مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مشاهدُ تحيي النفوس

السيّد صادق عباس الموسوي(*)


بعدَ الصلاة والمناجاة والدعاء وقراءة القرآن الكريم، تظهر الأحاسيس الإنسانيّة الراقية التي تجمع ما بين المعارف والعواطف وتحيلُها إلى المواقف.. إنّه صوتُ الزيارة، سلامٌ من مؤمنٍ يتأمّل التقرّب إلى أولياء الله سبحانه ليكونوا طريقاً لمرضاة ربّه تعالى ومعبراً للدخول في ولايته، فيجمع بذلك بين المعرفة بجهادهم وتضحياتهم وبين الإحساس والتأمّل والتمنّي بكونه معهم، ليتحوّل ذلك كلُّه إلى موقفٍ يُحيل تجربتهم إلى واقعٍ مُعاش، ينعكس موقفاً من الحياة وتغييراً إيجابيّاً في السلوك وتماهياً مع القيَم.

*في الزيارة حقيقة حضورهم
لم تكن حياة ومواقف الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى عليهم السلام حدثاً تاريخيّاً يذكره المؤرّخون في حواشي متونهم، ولا هي ذكرى يتألّم أو يفرح بها المحبّون وحسب، إنّما هي قضيّة تستحضر تجربة الماضي للواقع الراهن: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (يوسف: 111). وإذا كان العلم بسيرتهم يتكفّل بالجانب المعرفيّ والنظريّ فإنّ الزيارة بما تتضمّنه من إلقاء التحية والسلام عليهم تُوقظ في الزائر حقيقة حضورهم وصحّة حياتهم وتنفي زيف موتهم، وتؤسّس لنسج علاقة زمكانيّة تشحنُهُ بالعاطفة وتمدّه بالقدرة على التغيير.

حين انتصر أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل وفرحَ أصحابه بهذا الانتصار الذي يعدّ انتصاراً للإسلام، قال له أحد أصحابه: "وددت لو أنَّ أخي شهِدَنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوّك". فالتفتَ الإمام عليه السلام إليه قائلاً: "أَهَوَى أخيك معنا؟"، فقال: "نعم"، فقال الإمام عليه السلام: "شهِدَنا"، ثمّ قال: "ولقد شهِدَنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان"(1).

*قِبلة الجهاد والكفاح
إنّ التحيّة والسلام اللذين يلقيهما المؤمن على الوليّ، والذهاب إلى زيارة روضته المباركة، إعلانٌ واضح عن حالة الانتماء لهذا النهج، وموقف صريح بأنّ الأهداف والغايات والقضايا التي ضحّى المَزور لأجلها، ستكون محور جهاد الزائر وقبلة كفاحه في حياته اللاحقة. قد لا تعني زيارة الإنسان لصديقه أو قريبه في الدنيا هذه المعاني الواسعة لأنّها من مقتضيات الحاجة إلى الاجتماع الإنسانيّ، لكنّ استحضار السابقين إلى رحاب الربّ الجليل، والتمسّك بالسلام عليهم والاهتمام بزيارتهم دون غيرهم، لا يمكن إلّا أن يُعطيا تلك المعاني العميقة.

*الآثار التربويّة والاجتماعيّة
وإذا كان للزيارة نتائج عظيمة حين تُشرق أنوار عالم الآخرة، فإنّ لها آثاراً عميقة في عالم الدنيا، نورد منها بعض الآثار التربويّة والاجتماعيّة:

أوّلاً: تحديد القدوة: في الاجتماع الإنسانيّ يشكّل المثل الأعلى العنوان الذي تنبثق منه غايات عظيمة تتجسّد في المحتوى الداخليّ للإنسان. هذا المحتوى الداخليّ هو المحرّك الأساس للتاريخ والمغيّر لأحوال الأمم والمجتمعات. وبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشريّة صالحاً وعالياً وممتدّاً، تكون الغايات صالحة وعالية وممتدّة، يُطلق القرآن الكريم على هذا المثل الأعلى اسم الإله "المطاع الموجّه"(2). هذا المثل الأعلى تدلّ عليه مجموعة من المعارف الوجوديّة الإنسانيّة، وأكثر ما يجذب إليه القدوة في المجتمع والمتمثّل بسفيره ورسوله، النبيّ والوليّ الذي يُعاينه الناس ويتأثرون بتصرّفاته وأقواله. هذه القدوة تحتاج إلى سلوك لترسيخها، ولا يوجد أفضل من الزيارة كشعيرة تؤسّس لنسج علاقة حميمة ومستمرّة ومحرّكة لهذا الإنسان "وأشهدُ أنّك من دعائم الدين وأركان المؤمنين، وأشهدُ أنّك الإمام البرّ التقيّ الرضيّ الزكيّ الهادي المهديّ...، السلام عليكم يا... أمناء الرحمن وسلالة النبيّين وصفوة المرسلين وعترة خيرة ربّ العالمين...". بهذا المعنى، فإنّ الزيارة تُبقي القدوة حاضرة، فتجذب الناس إلى المثل الأعلى الحقيقيّ الذي يمثّل الغايات الإنسانيّة، ويحرّك البُعد الداخليّ للجماعة، الأمر الذي يشكّل دعامة عظيمة للتغيير.

ثانياً: تعزيز الانتماء وصيانته عند الجماعة: مقابل تعسُّف المستكبرين، ومحاولتهم القضاء على قضيّة أهل البيت عليهم السلام التي لن تُبقي على عروشهم لو تحقّقت، وسعيهم الدؤوب لمحو ذكرهم من الأذهان والقلوب عن طريق منْع الالتقاء بهم في حياتهم وحظر زيارتهم في مراقدهم؛ نرى أنّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى عليهم السلام قد كثُرت حول الحثّ على الزيارة ببيان تفضيلها على كثيرٍ من الأعمال وبذكْر ما تعدل من عبادات وما تفيض من حسنات، سواء أكانت من قريب أم من بعيد، وسواء مع الأمن والرخاء أو مع الخوف والدماء، في الأعياد وليالي القدر والمناسبات أو لقضاء الحاجات ونيل التطلّعات. كلّ ذلك يؤكّد أصالة الزيارة في حفْظ الاتّجاه الفكريّ للمعصوم أوّلاً، وصيانة الانتماء لهذا التيار؛ بل لتعزيزه في قلوب الموالين ثانياً: "سلْمٌ لمَن سالمكُم وحرْبٌ لمَن حاربُكم". كما إنّ مضامين الزيارات المنسوبة للشارع المقدّس تحوي معاني ومرامي تؤكّد، إضافةً إلى حفْظ الانتماء وتعزيزه، ضمان عدم تحريف غاياته وتزوير أهدافه؛ ذلك أنّ الظالمين إذا لم يُفلحوا في نزْع الولاء فسيسعون إلى تحريفه.

ثالثاً: بناء وتثبيت القيَم والسلوكيات: في ساحة التحدّيات، والميدان الأرحب لصراع الحضارات، تشكّل القيَم الإنسانيّة الأهداف الكبرى لهذا الصراع المتنامي، ويُعتبر حفْظها أولويّة عند أهل البصائر؛ بحيث تُعتمد القوى الناعمة للحفاظ عليها. وقد تكفّل الشارع المقدّس ببيان وسيلة نافذة في القلوب تضمن استمرار هذه القيَم، ألا وهي الزيارات؛ ففي الزيارة نرى قيَم رفض الظلم والتبرّؤ منه "... وبالبراءة من أعدائك، وممّن قاتلكَ ونصَبَ لك الحرب، وبالبراءة ممّن أسّسَ أساسَ الظلم والجور عليكم، وأبرأُ إلى الله وإلى رسوله ممّن أسّسَ أساسَ ذلك، وبنى عليه بنيانه، وجرى في ظلمه وجوره عليكم وعلى أشياعكم"(3)، وقيَم المعرفة "فأسألُ الله الذي أكرمني بمعرفتكم ومعرفة أوليائكم.".(4)... وفي موارد متعدّدة يذكر الله تعالى القيَم الكماليّة وأضدادها، ويلفت إلى محامد صفات الأئمة وما يقابلها من ذميمها، ما يسهّل على الموالين التمييز بينها والعمل بها والتمسُّك بأصولها. إضافةً إلى ذلك نجد السلوك الموافق للشرع الذي يُنسب للمزور ويترك آثاراً إيجابيّة على الزائر، كالصلاة "أشهد أنّكَ قد أقمتَ الصلاة"، والزكاة "وآتيتَ الزكاة" والإصلاح "وأمرت بالمعروف ونهيتَ عن المنكر"، والجهاد "وأشهدُ أنّكَ جاهدتَ في الله حقّ جهاده"، والعبوديّة المطلقة لله تعالى والإطاعة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم "وأطعتَ اللهَ ورسوله..".

رابعاً: المزْج بين الألم والأمل: من الخطوات التربويّة الراقية، أن يبقى الألم عنواناً بارزاً في المجتمعات، لكنّه، وحتّى لا يؤدّي إلى الإحباط واليأس، يمتزج بالأمل الواعد، فيمدّ المجتمعات بطاقة حراريّة معنويّة هائلة تجعلهم يستفيدون من الماضي بمعالجة الجراحات وتخديرها، ويستغلّون المستقبل للانطلاق والتقدّم الحضاريّ. وقد جمعَت الزيارات هذين العنوانين المتضادّين، حيث نعيش الألم: "لقد عظمَت الرزيّة وجلّت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل الإسلام..." "وأن يرزقني طلب ثاركم مع إمامٍ ظاهرٍ ناطقٍ بالحقّ منكم..." "السلام عليكَ يا وعدَ الله الذي ضمنه... السلام عليك أيّها الإمام المأمون، السلام عليك أيّها المقدّم المأمول...". هذان الجناحان يشكّلان ضمانة تربويّة للمجتمعات من السقوط، ورهانٌ دائم للتقدّم والنموّ والاستمرار.

إضافةً إلى هذه الآثار فإنّ الزيارات تُحيي روح الثورة وتعزّز روحيّة الفداء وتُشيع الثقة بالنفس وتجمع الموالين على قواسم مشتركة تمتّن وحدتهم وتطرح النموذج الأمثل في المجتمعات وتوفّر الأرضية المناسبة لاجتناب المحرّمات.. وغيرها من النتائج الماديّة والمعنويّة التي تتوزّع على ميادين الاجتماع والسياسة والتربية والفكر وغيرها.


(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.
1- نهج البلاغة، من كلام الإمام علي عليه السلام، رقم 12.
2- السنن التاريخيّة في القرآن الكريم، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص108.
3- من زيارة عاشوراء المرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام.
4- (م.ن).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع