الإمام السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
حسبَ بعض الآثار التاريخيّة، الموجودة في "المَقَاتل" والتي تبحث في واقعة كربلاء
وآثارها ومقدماتها يظهر لنا أنّ آل بيت الحسين عليهم السلام، وآل بيت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قد دخلوا إلى الشام في أوّل شهر صفر؛ أي بعد مرور عشرين يوماً
على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. والسبب في ذلك أنّهم كانوا يحاولون المرور
عبر البلاد العامرة. ففي ذاك الزمن، لم تكن وسائل النقل السريعة متوفّرة لمرور
القوافل في الصحراء، التي كانوا يخافونها، بسبب عدم وجود الماء ووسائل الحياة فيها.
* مشاهد دلّت على الطريق
هذه البلاد التي مرّوا بها، وإنْ كان خطّ مرورهم عليها غير واضح أو مسجّل في
التواريخ؛ لأنّ من كان مع الأسرى والرؤوس الطاهرة حاول أن يمرّ في طرق غير اعتيادية
في السير لأسباب سياسيّة، وخوفاً من الانقلابات والمشاكل التي قد تطرأ، ولهذا كانوا
يمرّون في البلاد الكبرى التي بقي فيها من الآثار والعلائم ما يُظهر مرور أهل البيت
والرؤوس الطاهرة. وهذه الآثار صارت هي المشاهد التي بُنيت باسم مشهد رأس الحسين
عليه السلام.
وكذا في كثير من البلاد بُنِيَتْ مشاهد في أماكن متعدّدة؛ لأنّ رأس الحسين عليه
السلام وُضِعَ فيها لعدة ساعات، أو لأنّ قطرات من دم الحسين عليه السلام ربّما وقعت
في تلك الأماكن فاحترموها وبنوا عليها مشاهد، بل ومساجد، ففي حديثٍ عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "فما من مسجد بُنِيَ إلّا على قبر نبيّ أو وصيّ
نبيّ قُتِلَ فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه فأحبَّ الله إلّا أنْ يُذكر فيها"(1).
كانت هذه المشاهد آثاراً دلّت على خطّ عبور آل البيت في رحلتهم من الكوفة إلى الشام
في رحلة استمرّت حوالي عشرين يوماً.
وفي بعض البلاد مثل: عسقلان، حماة، حمص... يوجد أماكن باسم "رأس الحسين" عليه
السلام، حتّى في حلب، هناك مشهد اسمه "مشهد النقطة" لا يزال موجوداً.
إذاً، بإمكاننا أن نتصوّر أنّ الرؤوس الطاهرة والأسرى قد مرّوا على طريق العواصم
وعلى كُبريات المدن التي كانت واقعة بين الكوفة والشام على طريق الساحل. وكان الناس
قد تهيّأوا لاستقبالهم وللفرح بورود هؤلاء الأسرى وأمثال ذلك.
* فضول الناس يكشف الحقيقة
ما من شكّ في أنّ مرور قافلة السبايا في هذه المدن حادثة عامّة تلفت الأنظار، فهي
انتصار للخليفة: رؤوس مقطوعة، سبايا، أسرى، جيش؛ فإنّه عندما يمرّ جيش في بلد ما،
يخرج أهله للتفرّج. ونستطيع أن نتصوّر أنّ طوال الطريق من الكوفة إلى الشام، كان
هناك حكّام تابعون للخليفة في كلّ بلد كانوا يدخلونه، وبالتالي كان الناس يحتفلون
ويبتهجون بالانتصار. والناس بطبيعة الحال لديهم روح الفضول ويريدون أن يفهموا ما
الأمر؟ وما القصة؟ لماذا قُطعت الرؤوس؟ لماذا أتوا بالسبايا؟ مَن هؤلاء؟ فما من شكّ
في أنّه كان يدنو من أحدهم طفل، أو صغير، أو كبير، أو شيخ... فيسألهم من أنتم؟
* "نحن أُسارى آل محمّد"
إنّ هذه العبارة وردت في كثير من "المَقَاتل": من أيّ الأسرى أنتم؟ من الزنوج، أو
من الديلم، أو من التَتر، أو من بلاد الكفر؟
ولا شكّ في أنّ أهل البيت عليهم السلام، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً كانوا
يُحسنون الإجابة عن هذا السؤال: "نحن من أسارى آل محمد". هذا الجواب كان يصدمهم
فيقولون: "كيف هذا!؟" من أسارى آل محمد؟! وهل آل محمد يؤسرون ويُسَبون؟ حينئذ كانوا
يشرحون لهم القصّة، فيلتفّون حولهم وينصتون أكثر. وحينها يأتي دور الحديث أو
الخطاب، إمّا من علي بن الحسين أو من زينب أو من أمّ كلثوم عليهم السلام. كان أحدهم
يتكلّم ويشرح للناس ماذا جرى، وهذا ما نجده في كتب "المَقَاتل" في عشرات الخطب
والكلمات.
بطبيعة الحال، هذه المسائل كانت تتكرّر في كلّ رحلة، وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل.
* شاء الله أنْ يراهنّ سبايا
في هذه المرحلة تبيّن تماماً دور زينب والنساء من آل البيت عليهم السلام. لقد كانت
نيّة يزيد ومن حوله أن يقتلوا الإمام الحسين عليه السلام وجميع الرجال، ويخفوهم في
الصحراء، حتّى لا يعرف أحد ماذا حصل. ولكن، الإمام الحسين عليه السلام كان يقول:
"إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا" فتبيّن للجميع بعد العاشر من المحرّم أهميّة
أدوارهن التي كشفت النقاب عنها هذه الواقعة الغريبة في تاريخ الإسلام، وأمام كلّ
العالم من الكوفة إلى الشام، وفي كلّ بلد كانوا يتحدّثون فيه عمّا جرى، ويحكمون
كذلك على تصرّف بني أميّة، ويزيد بالذات، ومخالفته للدين والشرع والإنسانيّة والشرف
ليعرف الناس حقيقة حكّامهم، وما هي قيمة هؤلاء الحكّام في منطق الإسلام.
* عظمة زينب عليها السلام رغم المشقّة والأسر
والإنسان، إذا نظر ودرس هذه الخطب العجيبة التي كانت تُلقى في كلّ مكان، فإنّه، بلا
تردّد، ينحني أمام هذه العظمة لآل البيت بالتواضع والتقدير والإكبار.
لقد كانت زينب عليها السلام تقف في أيّ مكان من دون أن تشعر بالمصيبة، ومن دون أن
يظهر عليها تعب ومشقّة الطريق والأسر ومشكلة السبي، ومن دون أن تخاف من جيش السلطة
الجائرة، ولا من حكّامها.
إنّ سفر عشرين أو ثلاثين أو أربعين يوماً في الصحراء على الجمال، وبالشكل المعهود،
يُنهك الجسم ويُتلف القوى، ورغم ذلك كانت زينب عليها السلام، وفي كلّ خطبة تقولها،
تدرس وتراقب كلّ كلمة. فلا تجد في جميع الخطب بكاءً، ولا ويلاً ولا ثبوراً، ولا
كلمة خارجة عن الاعتدال أبداً.
كانت زينب عليها السلام تفتتح كلّ خطبة بالحمد لله والشكر له والثناء عليه والصلاة
على رسول الله وعلى آل بيته، بكلّ منطق وبكل هدوء، ثمّ تبدأ بشرح القصة بشكل موجز
ومثير، وتحرّك الناس وتجعلهم يندبون ويتوبون ويتأثّرون بما جرى.
أمّا في مجلس يزيد، فقد بلغت عليها السلام في خطبتها القمّة في الحديث. كانت تقف
أمام يزيد، الملك الطاغية المنتصر المغرور ولا تبالي. إنّ جميع وسائل الضّعف كانت
موجودة عند زينب، وجميع وسائل القوّة كانت موجودة عند يزيد، الأسباب المادية طبعاً؛
إلّا أنّ سبباً واحداً كان السبب الرئيس في قوّة زينب وفي ضعف يزيد؛ والسبب هو
إيمانها عليها السلام بالله وعدم إيمان يزيد بالله، وشعور زينب بأنّها ملتزمة مع
نفسها بالجهاد في سبيل الله، تؤدّي الواجب، ويزيد على العكس تماماً.
لهذا، وبالرغم من كلّ هذه الأسباب، عندما نقارن بين كلمات زينب وكلمات يزيد، نجد
أنّ زينب عليها السلام هي في أعلى عليّين وتتكلّم مع شخص في أسفل سافلين، أدب وقوة
وحزم. وفي خطبتها فقرات يندهش منها الإنسان، وليس للإنسان إلّا أن يحترم هذه القوّة
ويقف متواضعاً أمامها.
* زينب عليها السلام: في كربلاء انتصر الحسين عليه السلام
وبعد الحمد والصلاة والتذكير بآيات الله وتوضيح فلسفة الموقف، تقف زينب وتشرح ما
جرى في المعركة، كيف يقبل الله أن يُقتل
الحسين عليه السلام وينتصر يزيد؟ تجيب عليها السلام بآية واحدة:
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً
وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (آل عمران: 178). تقول ليزيد: انتصارك
انتصار مؤقّت، حتّى لا يكون لك عذر ولا للناس حجّة.
وفي الأثناء تقول هذه الكلمة العجيبة: "ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك"،
يعني أنّ مخاطبتك ليست شيئاً طبيعيّاً بالنسبة إليّ، وإنّما الدواهي والمصائب
الكبرى تجعلني أتحدّث معك، "إنّي لأستحقر قدرك وأستكبر تقريعك وأستكثر توبيخك":
أعتبرك لستَ أهلاً للكلام ولست أهلاً للمخاطبة؛ بل ولست أهلاً للتوبيخ والتقريع.
"وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأولياء ونبت لحمه من دماء الشهداء"،
أنت لا يُرجى منك الخير، أنت ابن هند التي نبت لحمها من دم الشهداء، ولفظ فوها
أكباد الأولياء.
إذاً، وبالرغم من كل هذه العوامل، نجد أن موقف زينب عليها السلام كان كبيراً
جداً أمام يزيد. والإسلام يريد أن تكون نساؤنا كزينب عليها السلام.
1.الكافي، الكليني، ج3، ص370.