كنتُ في الخامسة من عمري عندما أهداني والدي، دون مناسبة، لعبةً جميلة ثوبها
الأحمر يُغطّي جسدها كلّه حتى لا يكاد يظهر منها إلا وجهاً مبتسماً يبعث السعادة في
قلبي الصغير... لم أصدق نفسي عندما أخذتها بين ذراعي وضممتها بقوة، وكم حكيت لها
الحكايا لتغفو وأنا أبحث في غرف منزلنا الكبير في الجبل عن زاويةٍ صغيرة أوسِّدها
فيها دون جدوى، اختلق العذر حجة لرغبتي في أن تبقى ذراعي وسادتها طوال الليل...
شعرتُ بيد أمي ترد الدثار عليّ وأنا أمسك بلعبتي التي لا أذكر أني اخترت
لها اسماً، وكان من عادتي أنني إذا انتصف الليل انسللتُ من مرقدي وتوجهت على رؤوس
أصابعي صوب سرير أختي الكبرى الملاصق لشباكٍ عالٍ تظهر من خلاله مدينة بيروت كعروس
بحرٍ تتلألأ بين الأصداف... لم أفقه يوماً سر ولعي الشديد بمنظر بيروت منتصف الليل،
غير أني أذكر كيف كنتُ أضع رأسي على وسادة أختي وعيناي تحملقان بالأضواء البعيدة،
فتبدو لي بيروت كأنها سوار مرصّع بأروع الأحجار النفيسة في يد ليل حالم، فتقاوم
أهدابي النعاس، لكن يسلبني النوم من حلمي، ثم أفتح مقلتاي على ملامحٍ ضائعة لبيروت
بين خطوط الشمس الحادة لتجعلها مجرد مكان بعيد...
كانت مدينة بيروت لوحة أشاهدها من
خلف زجاج بيتنا أو زجاج السيارة التي كانت تشقُ بنا الطريق بسرعة على طرقاتها
الواسعة عندما يصحبنا والدي في زيارة لابتياع حاجاتنا، فكنتُ ألصق وجهي بالزجاج
وأنفاسي ترسم غشاوة رقيقة أمسحها كل فينة لتصبح الرؤية أكثر وضوحاً، وأتمنى لو أني
أستطيع فتح الباب لاندفع بقوة راكضةً على الأرصفة التي تغص بالناس من كل حدبٍ
وصوب...
لن أنسى ذلك المشهد الرائع ما حييت؛ بيروت لوحة ليلة رائعة، وعيني طفلة لا يطفىء
تكرار المنظر بداخلها نار الانبهار... وفي عصر أحد الأيام كنتُ على الشرفة ألعب
بلعبتي الصغيرة، فيما أبي وأمي يرتشفان القهوة مع الجيران، فتناهى إلى سمعي صوت أبي
وهو يقص عليهم كيف تحولت شوارع بيروت إلى متاريس حصار ودشمٍ ونيران، لم أفهم تلك
الكلمات، لكنَّ جملة واحدة أرعبتني: "إسرائيل ستحتل لبنان بحربٍ مدمِّرة"... الحرب،
الرصاصة الأولى التي اخترقت حلمي، ولم أستطع النوم تلك الليلة وأنا أحدِّق ببيروت
وبيدي لعبتي التي الصقتُ وجهها بالزجاج وصوت والدي يتردد في داخلي وهو يلفظ كلمة
"إسرائيل"...
بعد يومين كنا نقف على الشرفة نشاهد بيروت تحترق، ووالدي وأصدقاؤه يتحادثون بأشياء
لا أفقهها، لكن كلمة "إسرائيل" كانت فاصلةً مهمة بين جملهم... لم أسأل أحداً عن
معنى هذه الكلمة، ولكنّ هذا السؤال لم يغادرْني طرفة عين، خصوصاً بعد أن صارت بيروت
مكاناً غارقاً بالظلام، وبتُّ أنام الليل بطوله في سريري... وبعد شهرٍ واحدٍ
استيقظتُ قبل بزوغ الفجر واخوتي، على صوت طرقاتٍ على الباب لأقارب لنا أخذونا على
عجلٍ إلى قريتنا، حيث عرفتُ أن إسرائيل تلك الكلمة المشؤومة، قتلت والدي...
لم يعد ثمة حلم، صار كل شيء محفوفاً بالحزن والخطر، ولم نعد نجلس في بيتنا إلا
فتراتٍ متقطعة، كنا نضطر خلالها إلى السير بين المسلحين الذين لا يظهر من وجوههم
سوى عيون مرعبة... أما الليل فكنا نقضيه في ملجأ يجمعنا والقلة من أهل القرية
الجبلية التي غادرها أغلب قاطنيها... سنة مرت واجتاحت إسرائيل لبنان، وكنتُ ألقن
نفسي يومياً ما فعلته بنا، واسأل نفسي، وأنا في عتمة الملجأ وحرِّ حزيران يخنقني:
هل هذه نهاية كل شيء؟! أم أنه ليس هناك بعدُ أي شيء! وذات نهار فاجأتني ضحكة
جارنا الذي لم يفارق المذياع أذنه، نظر الجميع إليه، فقال: "إسرائيل تواجه
مأزقاً في خلدة، هناك مجموعة من الرجال يواجهونها..." ابتسمت لم أعرف لماذا، لكني
شعرتُ بالهدوء في زمن الخوف...
كانت بيروت شبه مدمرة، وكنتُ وإخوتي نغادر منزلنا دون أن أستطيع حمل حتى اللعبة
الأخيرة التي اشتراها لي والدي قبل استشهاده، بعد أن أجبرنا عملاء إسرائيل بمغادرته
بخُفي حُنين، فكان أن التجأنا إلى الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت على أمل العودة
إلى منزلنا، وهناك، في تلك الزواريب الضيقة الموسومة جدران بيوتها بشعاراتٍ دينية
وثورية وصورٍ للإمام الخميني قدس سره وإمضاء اخترق روحي "المقاومة الإسلامية حزب
اللَّه"، عرفتُ أن حلماً آخر ولد بين الرصاص، وأن تلك الثلة القليلة من الرجال
الذين واجهوا على مثلث خلدة وانتصروا، كانوا بمثابة وردة نبتت بين شظايا حلمي، وردة
رفدتني بالكثير من القوة وأعطتني عوض منزلنا الذي لم أره مذ غادرته طفلةً، وطناً
حراً مصاناً، كانت المقاومة الإسلامية الكلمة الجميلة مقابل الكلمة السرطانية
"إسرائيل"، وفي مقابل ما أخذته الغدة السرطانية من حياتي، فقد ردت المقاومة حياةً
عزيزة لأمَّة بأكملها، صحيحٌ أن إسرائيل أخذت الكثير منا، ولكنها جعلتنا نعرف
حقيقتنا وجدوى وجودنا... المقاومة الإسلامية في لبنان كانت بسمةُ الأمل في زمنٍ كان
مليئاً، ولا يزال بالدموع...