الشيخ مهدي إيليا بو زيد(*)
مع بزوغ فجر شهر رمضان، شهر نزول القرآن، يأسرك مشهد
المسلمين حين يعكفون على قراءة القرآن الكريم، يتلونه بلهفة وشوق، ويشرعون في رحلة
ختمه، راجين من الله تعالى التوفيق في ذلك. وعن رحلة الختم نتحدّث في هذا المقال:
فما هو أصل استحباب تلاوة القرآن من الدفّة إلى الدفّة؟ وهل هناك خصوصيّة للختم في
كلّ أيّام العام أم في شهر رمضان؟
ما هو أثر قراءة القرآن على الإنسان إن تعهّد ختمه وجال عليه بتمامه؟ وما هو أثر
تدبّره، وهو كلام الله؟
* نوّروا بيوتكم بتلاوته
تُستحبّ قراءة القرآن، بل والإكثار منه، في أيّام السنة كافّة. فالقرآن يرسم لنا،
بمضامين آياته، معالم الإنسان الكامل الذي ينبغي لنا أن نكون على شاكلته. وقد ذخرت
السنّة الشريفة بالحثّ على التزوّد من القرآن الكريم، لما لذلك من أهمية، ليس على
الحياة الشخصية والسلوك الفرديّ فحسب، بل تتعدّاه إلى كلّ ما يحيط بنا.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نوِّروا بيوتكم بتلاوة القرآن، ولا
تتخذوها قبوراً... فإنّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره، واتسع أهله،
وأضاء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الدنيا"(1).
وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "... وإنّ البيت الذي لا يُقرأ فيه
القرآن، ولا يُذكر الله عزّ وجلّ فيه، تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره
الشياطين"(2).
والتزوّد من القرآن مطلوب في أيّام السنة كلّها، وإن جاء التأكيد عليه في شهر رمضان
وكون الثواب فيه أعظم. فلا ينبغي أن يكون التعاطي مع كتاب الله تعالى موسميّاً؛
لارتباطه بحاجة الناس إلى الهداية، وهي حاجة دائمة لا تنتهي، ففي كل حركتنا نحتاج
إلى الترفُّع عن البعد الماديّ، والتخفيف من سطوة المادّة، بحيث تتغذّى الروح،
فيزداد ألقها وحاكميتها على مملكة البدن، وصولاً إلى استشعار الارتباط بخالق الكون،
فنحصِّل مرتبة التقوى وتزداد علاقتنا بالخالق. وقد وصف أمير المؤمنين عليه السلام
أولئك المتقين الذين حملوا همّ العلاقة مع بارئهم: "... أمّا الليل، فصافّون
أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يُحزِّنون به أنفسهم، ويستثيرون به
دواء دائهم"(3).
فالقرآن منهج الهداية الذي ينبغي لكل مسلم أن يسير عليه ويكون على اتصال دائم به،
فعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي
للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية"(4).
وقد رغّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّ مسلم في أن يتزوّد من القرآن الكريم
على قدر طاقته، وشوقه للترقّي إلى مراتب القرب، ففي الحديث عن مولانا الباقر عليه
السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "مَن قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب من الغافلين، ومَن قرأ خمسين آية كُتب
من الذاكرين، ومَن قرأ مئة آية كُتب من القانتين، ومَن قرأ مئتي آية كُتب من
الخاشعين، ومَن قرأ ثلاث مئة آية كُتب من الفائزين، وَمن قرأ خمسمئة آية كُتب من
المجتهدين، ومَن قرأ ألف آية كُتب له قِنطار من تِبر..."(5).
* ختم القرآن الكريم في شهر رمضان
لقد صدحت الروايات باستحباب ختم القرآن في الشهر الفضيل؛ لما للمندوحة الزمنيّة من
تأثير إضافيّ. فقد روي أنّ "مَن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم
القرآن في غيره من الشهور"(6). وعن الإمام الباقر عليه السلام: "لكلّ شيء ربيع،
وربيع القرآن شهر رمضان"(7).
كما أكّدت الروايات على استحباب ختمه بشكل دوريّ أيضاً؛ إذ القرآن مأدبةُ الله،
فلنأتِ مأدبته ما استطعنا، وهو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، كما
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(8).
فقراءة القرآن مستحبّة كلّ يوم وليلة، ويتأكّد استحباب كثرة التّلاوة ليلة الجمعة
ويومها، كما وتستحبّ القراءة عند النّوم.
* أهل البيت عليهم السلام وختم القرآن
عُرف عن أهل البيت عليهم السلام تعلُّقهم الشديد بالقرآن الكريم، ومواظبتهم على
قراءته بشكل كبير.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "كان لا يختم القرآن في أقلّ من ثلاث"(9)،
وإمامنا الباقر عليه السلام كان يختم القرآن عشر مرّات في شهر رمضان، بل وأكثر(10)،
و"كان [إمامنا الرضا عليه السلام] يختمه في كلّ ثلاث، ويقول: لو أردت أن أختمه
في أقلّ من ثلاث لختمت، ولكن ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أُنزلت،
وفي أيّ وقت، فلذلك صرت أختم في ثلاثة أيام"(11).
ولكن، مع ذلك، ورد عنهم عليهم السلام التأنّي في قراءة القرآن؛ ليحصل أمثالُنا على
المعرفة والهداية، مضافاً إلى أجر القراءة. لذا، كان الإمام الصادق عليه السلام لا
يُعجبه أن يُقرأ القرآن في أقلّ من شهر(12). وهذا محمول على ختم القرآن في غير شهر
رمضان.
وقد جاء عن علي بن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو
بصير: جعلت فداك، أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: "لا"، قال: ففي ليلتين؟
قال: "لا"، قال: ففي ثلاث؟ قال: "ها" وأشار بيده، ثم قال: "يا أبا محمّد، إنّ
لرمضان حقّاً وحرمةً لا يشبهه شيء من الشهور، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
وسلم يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقلّ. إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمة(13)، ولكن يرتّل
ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله عزّ وجلّ الجنّة، وإذا
مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ بالله من النار"(14).
وبهذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام المتّقين، الذين إذا "مرّوا بآية فيها تشويق
ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسُهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نُصب أعينهم. وإذا
مرّوا بآية فيها تخويف أصغَوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها
في أصول آذانهم"(15).
* الإمام الخمينيّ قدس سره والقرآن
دأب علماء الإماميّة على التواصل المستمرّ مع القرآن الكريم، ومتّعوا أبصارهم به،
ومنهم الإمام الخميني قدس سره، الذي عندما أصابته مشكلة في عينيه، ونصحه الطبيب أن
يريح نظره فترة، بحيث يمتنع عن القراءة، كان جوابه: وما الحاجة إلى بصر لا يمكن
للمرء أن يستغلّه بقراءة القرآن؟ وكان قدس سره يختم القرآن كلّ عشرة أيّام على
الأقلّ، ويزداد اهتمامه به في شهر رمضان، وكان يتدبّر معاني القرآن بدقّة، وكان
يقرأه قبل كلّ صلاة، بل ويستثمر أبسط فرصة لتلاوته، ويرفض إبعاد المصحف عنه، ويأنس
بالاستماع لتلاوته، وكان يأمر بختم القرآن... (16).
* قبل الختم وبعده
التوفيق في رحلة ختم القرآن الكريم يحتاج إلى تسديد إلهيّ، من خلال الاستعانة بالله
تعالى، وهو ما نتعلمه من خلال أدعية أئمّتنا لمن أراد الجلوس عند هذه المائدة
العظيمة، كما ورد في دعاء مولانا الإمام الصادق عليه السلام عند أخذه المصحف الشريف
إذا قرأ القرآن: "... اللّهمّ، إنّي نشرت عهدك وكتابك، اللّهمّ فاجعل نظري فيه
عبادة، وقراءتي فيه فكراً، وفكري فيه اعتباراً، واجعلني ممّن أتّعظ ببيان مواعظك
فيه وأجتنب...، بل اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه، آخذاً بشرائع دينك، ولا تجعل نظري
فيه غفلة، ولا قراءتي هذراً، إنّك أنت الرؤوف الرحيم"(17).
وإذا فرغ من القراءة دعا: "اللهمّ، إنّي قد قرأت ما قضيته من كتابك..، فلك الحمد
ربّنا، اللهمّ اجعلني ممّن يُحلّ حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويؤمن بمحكمه ومتشابهه...
آمين رب العالمين"(18).
* لك عند ختمك
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ختم العبد القرآن، صلّى عليه عند
ختمه ستون ألف ملك"(19).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لصاحب القرآن عند كلّ ختم دعوة مستجابة..."(20).
* لنكون معهم عليهم السلام يوم القيامة
قال رجل لأبي الحسن [الكاظم] عليه السلام: كان أبي يختم القرآن أربعين ختمة في شهر
رمضان، ثمّ ختمته بعد أبي، فربّما زدت وربّما نقصت، فإذا كان في يوم الفطر جعلت
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ختمة، ولعليّ عليه السلام أخرى، ولفاطمة عليها
السلام أخرى، ثمّ للأئمّة عليهم السلام حتّى انتهيت إليك فصيّرت لك واحدة منذ صرت
في هذه الحال، فأيّ شيء لي بذلك؟ قال: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة"، قلت:
الله أكبر، فلي بذلك؟ قال: "نعم" ثلاث مرات"(21).
* ليصبح مجتمعنا قرآنيّاً
يوصينا سماحة الإمام القائد الخامنئي دام ظله في ما يخصّ تلاوة القرآن قائلاً: "يجب
أن تكون أعمالنا قرآنيةً وإلهيّة، فلا نكتفي بالقول واللسان والادّعاء، بل نخطو
ونتحرّك عمليّاً على هذا الطريق، فحيث أنستم بالقرآن وتلوتموه، أينما وُجد أمرٌ أو
هدايةٌ أو نصيحةٌ، فاسعَوا -بالدرجة الأولى- إلى أن ترسّخوها في وجودكم وباطنكم
وقلوبكم، وتجعلوها ظاهرة في أعمالكم. فلو أنّ كلّ واحدٍ منّا تعهّد بهذا في عمله،
فإنّ مجتمعنا سيتقدّم ويصبح قرآنيّاً"(22).
* مسك الختام
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي
لا يغشّ، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحد
إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمى، واعلموا أنّه ليس
على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم،
واستعينوا به على لأْوَائِكم، فإنّ فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق
والغيّ والضلال، فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبّه"(23).
فما أحوجنا أن نرتع عند هذه الموائد الرحمانيّة، والخزائن الربّانيّة، فلا تفوتنا
فرصة الإنصات إلى وحي السماء، بل علينا أن نخصّص له وقتاً أصيلاً في أيّامنا،
ومحطّات دائمة تتمحور حوله كلّ حركتنا حتّى يكتب لنا الفوز عند خوض غمار الحياة
الدنيا، ونحظى بالحياة الخالدة الأخرى، ولا يكون ذلك إلّا إذا تمسّكنا بالحبل
المتين للثقلين كتاب الله المجيد، وأهل البيت الميامين صلوات الله عليهم أجمعين.
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.
1- الكافي، الكليني، ج2، ص610.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج6، ص199.
3- نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ج2، ص161.
4- وسائل الشيعة، (م.س)، ج6، ص198.
5- الكافي، (م.س)، ج2، ص612.
6- الوافي، الفيض الكاشانيّ، ج11، ص368.
7- ثواب الأعمال، الصدوق، ص103.
8- معارج اليق ين، السبزواريّ، ص115.
9- فتح الباري، ابن حجر، ج9، ص83.
10- هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، الحرّ العامليّ، ج4، ص246.
11- الأمالي، الصدوق، ص758.
12- هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، (م.س)، ج3، ص77.
13- الهذرمة: السرعة في القراءة.
14- الكافي، (م.س)، ج2، ص617.
15- نهج البلاغة، (م.س)، ج2، ص161.
16- لمعرفة التفاصيل يراجع: قبسات من سيرة الإمام الخمينيّ- الحالات العباديّة
والمعنويّة، غلام علي الرجائيّ، ص11-20.
17- الاختصاص، المفيد، ص141.
18- جامع أحاديث الشيعة، البروجرديّ، ج15، ص76.
19- كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج1، ص510.
20- (م.ن)، ص513.
21- الكافي، (م.س)، ج2، ص618.
22- من كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في محفل الأنس بالقرآن الكريم- 21/7/2012م.
23- نهج البلاغة، (م.س)، ج2، ص92.