تحقيق: زينب صالح خشاب
إنْ كان للثورات من تأريخ، فلن يخطّ القلم كلمات أصدق من
المشاهد الحيّة التي تصوغها جراحهم وتشهد عليها ابتساماتهم. فـ"القدم التي بقيت
هناك"، بجمال حروفها الخالدة كثورتها، خير مثال على إبداعات ما بعد الحرب، من قِبل
أبطالٍ عايشوا أشدّ أنواع المواجهات ضراوةً، لينتقلوا إلى ميدان جهاد من نوع آخر،
يكشف إبداعهم بمزيج من صبر وإرادة وحبّ لحياة جديدة جعلوها بإبداعهم، رغم الجراح
والمعاناة، سبيلاً لتحقيق إنجازات يحتاجها مجتمعهم؛ فالجراح ليست عائقاً في وجه من
أراد الحياة، واستجاب له القدر.
* بجراجهم انتصروا وأبدعوا
تفرض تلك الإصابات على الجرحى واقعاً مؤلماً قد يُدعى "إعاقة". ويأتي هذا المفهوم
من باب أنّ الإصابة أصبحت تعيق الجريح عن أداء ما كان يقوم به. لكن، وأمام حالات
العديد من الجرحى المصابين، يقف المرء ليتلّمس أنّ تلك الإعاقات تحوّلت إلى محفّز
إضافيّ للجرحى للاستمرار قُدماً في الحياة بنظرة لا تخلو من إبداع. ولذا نجد أنّ
هذه الكلمة "إعاقة" قد فقدت معناها اللغويّ.
1- مختار البلدة والكرسيّ المتحرّك
لم يغب عن الوعي تماماً حين سقط على الأرض. سأله زميله عمّا حلّ به، فأجاب: "لا
شيء، يبدو أنّي قد شُللت فقط". بهذه الروح المعنويّة استقبل "علي عبد علي" (40
عاماً)، إصابته، ووضعه الجديد. منذ اللحظات الأولى على اختراق الرصاص جسده، كان
مدركاً لحجم الإصابة، ومُرحّباً بكل ما يكتبه الله له قائلاً: "من يذهب ليقاتل لن
يتوقّع لنفسه إلّا القتل أو الإصابة".
استغرق الأمر عدّة ساعات ريثما تمّ نقله إلى المستشفى الميدانيّ، حينها طلب منه
الجرّاح التوقيع على عملية استئصال كليته التي استقرّت فيها رصاصة، فأجابه بهدوء:
"افعل ما تريد، وما تراه مناسباً". وعندما وصل إلى لبنان، استقبله شقيقه -الذي
استشهد لاحقاً- في المستشفى قائلاً له بمزاح: "مبيّن بعدك عايش؟"، فأجابه وهو يضحك:
"مش عارف موت".
* الحياة مع الكرسيّ المتحرك
بكلّ رحابة صدر تقبّل "علي" وضعه الجديد، هو وعائلته، "بل إنّ أولادي فرحوا كوني
صرتُ أمضي معهم وقتاً أكثر من السابق في المنزل. لاحقاً، تعلّم "علي" قيادة السيارة
من دون قدمين، وحصل على الأوراق القانونيّة اللازمة لذلك، بل صار يقود "دراجة
نارية" لقضاء حاجيّاته.
* مختار البلدة
عند اقتراب موعد الانتخابات، عرض عليه أبناء القرية الترشّح للمخترة، رفض في بداية
الأمر، لكنّه وافق نزولاً عند طلبهم وتشجيعهم، "حصلتُ على أعلى نسبة أصوات من كلّ
الأحزاب، بفضل دعم أبناء قريتي المعنويّ واحتضانهم".
وهكذا، صار يقوم بعمله كمختار لبلدته "عيتيت"، ويذهب بنفسه لإنجاز معاملات في
الدوائر الحكومية، فأنجز ما يقارب الـ1800 معاملة.
* حياته كجريح
"تكمن الصعوبة بالنسبة إليّ في أنّي أحتاج مَن يحمل إليّ الكرسيّ المتحرّك من
السيارة عندما أذهب إلى مكان ما، لكنّي عندما أعود إلى منزلي أترجّل بمفردي؛ لأنّي
وضعت كرسياً قرب المنزل". يرى علي أن الإصابة منحته فرصة الحياة مع الناس والانخراط
في المجتمع، كي يصبح عضواً فاعلاً فيه، على عكس كثيرين ممّن يرون أنّ الإصابة هي
عائق يؤدّي إلى الانعزال والوحدة.
"لا أرى الإصابة سوى نعمة بالغة رزقني الله إياها، تخوّلني التطهّر من الذنوب، ونيل
شفاعة أهل البيت عليهم السلام".
فضلاً عن الشلل النصفيّ، والحياة بكِلية واحدة، يعاني علي من نوبات كهرباء تصيبه
حوالي 60 مرة في اليوم الواحد، "ولشدّة الألم تنساب دموعي بشكل لا إراديّ، أكون
أحياناً في عملي أو بين الناس، أضحك كلّما غطّت الدموع وجهي، وأقول لهم: الحمد لله
الذي يطهّرني من الذنوب تطهيراً".
2- صانع الأدوية
في مواجهة مباشرة مع العدو الصهيونيّ عام 1984م، قُدِّر للجريح "جعفر برجي" أن يبقى
حيّاً، رغم مجموعة الرصاص التي اخترقت جسده، وأردَتْه على الأرض مغموراً بدمائه، ما
دفع العدوّ إلى تركه ظنّاً منه بأنه استشهد. لكنّ "جعفر برجي"، لم يُقدّر له
الالتحاق بركب الشهداء في ذلك الوقت، بل كتب الله له الاستمرار في مسيرة لا تعرف
اليأس رغم كثرة الأوجاع.
"انتقلتُ إلى المستشفى حيث بقيت 37 يوماً في غيبوبة، عندما أفقت منها عرفت أنّ قدمي
قد بُترت، ولم أبالِ، لأنّ من يختار المواجهة مع العدوّ الصهيونيّ، ويقف وجهاً إلى
وجه مقابل جنوده، سيتوقّع كل شيء، حتّى أصعب الأمور. لا أرى الإصابة معضلةً،
فالإرادة لا يحدّ منها شيء على الإطلاق". فضلاً عن بتر قدمه، أصيب جعفر بتقطّع في
الأمعاء، جرّاء الرصاص؛ ما سبّب له مشاكل صحيّة كثيرة صَعُب علاجها.
* الحاجة أمّ الاختراع
كان "جعفر"، قبل إصابته، رياضياً يحبّ الأرض والتراب. وبعد الإصابة، لم يتوقّف عن
ممارسة هواياته في المشي، بعد تركيب قدم صناعية له. ورغم الألم أكمل رياضاته كما
كان في السابق.
وجرّاء الإصابة في أمعائه، وما يرافق ذلك من مشكلات صحيّة، صار يبحث في كتب الطب
وما يقوله الأئمة عن العلاج بالأعشاب، ويسأل كبار السن عمّا يمتلكون من خبرات، ثمّ
أخذ يذهب بنفسه إلى البرية للحصول عليها، وشُفيَ تماماً، فترك الأدوية التي لم
يتلمّس منها الفوائد التي يريدها، وصار يتلمّس النتائج الإيجابية للرياضة مع
الأعشاب التي يصنع خلطاتها بنفسه، على جسده، وروحه ونفسيّته. ثم فتح محلاً تجارياً
يبيع فيه ما يحصل عليه من الأرض بنفسه، حتّى صار مقصد الكثيرين في منطقة قانا.
"لا شيء يُدعى إعاقة، الأمر يرجع للإنسان بنسبة 90%، فنحن نرى بعض المكفوفين يقومون
بغزل سلاتٍ من قشٍّ، لماذا على الجريح أن يجلس في البيت ويغرق في الاكتئاب؟! كلا،
عليه ممارسة حياته كأيّ فرد، بل المطلوب منه أكثر من ذلك. إنّي أرى الكثير من
الجرحى في بيوتهم جرّاء إصاباتهم، فأقول لهم: قوموا وانهضوا، مارسوا هواياتكم
ورياضاتكم وما ترغبون به، املؤوا أوقات فراغكم بما يفيد المجتمع ويفيدكم، فأنتم من
يقرّر ماذا تكونون، وليس الجراح".
3- إرادة رغم أشواك الشلل
هَب أنك تشارك نشاطاً اجتماعيّاً، فتدخل القاعة لتجد صاحب الصوت ساكن الأطراف، لكنه
يتحكّم بالشاشة الرقميّة أمامه بفكّه فقط. لن تطول دهشتك عندما تعلم أنّ صاحب هذه
الإرادة هو ابن مدرسة الجهاد والتضحية، جلّ الأمر أنّه انتقل إلى ميدان آخر.
قد تكون الحياة صعبةً من دون قدمين أو يدين، وقد تكون أشبه بكابوس مرعب، وقد تكون
نهايةً لمن كان يشعّ بالحياة، بأنشطة الجهاد والدراسة والعمل، ويرى نفسه فجأة
عاجزاً عن السير، لكنّ الجريح "حسن وهبي"، تخطّى ذلك كله، ورسم بأنامل الليل في
مساحات عذابه ألوية جهادٍ تنشد تراتيل الإبداع والحياة.
فالشابّ الذي كان في ذلك الوقت يدرس الهندسة إلى جانب عمله الجهاديّ، وجد نفسه فجأة
في حضن أمٍّ حنون، يحتاج إلى رعايتها لإنجاز أبسط الأمور، كتناول الطعام، بعدما
أصيب بشللٍ رباعيّ، قلب موازين أيامه.
* لنصل إلى الله
"إن لم أُصب في أرض المعركة في طاعة الله، كنت سألقى المصير ذاته في غير رضاه".
بهذه العبارات استقبل حسن أمه، مهدّئاً روعها، لتقوى على المسير قُدماً برضىً
وسرور.
"بعد الإصابة استفدت من وقتي في القراءة والمطالعة. قرأت عشرات الكتب، في الفقه
والسيرة والأصول والدين، كنتُ أطلب منهم تقليب الصفحات والمساعدة على ذلك".
تزوّج حسن لاحقاً، ورزقه الله بطفلة، ثم بأربعة أطفال، يعيش معهم حياة عائليّة،
ويمارس دوره كأب يهتم بشؤونهم رغم وضعه الصحيّ. وقد قرّر الانتساب لاحقاً إلى
الجامعة، فدرس الفلسفة وتخرج بعد 4 سنوات، وذلك عبر استخدام الحاسوب، حيث "جهّزوا
لي مُحركاً خاصاً للحاسوب، وهو عبارة عن "Mouse" تتصل لاسلكياً بفكِّي، أسفل ذقني،
فأقوم بالتحكّم بالحاسوب، وأقلب الصفحات وأقرأ ما أريد وأدرس وأقوم بأنشطتي
المختلفة دون عائق".
يختم حسن بالقول: "اليوم أقرأ مع ولدي دروساً في الإلهيات، أناقشه، أسير إلى
جانبه في طريق مهما ملأها الشوك، فإننا بالإرادة والصبر، لا نصل إلّا إلى الله".