يوقفنا في النهاية مواقف الحسرة والندامة والشعور بالغبن، على عمر مضى لم نستفد منه، وأيام انقضت دون أن نستثمرها فيما ينبغي. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون﴾ (الأعراف: 51).
- مجالس الغيبة
وهي كل مجلس يُغتاب فيه المؤمنون، وتُكشف فيه أسرارهم، فعن الإمام علي عليه السلام: "اجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار"(2).
- مجالس النميمة
وهي المجالس التي تُستغل لإيقاع الخلاف، ويُنقل فيها الكلام الخبيث السيئ من القائل إلى المقول فيه فهي مجالس يحذر الإسلام من الكون فيها، ففي رسالته إلى والي الأهواز يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إياك والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقنّ بك أحد منهم، ولا يراك الله يوماً ولا ليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك"(3).
- مجالس الخمور
وهي مجالس مبغوضة لله تعالى أشد البغض. وقد حذر الإسلام منها بشكل منقطع النظير، لأنها بؤر للفساد والمنكرات والجرائم، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "لا تجالسوا مع شارب الخمر، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم، ولا تصلوا على أمواتهم، فإنهم كلاب أهل النار كما قال الله: ﴿اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾"(4).
- مجالس القمار
حرم الله القمار وحرم حضور المؤمن في مجالسها، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون﴾ (المائدة: 90-91). فالقمار يجعل الإنسان يعتمد في كسبه على الحظ والأماني الفارغة لا على العمل والجد وهو أداة هدم للبيوت العامرة.
- مجالس الغناء
وهي مجالس الطرب ولهو الحديث واللغو الذي لا طائل منه سوى إيقاع الناس في أجواء الفتنة والفسوق. وهذه مجالس يبغضها الله تعالى والإسلام يحرم ارتيادها والمشاركة فيها، كما يحرم الاستماع إلى الغناء في أي مكان حرمة قطعية، إذ يقول الإمام الصادق عليه السلام: "الغناء مما أوعد الله عز وجل عليه النار، وهو قوله عزّ وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾"(5).
- مجالس الصدّ عن سبيل الله
وهي المجالس التي يروّج فيها للأفكار الباطلة وتهدف إلى إضلال المؤمنين فتشكك في عقيدتهم الدينية، وتبث فيهم روح الرفض للدين، وتزين لهم الحرام، وتجرّئهم على المعصية، فهذه مجالس ينهى الله عباده عن الكون فيها لأنها تفتن الإنسان عن دينه، وتصده عن سبيل الله تعالى. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: المرء على دين خليله وقرينه"(6). وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "ثلاثة مجالس يمقتها الله عز وجل ويرسل نقمته على أهلها، فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلسٌ فيه من يصف لسانه كذباً في فتياه، ومجلسٌ ذِكْرُ أعدائِنا فيه جديد وذِكْرُنا رَثُّ، ومجلسٌ فيه من يصد عنا وأنت تعلم(7). وعنه عليه السلام أنه قال: "لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره"(8). ويلحق بهذه المجالس مجالس البدعة، وهي تلك المجالس التي يُروج فيها للبدع والضلال، وينشط فيها أصحاب الفكر المنحرف للترويج لأفكارهم التي غالباً ما يُلبسونها لباس القداسة الدينية، كاستحداث عبادات جديدة، فهذه مجالس مشبوهة لأنّها قد تختلط على الشباب فلا تظهر هويتها واضحة إلاّ بعد حين. ولذلك إذا تعذّر علينا الفرز فلنرجع إلى علمائنا ومراجعنا وخبرائنا لنستنير برأيهم في ما هو دخيل وما هو أصيل. ويدخل في تلكم المجالس المغالاة في الدين، والغلو في النبي وآله عليه السلام برفعهم إلى مقامات الربوبية والألوهية، وغير ذلك مما ينكره أهل البيت عليهم السلام أشد الإنكار. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم"(9).
- مجالس الطرقات
وهي المجالس التي تكون في الطرقات أو على الأرصفة، والتي تضيّق على المارة من الناس وتسبب لهم الأذى. وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وآله عن مجالس الطرقات، فقال: "إيّاكم والجلوس على الطرقات. قالوا: ما لنا بدّ منها إنّما هي مجالسنا نتحدّث فيها. قال: فإذا أبيتم إلاّ ذلك فأعطوا الطريق حقّه. قالوا: وما حقّ الطريق؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف، وإرشاد الضّال، وإعطاء السائل"(10). هذه لمحة عامة عن مجالس يبغضها الله تعالى، وينهى المؤمن عن الكون فيها، ويحضه على الإنكار عليها ومواجهتها، صوناً لدينه وشرفه وكرامته.
1) سورة هود، الآيات: 42 46.
2) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، المجلد الثالث، ص 2329.
3) م. ن، المجلد الرابع، صفحة 3369.
4) م. ن، المجلد الأول، صفحة 418.
5) م. ن، المجلد الثالث، صفحة 2312.
6) الكافي، الكليني، ج 2، ص 375.
7) م. ن، ص 378.
8) ميزان الحكمة، م. س، المجلد الأول، صفحة 39.
9) م. ن، ص 39.
10) السنن الكبرى، البيهقي، ج 7، ص 89.