تُعدُّ مواقع التواصل الاجتماعيّ ثمرة تحالف وتقاطع
مصالح، بين وزارة الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع (البنتاغون) وجهاز الأمن
القوميّ الأميركيّ (NSA) في إطار شراكات مختلطة مع القطاع الخاص الصناعيّ
الأميركيّ، الذي يبلغ عديده حوالي 17 مليون موظفٍ من نخبة مجمع الابتكار العلميّ
والهندسيّ والتقنيّ(1). ويتّخذون من "وادي السيليكون" في كاليفورنيا مقرّاً
لشركاتهم، مع توظيف ألمع العقول والخبرات الآسيوية: الهندية والكورية والصينية(2).
* أرقام وسائل التواصل في لبنان
اليوم، أصبحت تطبيقات الهواتف الأكثر انتشاراً في العالم. وفي لبنان تؤكّد
الإحصاءات أنّ 86% من اللبنانيين يملكون هواتف خلويّة، ويحمل 45% منهم هواتف ذكيّة،
وتشكّل نسبة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً ولديهم هواتف ذكية 62% منها
(3).
إضافةً إلى ذلك، فإنّ 72% من مستخدمي الإنترنت في لبنان يلجون شبكات التواصل
الاجتماعية مقارنةً بمعدل 77% في الاقتصادات الناشئة.
وأظهر المسح أنّ الأنشطة الأكثر شيوعاً لأصحاب الهواتف الخليوية في لبنان تشمل
إرسال رسائل نصّية 89%، والولوج إلى شبكات التواصل الاجتماعيّ 36%، والتقاط الصور
ومقاطع الفيديو 35%، والحصول على الأخبار السياسية 24%، والحصول على معلومات خاصّة
بالمستهلك 16%، والحصول على المعلومات الصحية 6%، وإجراء أو تلقّي المدفوعات 4%.
* مواقع التواصل الاجتماعيّ والحرب الناعمة
لا بد لكي نفهم العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والحرب الناعمة الأميركية من
الإضاءة على ارتباط شركات قطاع تكنولوجيا الاتّصالات بأجهزة الحكومة الأمريكية
والبنتاغون، وخاصّة بجهاز الأمن القوميّ (NSA)، وهو ما فضحه إدوارد سنودن (المحلّل
الأميركيّ الذي فرّ إلى روسيا) من أن جميع مواقع التواصل وتطبيقات الهواتف الذكية
مخترَقة تجسّسياً من وكالة (NSA) عبر برامج متطورة، وتحصل على البيانات الشخصيّة
للأفراد عبر شركات المعلوماتيّة الأميركيّة، كفايسبوك وغوغل وتويتر، وغيرها(4).
وتوجد 4 أدلة على ارتباط وسائل التواصل الاجتماعيّ بنظرية الحرب الناعمة:
1- وثائق تدلّ على صلة التواصل الاجتماعي بالحرب الناعمة:
أ- تقرير مجلس الاستخبارات القومية الأميركية National Intelligence Council:
الذي نصّ على "أنّ تأثير التكنولوجيات الجديدة والنموّ المتزايد لوسائل التواصل
الاجتماعيّ سيشكل تحدّياً له مغزى للدول والمجتمعات، التي عليها أن تبحث عن الطرق
الكفيلة بالحدّ من تأثير هذه التهديدات، وتعظيم الفوائد". ولفت التقرير إلى أن
"الفرد الرقميّ المستخدم لوسائل التواصل الاجتماعيّ سيتحوّل إلى عنصر فاعل ولاعب
مؤثّر في تغيير قواعد اللعبة. ووسائل التواصل الاجتماعيّ أحد أهمّ موارد القوة
الناعمة"(5).
ب- نظرية التكنولوجيا السياسية (Political Technology): وقد تمّ عرْضها في كتاب
العصر الرقميّ الجديد الذي ألفه إريك شميدت المدير التنفيذيّ لشركة غوغل Google
وغارد كوهين مدير قسم غوغل للأفكار، اللذان تولّيا منصبين سياسيين في وزارة
الخارجية الأميركية، وفيها اعترفا بأنّ "تكنولوجيا التواصل الاجتماعيّ تمثّل فرصةً
لإحداث اختراقات ثقافية... وهو ما يبشّر باقتراب عصر جديد من العولمة - عولمة
المنتجات والأفكار"(6).
2- مديرو المواقع موظّفون لدى الحكومة الأميركية:
أ- كاتي ستاتون: المستشارة الإعلامية السابقة في الخارجية الأميركية والبيت
الأبيض أصبحت المديرة الجديدة لقسم الإعلام الدوليّ في شركة تويتر (twitter). وكانت
تولت سابقاً المسؤولية عن قسم التفاعل الجماهيريّ في إدارة البيت الأبيض(7).
ب- غارد كوهين: مدير قسم الأفكار في شركة غوغل هو مستشار في الخارجية
الأميركية ورئيس قسم التخطيط السياسيّ(8).
3- مشاركة المواقع في الثورات الملوّنة والناعمة:
أ- الاستخبارات الأميركية تغزو كوبا بشبكة:
فقد كشف تحقيق صحفيّ الدوافـــع الحقيقيــة لتـمويــل وكالة (USAID) شركة تواصل
اجتماعيّ موجّهة إلى كوبا تدعى "زون زونيو" وهي شبيهة بـ"تويتر"، وهدفها إسقاط
الرئيس الكوبيّ فيدل كاسترو(9). وقد ورد في التحقيق أنّ وكالة (USAID)، أسّست شبكة
تواصل اجتماعيّ داخل كوبا لدفع المواطنين نحو التمرّد السياسيّ.
ب- دور "تويتر" في أحداث الفتنة عام 2009م:
في عام 2006م تولى "غارد كوهين" Jared Cohen، (يهوديّ أميركيّ) منصب مدير التخطيط
السياسيّ في الخارجية الأميركية بقرار من "كونداليزا رايس"، مستشارة الأمن القوميّ
ووزيرة الخارجية، وكان يعمل مديراً لقسم غوغل للأفكار (Google Idea)، ومديراً
لتحالف المنظمات الشبابية، واستمرّ في منصبه في عهد باراك أوباما.
في شهر تشرين الأول لعام 2007م، ألقى "غارد كوهين" محاضرة خطيرة في معهد واشنطن
لسياسات الشرق الأدنى تحت عنوان: "النساء والشباب والتغيير في الشرق الأوسط ومفهوم
الديمقراطية الرقمية"، وقال حرفيّاً: "إنّ الشباب في الشرق الأوسط أصبحوا ناضجين
لالتقاط التأثير الخارجيّ عبر بوّابات التكنولوجيا"(10). في حزيران 2009م أيام
الفتنة في إيران، ظهر دور "كوهين" كضابط مسؤول عن تنسيق الاتّصالات بين وزارة
الخارجية الأميركية وإدارة موقع "تويتر"، لمنع تجميد أنشطة الموقع في إيران (11).
ج- مواقع التواصل الاجتماعيّ واحتجاجات "الربيع العربيّ":
في شهر أيلول 2010م نظَّم محرِّك غوغل google مؤتمراً تحت عنوان: "منتدى حرية
الإنترنت". أطلقت بعده وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت مؤسسة
وشبكة "مدوِّني المغرب والشرق الأوسط". وسبق لهذا المنتدى أن عقد منتديات عدة في
إمارة قطر تحت عنوان: "منتدى الديمقراطيات الجديدة أو المستعادة" شارك فيها بيل
كلينتون وابنته، وكونداليزا رايس وزيرة الخارجية. وآنذاك تمّ الاتّفاق على وثيقة
سريّة باسم "مشاريع التغيير في العالم العربيّ". كان من نتائجها تأسيس أكاديمية
التغيير لتدريب الناشطين على تكتيكات التحرّك في الشوراع والميادين لإسقاط الأنظمة،
وتولّى إدارة الأكاديمية الدكتور هشام مرسي وهو صهر الشيخ يوسف القرضاوي(12).
في بداية تحرّكات ما سُمّي بثورات الربيع العربيّ شاركت أكاديمية التغيير عن طريق
عدد من المدونين والناشطين والهاكرز بعملية أطلق عليها "العملية التونسية"، أدّت
إلى تحريك الجماهير التونسية للنزول إلى شوارع العاصمة لإسقاط النظام التونسيّ،
وأديرت العملية التونسية من واشنطن.
وفي مصر برز دور "كوهين" عن طريق تحريك الناشط المصريّ "وائل غنيم" الذي كان وكيلاً
لشركة غوغل في مصر. وتولّى غنيم التأثير على تحريك الاحتجاجات المصرية، في 25 يناير
من عام 2011م من خلال صفحة "كلنا خالد سعيد" وخطاباته التلفزيونية.
د- التواصل الاجتماعيّ وإشعال سوريا:
في عام 2011م، برز دور الناشطين في إثارة الأحداث في سوريا، ومن هؤلاء "أسامة
المنجد" و"فادي السيد" و"رامي نخلة" الذين تدرّبوا على "تكتيكات إسقاط النُظُم"،
وكانوا من أوائل الناشطين الذين بثّوا فيديوهات حول أحداث محافظة درعا السوريّة
بدوافع طائفيّة.
وفي عام 2012م، ظهر دور غارد كوهين في التخطيط لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ
ومحرِّك غوغل على الإنترنت لإسقاط النظام في سوريا. فقد نشرت ويكيليكس وثيقة تؤكّد
أنّ كوهين اقترح أداة لرسم الخرائط لرصد الشخصيات المنشقّة عن الرئيس الأسد(13).
هـ- منظمة لبنانية: منصّةٌ أميركيّة افتراضيّة:
منظمة مينابوليس (Menapolis) اللبنانية وشعارها "إعادة التفكير في الشرق الأوسط"،
تتحرّك من خلال مركَزيها في بيروت وإسطنبول. ومساحة عملها في لبنان وبلدان الشرق
الأوسط. أسّستها الناشطة الأميركية كاثرين ماهر، ويديرها ناشطون لبنانيون، وهم من
الوجوه المعروفة في وسائل الإعلام والفضائيات اللبنانية، وقد نشطوا في أكثر من تحرك
شهدته الساحة اللبنانية خلال عامي 2015م - 2016م تحت عناوين مطلبية واجتماعية (كان
أبرزها ملف النفايات). وتتلقّى المنظمة التمويل من مبادرة الشراكة الأميركية الشرق
أوسطية (MENA).
تعمل مينابوليس (Menapolis) على التفكير والتخطيط وتقديم الاستشارات وتدريب
الناشطين على الحراك المدنيّ، وخاصةً عبر استراتيجيات وتكتيكات الاستخدام السياسيّ
لوسائل التواصل الاجتماعيّ كما تنصّ وثيقة تأسيسها وأهدافها(14).
4- وسائل التواصل الاجتماعيّ تجسّس استخباراتيّ:
على مستوى الدور التجسسيّ والاستخباريّ تعدّ شبكات التواصل الاجتماعيّ أضخم عملية
تجسس عرفها التاريخ، إلى درجة دفعت الباحث الأميركيّ مارتن كيني (Martin Kenney)
إلى الحديث عن "مشكلة التجسّس في وادي السيليكون"، حيث تقع مقرّات شركات التواصل
الاجتماعيّ.
كما أوضح "جوليان أسانج" مُسرِّب وثائق ويكيليكس: "أنّ شبكات التواصل الاجتماعيّ
أضخم وأخطر جهاز تجسّس واستخبارات ابتكره الإنسان وعرفته البشرية منذ فجر التاريخ؛
لأنّ المستخدم للشبكة يتبرّع مجّاناً بوضع المعلومات والصور والفيديو والتعليقات
والآراء عن ذاته ودائرة زملائه ومحيطه الاجتماعيّ، وهي معطيات غالباً ما تكون مهمّة
ومفيدة وموثوقة"(15).
ثمّ إنّ من بين ملايين الصور التي تقوم وكالة الأمن القومي الأمريكية بجمعها
يومياً، هنالك حوالي 55 ألف صورة ذات جودة ووضوح تجعلها صالحة لغايات التعرّف على
الوجوه(16).
ويبلغ الرقم الإجماليّ لما تقرأه وكالة (CIA) يومياً من تغريدات لمراقبة بعض
المستخدمين أكثر من 5 ملايين تغريدة(17).
وفي السياق نفسه، برز دور جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في رصد شبكات التواصل
الاجتماعيّ من خلال وحدة "حتساف"، وهي تابعة بالكامل لشعبة الاستخبارات العسكريّة
(أمان). وتتابع وحدة "حتساف" الإسرائيليّة شبكات التواصل الاجتماعيّ العربيّة،
(فايسبوك وتويتر، وغيرهما)، وتقدم تقارير منتظمة عنها لجهاز الاستخبارات؛ لكي
يتمكّن القادة من رسم صورةٍ حول توجّهات الشارع في الوطن العربيّ(18).
وفي هذا الإطار أشارت تقارير صهيونية عدّة إلى أهمية مواقع التواصل الاجتماعيّ في
المدن اللبنانية؛ إذ يقول مصدر في الوحدة "8200" أنّهم حصلوا على معلومات عن مزاج
الجماعات المؤثّرة في مدينة صيدا اللبنانية مثلاً ودرسوا أثر ذلك على مكانة "حزب
الله" في لبنان.
ختاماً، يجب التنبّه إلى كيفيّة استخدامنا لوسائل التواصل هذه، لجني فوائدها
وإيجابيّاتها في تلبية حاجة الإنسان إلى التواصل وتكوين صداقات، أو تنظيم الحملات
المطلبيّة الشعبيّة، أو البحث عن فرص عمل، إضافة إلى زيادة فرص الإبداع لدى
الكثيرين... إلخ. يبقى أن نحذر من إعطاء المراقبين فرصة التجسّس علينا وتدمير
مجتمعاتنا بأيدينا نحن.
(1) السفير، تقرير: "لماذا خسر دونالد ترامب وادي السيليكون" للكاتبة داليا
قانصو، 04/11/2016م.
(2) وادي السيلكيون أو Silicon valley هو أهم منطقة للصناعات التكنولوجية العالمية
لأجهزة الكومبيوتر والاتصالات جنوب كاليفورنيا.
(3) تقرير: "مركز بيو للدراسات" نشرته جريدة النهار متوفر على الرابط:
http://newspaper.annahar.com/article/116498
(4) تقرير "سنودن يفجّر حرباً أوروبيّة ضد أميركا في 2016م" الكاتب أحمد مغربي، نشر
موقع المدن، بتاريخ 21/1/2016م.
(5) التقرير باللغة الإنكليزية متوفر على موقع مجلس الاستخبارات القومية:
https://www.dni.gov/index.php/about/organization/global-trends-2030
(6) كتاب العصر الرقمي الجديد: إريك شميدت، وغارد كوهين، ص 10-15.
(7) وثيقة "المرصد يفتح ملف القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية":
http://www.aljazeera.net/programs/the-observatory/2014/9/25/
المرصد-يفتح-ملف-القنوات-الأجنبية-الناطقة-بالعربية
(8) https://www.whitehouse.gov/administration/eop/ostp/pcast
(9) تقرير "الربيع العربي بدأ في.. كوبا" للكاتب محمد مرعي، جريدة الأخبار - دوليات
العدد 2263/4 نيسان 2014م.
(10) مقالة: "غارد كوهين مهندس الديموقراطية الرقمية لتأليب الشباب الإيراني" كتبها
سكوت ريتر، نشرت على موقع:
http://www.assafir.com/Windows/PrintArticle.aspx?ArticleID=164456&
(11) مقالة: "كيف يعيد الربيع العربي ترميم سياسة أوباما الخارجية" لرايان ليزا،
How the arab spring remade obama’s foreign policy نشرت على موقع المجلة:
www.newyorker.com
(12) مقالة: "كتاب فرنسي عن الربيع العربي والغرف السوداء" للإعلامي سامي كليب، نشر
جريدة السفير، بتاريخ 13/5/2013م.
(13) تقرير: "غوغل طموحات ثورية في سوريا" للكاتبة نادين كنعان، جريدة الأخبار،
العدد 2845، الأربعاء/ 23 آذار/ 2016م.
(14) http://menapolis.net/about.php.
(15) مقابلة مع "أسانج":
www.it-scoop.com/2011/05/facebook-spying-machine-assange-wikileaks
(16) تقرير: "أميركا تجمع ملايين الصور يوميا من مواقع التواصل للتعرف على الوجوه"
نشرته قناة المنار بتاريخ 5/6/2014م:
http://www.almanar.com.lb/wap/edetails.php?eid=861111
(17) تقرير: "تويتر يواجه مصيراً مجهولاً"، الأخبار، العدد 3017، الأربعاء/26 تشرين
الأول/ 2016م.
(18) تقرير: "تل أبيب - الجيش يرفض إلغاء وحدة الاستخبارات التي تُراقب مواقع
التواصل الاجتماعيّ"، لزهير أندراوس، موقع رأي اليوم، بتاريخ 28/10/2016م.
تعليق على مقال مواقع التجسس الاجتماعي
حسين
2017-03-29 11:56:18
محتوى التعليق على مقال مواقع التجسس الاجتماعي