إعداد: زينب الطحان
* الطائفية ليست دهرية
تتبدّى أهمية المراجعة التاريخية للطائفية في لبنان عبر نظرة موجزة إلى الكتابات المتعددة عن "مشكلة الطائفية"في لبنان. ومن الرّؤى المميّزة في هذه الإشكالية رؤية المؤرّخ أسامة مقدسي في كتابه "ثقافة الطّائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني"، وهو من ترجمة "ثائر ديب" وإصدار "دار الآداب". مقدسي هو أستاذ مشارك في دائرة التاريخ في جامعة رايس (هيوستن)، في الولايات المتحدة، وأول حاصل على كرسي الصندوق العربي الأميركي التربوي للدراسات العربية فيها. في كتابه "ثقافة الطائفية" يبين "المقدسي" أن الطائفية في لبنان ليست دهرية، بل انبثقت بشكل واضح جداً في القرن التاسع عشر. وعليه، فإنها ليست مؤامرة عثمانية، ولا اختراعاً أوروبياً، ولا "طبيعة" لبنانية، وإنّما تعكس تحلّل النّظام الاجتماعي اللّبناني التّقليدي وسط وجود أوروبي متنامٍ وإصلاحات عثمانيّة كبرى في الشرق الأوسط. كما أنّ العنف الديني بين الموارنة والدروز، والّذي توّج بمجازر العام 1860، كان تعبيراً مركباً ومتعدد الطبقات عن التحديث Modernization لا ردّ فعل بدائياً له.
* دراسة مقدسي: الطائفية جزء حيوي من حداثتنا المعقدة
شهدت فترة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بروز دراسات جديدة لظاهرة الطائفية، دمجت التحليل النقدي لأصول الطائفية ومسار تطورها التاريخي، آخذةً بالاعتبار المسالك الثقافية، الخطابية والمؤسساتية التي أنتجت الطائفية وتستمر في إعادة إنتاجها إلى يومنا هذا. ويرى ماكس فايس - وهو أحد المنظِّرين للطائفية - أنّ هذه الدراسات النقدية "سعت إلى إيجاد أرضية وسطية في المشهد التأريخي للطائفية عبر تحديد العوامل المادية والثقافية التي أسهمت في إدامة النظم الطائفية والمجتمع الطائفي". ومن أبرز المساهمين في هذا "التيار النقدي" أسامة مقدسي، الذي يُظهر على نحو مقنع، عبر دراسة للعنف الطائفي بين الموارنة والدروز في جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، كيف أنّ الطائفية نبعت من تقاطع الإصلاحات العثمانية (المعروفة بـ"التنظيمات") والتدخل الأوروبي في المنطقة في القرن التاسع عشر. ففي القرن المذكور، "جرت"، بحسب مقدسي، "إعادة ابتكار جبل لبنان بحسب طوائفه، بمعنى أنّ هوية طائفية عامة وسياسية حلّت محل سياسات الوجاهة غير الطائفية التي كانت السمة المميزة لمجتمع ما قبل الإصلاح". لذلك يشدد مقدسي على عدم جدّية معاملة الطائفية "كنزوع قبليّ، وكتديّن بدائيّ معادٍ للحداثة"، مشيراً إلى أنّه لا بدّ من الاعتراف "بأنّ الطائفية جزء حيوي من حداثتنا المعقدة"، ويرى أنّ تأثيرها "كان في محصّلته سلبياً"، إذ إنّها "منعت ولا تزال تمنع تبلور مفهوم وطني شامل قادر على توحيد اللبنانيين".
ليس النظام الطائفي في لبنان أقدم نظام حكم عربي فحسب، بل لعله أيضاً أكثرها قوةً ورسوخاً، وخصوصاً على المستوى الاجتماعي. ذلك أنّه قام، على امتداد عقود من الحرب والسلم، بابتلاع أية مساحة عامة قد تمثّل إطاراً لتلاقي المصالح والتطلّعات المشتركة بين اللبنانيين، على تنوّع انتماءاتهم الاجتماعيّة والطائفيّة والمناطقيّة، لكن بالرغم من كلّ ذلك، فإنّ الطائفية في لبنان، متى نُظر إليها في سياقها التاريخي، ليست غريزة ولا حتميّة، بل هي، كما يشير أسامة مقدسي، "تعبّر عن ترجمة وتحوير لفكرة جديدة للمساواة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر في مجتمع متعدد الطوائف وخاضع لضغوط خارجية ويفتقر على جميع المستويات إلى رؤية قادرة على تخيّل مستقبل أفضل". كتاب مقدسي عن تكوين الهوية الطائفية في جبل لبنان بين 1839 وأحداث 1860 كان يجب أن يكون ثوريّاً بالنسبة إلى اللبنانيّين، وأن يفتح نقاشاً متجدّداً عن الهوية اللبنانية، لكن العمل - مع الأسف - لم ينل الاهتمام الذي يستحقّه، على الرغم من توافر ترجمة جيّدة له بالعربيّة. وتعود قلّة النقاش حول كتاب مقدسي لأنّ نتائجه تزعج الجميع في لبنان، الطائفيين وأعداءهم. فهو من ناحية يعامل الطوائف (بمعنى الهوية والسياسة) كتكوينات تاريخيّة، حديثة وعرضيّة، لكنّه، من المنطلق ذاته، يحلّلها كـ "قوميّات" و"محاولات أمم"، لا تختلف جوهرياً عن غيرها من الحركات القومية التي نشأت في القرنين الأخيرين، فحاز بعضها على دول وكيانات، وفشل كثيرها.
وما يشدد عليه أسامة مقدسي هو أن الطائفية ليست "مؤامرة" حاكتها القوى الخارجية في الماضي أو تحوكها الآن، فحسب، بل الأحرى أنها تعكس خيارات واعية لدى جماعات متعددة في وضع تاريخي محدد، فمع أن لكل أمة انقساماتها، إلا أننا لا نجد شكل الحكم الطائفي في كل أمة. ومن المؤكد أن بين العوامل الحاسمة في تطور الحكم الطائفي (في العراق اليوم كما في لبنان القرن التاسع عشر) ذلك التدخل المفرط الذي تمارسه القوى الغربية التي تقرأ الشرق قراءة استشراقية وطائفية، فطرية أو مطبوعة، وتفرض "حلولاً"تستند إلى قراءاتها الخاصة المغرضة. فثمة سبب في النهاية، لما يزجيه كولن باول وزير الخارجية في إدارة بوش الابن، من الثناء على نموذج السياسة الطائفية اللبناني وحض العراق على تبنيه. في قراءة متأنية لهذا الكتاب تصل إلى نتيجة أوردها الباحث في ثنايا الصفحات، أن الطائفية بزغت في لبنان كممارسة حين نشب الصراع بين النخب المارونية والدرزية، وبين الأوروبيين والعثمانيين، حول تحديد علاقة عادلة ومنصفة لـ"القبيلتين" و"الأمتين" الدرزية والمارونية بدولة عثمانية تستهدف التحديث. بزغت الطائفية حين نزعت الثقة في منتصف القرن التاسع عشر عن النظام القديم في جبل لبنان، وهو نظام كان محكوماً بتراتب نخبوي تحدد فيه السياسة المنزلة في الدنيا لا الانتماء في الدين. فلقد فتح انهيار النظامِ القديمِ الفضاءَ لتشكلٍ جديدٍ من السياسة والتمثيل قائمٍ على لغة المساواة الدينية، ولقد أعلى هذا التحول من شأن الطائفة بدلاً من المكانة النخبوية، وجعلها الأساس لأي مشروع من مشروعات التحديث والمواطنة والتحضر.
* الإرساليات التبشيرية وإغفال دورها في "الطائفية"
ولقد أغفل الكاتب، ربما عن غير قصد منه، وأستغرب هذا الإغفال، دور الإرساليات التبشيرية، إذ إنه في ظل فضاءات دولية، في القرن التاسع عشر، نجحت النخبة الشامية، ومنها جبل لبنان، بتوليد أنماط من التفكير المعاصر تَميَّز بنوع من الخصوصية الثقافية. وشكلت هذه الخصوصية مدارس متنوعة خلطت الكثير من المناهج البحثية بانتماءات محلية متوارثة. وذلك بفضل الدور الذي أدته الإرساليات التبشيرية الغربية، التي كانت مدارسها موزعة في أقاليم الإمبراطورية العثمانية، وهذا الخلط بين وعي يعتمد على فلسفات أوروبية وتاريخ متسلسل من الطوائف والمذاهب والمناطق أسهم في تشكيل نواة أيديولوجية "حديثة" آنذاك في لغتها ومفرداتها ومصطلحاتها ومناهجها و"معقدة" في أهدافها وغاياتها. وشكل هذا التعارض بين الفكرة والواقع أزمة سياسية للنخب اللبنانية. وتشكل في بلاد الشام، وتحديداً في جبل لبنان، ذاك المثقف العضوي الذي يحمل الأفكار التقدمية ولكنه محكوم بذاك الرابط مع طائفته أو مذهبه أو منطقته. فتأسست النخبة وفق مناهج مختلفة تحكمت في برامجها الإرساليات الأجنبية.