د. علي كريِّم(*)
باتت وسائل التواصل الاجتماعيّ إحدى أهمّ شبكات الاتّصال
العالمية التي فتحت بوابات للتعارف والتخاطب والتعبير عن الرأي وتقديم الذات بين
شرائح اجتماعية واسعة في عالم افتراضيّ على امتداد الكرة الأرضية، فضلاً عن
اعتمادها كمنصّات في تصدير القيم والشعارات والرؤى السياسيّة والاجتماعيّة
والثقافيّة وغيرها.
* التحدّي الأكبر: حسن التوظيف
مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعيّ، وفي ظلّ عدم القدرة على تجاوز
الواقع أو تجاهله، يبرز التحدّي الأكبر في القدرة على حسن التوظيف لهذه الوسائل.
فليس المطلوب محاربتها، أو مواجهة الناشطين، أو حتّى مخاصمة الفاعلين، بل لا بدّ من
التعامل الواعي والمسؤول والهادف، سواء من قبل هؤلاء الناشطين والفاعلين، أو من قبل
الجهات المطّلعة والمسؤولة والمواكِبة، والتي تبدأ من الفرد الناشط على هذه المواقع
ولا تنتهي فقط عند حدود الأسرة، بل تتعدّاها إلى مختلف التشكيلات والهيئات والقوى
والتنظيمات الناشطة اجتماعيّاً (من مدارس، إلى جامعات، إلى منظّمات شبابية،
وغيرها...). فالجميع مسؤول، وعليه تحمّل مسؤولية التصدّي، فما هو الدور المطلوب في
هذا المجال؟
لكي نحسن توظيف هذه الوسائل بشكل وافٍ، لا بدّ من عرض جملة من النقاط المساعدة
على تحقيق الدور المطلوب منها، والتي يمكن إجمالها بشكل متسلسل من الفرديّ إلى
الجماعيّ وفق الآتي:
1- معرفة حقيقة شبكات التواصل الاجتماعيّ: بعد التعرّف إلى حقيقة هذه الشبكات،
بدءاً من أسباب النشأة، إلى آليات التوظيف، إلى خلفيات الاستفادة، وصولاً إلى فرص
استغلال الوقت لدى مختلف الشرائح الناشطة، سيُدرك الفرد أنّ شركات المعلومات
والاتّصالات العالمية -والتي تسيطر عليها بنسبة كبيرة الولايات المتحدة الأمريكية-
قد استطاعت أن تستثمر أفضل المهارات والعقول في سبيل استحداث هذه الشبكات وتسهيل
استخدامها بين أكبر عدد ممكن من سكّان المعمورة، فضلاً عن اهتمام أجهزة الأمن
القوميّ في دول عدّة بها، بل وأصبحت مصدراً أساسياً لدى أجهزة الاستخبارات في جمع
المعلومات حول الكثير من الاهتمامات والتطلّعات والمواقف، سواء للأفراد أو
الجماعات. إنّ المطلوب في هذه النقطة بالتحديد هو معرفة الأرض التي يجري العمل
عليها، فهل هي أرض موالية، أم محايدة، أم معادية؟ فذلك قد يُرشد إلى حجم التهديد
المرتقَب.
2- الحرص على قيم مجتمعاتنا: إذ ينبغي لنا المحافظة على المنظومة القيميّة
الخاصّة بمجتمعنا، دون الانسلاب أمام مغريات العالم الافتراضيّ، وإدراك أنّ السهولة
في الاستخدام، والسعة في الخدمات، تُنذران بأمان أقلّ، ويظهر ذلك من خلال رفع
الخصوصية الفردية، وأنّ انكسار المفردات والتعابير اللغوية (فضلاً عن البذيئة
منها)، وأنّ انكشاف حجم المعرفة السطحية، واستسهال الصداقة، وتجاوز الحدود الشرعية
والأخلاقية في التعامل مع الجنس الآخر وغيرها، ستقود بمجموعها إلى تبديد الهوية
الثقافية الخاصة شيئاً فشيئاً. لذا لا بدّ من تعزيز الروابط الاجتماعية الواقعية،
والصلات الرحمية المطلوبة، والصداقات الحقيقية الفاعلة، والضوابط الشرعية الحاكمة،
وخاصّة في التواصل ما بين الجنسين، فضلاً عن مراعاة أدبيّات التخاطب مع الآخر.
3- الاطّلاع على الآثار المترتبة: إنّ مراجعة الأرقام والإحصاءات من حول العالم
لنسب الإدمان، العزلة، هدر الوقت، الانطوائيّة، الغيرة، الصراعات والاضطرابات
النفسية والجسدية، في ظلّ المبالغة التي تقود الكثير من الناشطين إلى جعل هذا
العالم ساحة للتنافس [النرجسيّ] مع الإبراز الدائم للصورة المثالية للذات بعيداً عن
أيّ سلبيات قد تنتقص من الفرد نفسه، لتسيطر عليه نزعة [الأنا]، سيعلم معها الفرد
سبب اندفاعَة الكثير من دول العالم إلى افتتاح العشرات من المراكز المتخصّصة
لمعالجة المدمنين على الإنترنت، وبالتحديد على صفحات التواصل الاجتماعيّ؛ خوفاً من
تفاقم الحالات، وانعكاس ارتداداتها على المجتمع بأسره، ليعود معها الفرد إلى عيش
الحياة بواقعية بعيدة عن المبالغات، فضلاً عن توفير مراكز استشارية لاستقبال
الاستشارات من مختلف الأطراف المعنيّة (سواء الناشط أو من حوله). وهذا يدفع الفرد
منّا ليُدرك أنّه أمام عالم عليه أن يستعدّ له جيّداً، لمواجهة المخاطر التي يمكن
أن تطاله في يوم من الأيام.
4- الوعي في التفاعل: فالتفاعل مع العالم الافتراضيّ لا بدّ من أن يكون عن وعي
مُسبَق؛ إذ ليس المطلوب من كل منّا أن يكون صحفيّاً على صفحات التواصل الاجتماعيّ،
أو أن يكون منتجاً بأدنى حدود الجودة، فيُسجّل السبق في المعلومة، أو الخبر، أو
التعبير عن الموقف قبل الآخر؛ ففي بعض كليّات الإعلام في الغرب، يتعلّم الطالب
الجامعيّ قاعدة جوهرية في العمل الإعلاميّ، هذه القاعدة تُختصر بالأحرف الثلاثة
(S-T-R) وهي اختصار لكلمات أجنبية ثلاث، هي: Stop-Think-React؛ وتعني باللغة
العربية: توقف- فكّر- تفاعل. ولكن للأسف، ثمّة الكثير من مجتمعات العالم لا يدركون
خطورة الأمر، إذ إنّ الهمّ الأساس هو التفاعل دون التوقّف والتفكير في ما يمكن أن
يكون مناسباً للطرح أو العرض على هذه الصفحات أم لا، وكيف يمكن أن يكون لهذا
التفاعل انعكاس على الجمهور، سلبياً كان أم إيجابياً.
5- تحويل التهديد إلى فرصة: فمع الانتشار الواسع لصفحات التواصل الاجتماعيّ،
وقابلية شرائح كبيرة من المجتمع للحضور بفعاليّة على هذه الشبكات، لا بدّ من
التفكير في كيفية توظيف الطاقات بما يخدم مشروع الهويّة الثقافيّة التي ننتمي
إليها. ولا بدّ من أن يكون التفاعل كما نريده نحن، وليس كما يحيكه الآخرون؛ أي أنْ
يكون على طريقتنا وليس على طريقة الآخرين. وهنا يمكن الحديث عن طرح تأسيس جيش
إلكترونيّ فاعل وناشط (على الرغم من صعوبة الطرح في عالم أُنشئ ليتحرّر معه الفرد
من كلّ ضابطة تحدّه)، يقوده القيّمون والمطّلعون وأصحاب البصيرة النافذة، ضمن
مجموعة من الإرشادات والتوجيهات الهادفة، بغية إطلاق المواقف والتعليقات المناسبة،
والترويج لكلّ ما يمكن أن يدعم هويّتنا الثقافية وانتماءنا الثقافيّ.
6- مبادرة الجهات المختصّة لأخذ دورها: إنّ السعي لإقرار القوانين والتشريعات
التي يمكن أن تحمي الناشطين، وخاصّة الأجيال الصاعدة منهم، من الوقوع في غياهب
صفحات التواصل الاجتماعيّ، وإلزام الأماكن العامة بها، يحتاج إلى تكثيف الجهود من
قبل القيّمين من أهل ومدارس وجامعات وهيئات ونوادٍ وقوى شبابية، لأخذ الدور المطلوب
بما ينسجم مع القوانين، وهي بذلك ستساعد على أن تحفظ حدود التعامل النشط والهادف مع
هذه الصفحات.
7- تصدّي النخب: إنّ جميع القوى المثقّفة والمطّلعة والمواكبة لمخاطر الانزلاق
في متاهات العالم الافتراضيّ، عليها أن تتصدّى للتوعية والتوجيه. فالكثير من
الناشطين على هذه الصفحات، لا يدركون الآثار التي يمكن أن تترتّب على الاستغراق
الطويل في التفاعل مع هذه الصفحات، بل وحتّى البيئة المباشرة من حولهم (من أهل
وغيرهم) قد لا تُدرك ذلك، وهذا ما يفرض على كلّ صاحب معرفة واطّلاع أن يُرشِّد
الدخول إلى هذا العالم، لامتلاك إرادة المواجهة الفاعلة.
8- الاطّلاع على التجارب العالمية: فقد سُجلت في السنوات القليلة الماضية
محاولات عدّة لإنشاء شبكات إنترنت، وصفحات آمنة -نسبياً- للتواصل الاجتماعيّ، وهي
جديرة بالتعرّف إليها، حيث استطاعت كل من الجمهورية الإسلامية في إيران والصين
وروسيا، أن تنشئ شبكات تواصل اجتماعيّ وطنية مستقلّة ومنفصلة عن الشبكة العالمية؛
بهدف تحقيق استخدام آمن لهذه التقنية، ولبناء مجتمع افتراضيّ بعيد عن الاستهدافات،
فضلاً عن توظيف قدراتها في سبيل مراقبة المقدَّم على الصفحات العالمية وحجب المواقع
غير المرغوب فيها. ولعلّ المسألة هنا تتعلّق بأصحاب الاختصاصات التقنية في علم
البرمجيّات التكنولوجية الحديثة، الذين يمكنهم تقديم المقترحات العلمية، أملاً
بالتوصّل إلى استقلالية ذاتية في العالم الافتراضيّ.
البصيرة خيرُ سلاح
أمام هذا الدور المطلوب، لا بدّ من أن يعي الفرد منّا، في ظل هذا العالم
الافتراضيّ الكبير الذي يختزل عملية التواصل الاجتماعيّ، حجم المسؤولية الملقاة على
عاتقه، ويتسلّح بالبصيرة الاجتماعية اللازمة، فمع التسليم بأنّ عملية الاستدراج
باتت أسهل من ذي قبل، وأنّ الناس قد جُرُّوا إلى كشف مستورهم وهم مسرورون، هل يبقى
شعار "سنكون حيث يجب أن نكون" أم سيصبح "سنكون حيث يريد غيرنا أن يستدرجنا لنكون"؟
(*) أستاذ جامعيّ، ومدير مديرية الدراسات الميدانية في مركز الأبحاث والدراسات التربوية.