تحقيق: جنان شحادي
تتحدث ريم عن صديقتها ولاء التي لم تحفظ عهد الصداقة معها (وخانت الخبز والملح)، وترفض الحديث عن السبب الذي أدّى إلى قطع علاقاتهما.
أما ولاء فتقول: "طلبوا مني في المؤسّسة التي أعمل بها أن أشهد لريم بحسن سلوكها، وبقدرتها على أداء المهام التي تتطلّبها الوظيفة التي تقدمت لها ريم. كانت صديقتي المقربة وأشبه بشقيقة لم تلدها أمي، ولكن ذلك لا يعني أن أُقر بصفات ليست فيها، وأن أحمّل نفسي وضميري عبء شهادة مزيفة".
قصة ريم وولاء هذه قد تجد المئات منها، بل الآلاف، ففيما لو جلست لبرهة وحدك، ستتذكر قصة شبيهة بهذه، حدثت معك، أو مع أحد أفراد عائلتك، أو حتى سمعت بها من جيرانك أو أقارب لك، ستجد أن أبطال الحكاية تغيّروا، وأنّ الزمان والمكان تبدَّلا، لكن الحبكة هي هي، السيناريو ذاته: "قصص صداقة وأخوة تحولت إلى قطيعة تامة". في تحقيقنا هذا سنحاول أن نجيب عن سؤال: "كيف نحافظ على صداقاتنا؟ وكيف نحوّل القطيعة إلى اختبارات لأنفسنا؟" والكثير من النقاط الأخرى سنستعرضها في تحقيقنا هذا.
*حكايات وعبر
جولة بسيطة قمنا بها على عدد من الطلاب الجامعيين كانت كفيلة بأن تظهر لنا كم من صداقات وعلاقات أُخوَّة باتت، اليوم، مقطوعة وفي طيّ النسيان!!
تتحدث فاطمة (23 عاماً) عن صديقتها فرح (22 عاماً) وصداقتهما التي كانت تلفت نظر الجميع، "كنا نذهب إلى الجامعة سوياً، ندرس، نفكر معاً ونتخذ القرارات ذاتها، (كنا الروح بالروح)، إلى أن قرّر شقيق فرح التقدم لخطبتي، حينها صُدمت بموقفها المعارض، عندما لم تعتبرني أهلاً له، وقاطعتني منذ ذلك الحين...".
ولبتول (19 عاماً) قصة تختلف تماماً عن قصة فاطمة، حيث تشير إلى أنها قطعت علاقتها بصديقتها مريم (20 عاماً) بسبب والدة الأخيرة: "فبعد صداقة دامت لأكثر من عشر سنوات، كنا خلالها كالأختين، اضطررت لقطع هذه العلاقة بعدما عمدت والدة مريم إلى الاتصال بوالدتي لتطلب منها أن أبتعد عن ابنتها، من غير أن توضّح السبب!".
*من الأخوة الى الصداقة
وانتقالاً من مبدأ الأخوة إلى مبدأ الصداقة، يعتبر السيد "بلال وهبي" أن الإسلام آمن بمبدأ الصداقة "فدعا إلى بناء العلاقات بين أفراد البشر إيماناً منه بحاجة الإنسان إلى هذا النوع من العلاقات، لأن الإنسان يتطلب الصداقة ويبحث عنها ويبنيها مع الآخرين لحاجته إليها، ولهذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "الصديق أقرب الأقارب"(1)، وفي حديث ثانٍ يقول عليه السلام: "الأصدقاء نفس واحدة في جسوم متفرقة"(2).
*صفات الصديق: معايير وشروط
وحول الكيفية التي يجب أن يختار الإنسان المؤمن صديقه على أساسها، والشروط التي يجب أن تتوفر فيه، يجيب السيد بلال وهبي شارحاً: "الصداقة مؤثّر مهم في صياغة وتنمية أخلاق الإنسان سلباً أو إيجاباً. فالصديق زينة وينبغي للإنسان أن يصادق من يتزيّن به لا من يشينه ويعيبه".
فعن الإمام الجواد عليه السلام: "إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره، ويقبح أثره"(3).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "انظر إلى كل من لا يفيدك منفعةً في دينك فلا تعتدن به، ولا ترغبن في صحبته، فإن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحل، وخيمٌ عاقبته"(4).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاك وصحبة الأحمق الكذاب، فإنه يريد نفعك فيضرّك، ويقرّب منك البعيد، ويبعد منك القريب، إن ائتمنته خانك، وإن ائتمنك أهانك، وإن حدّثك كذبك، وإن حدّثته كذبك، وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً"(5).
*الصديق وقت الضيق
محمد (22 عاماً) الشاب الجامعي الذي اضطر لترك جامعته لمدة سنتين بسبب الظروف المعيشية والمادية الصعبة التي مرت بها عائلته بعد وفاة والده، يتحدث عن سامر، (الصديق الذي كان صدوقاً) كما يصفه، ويقول: "كنا أنا وسامر لا يترك أحدنا الآخر، أعرفه منذ الصفوف الابتدائية، وتطورت علاقتنا فيما بعد لنصبح كالأخوين، كنت أنتظر منه أن يعينني على الحياة بعد وفاة والدي وتدهور وضع أسرتي، إلا أنني لم أجده بجانبي في أحلك الظروف، لقد خاب ظني به".
أستاذ علم الاجتماع الدكتور طلال عتريسي يرى أن الصديق "هو الشخص الذي نجده بجانبنا عندما نحتاج إليه، ونثق به، لأن الصديق لا يفشي أسرارنا أو مشاكلنا، لا يحقد، بل يسامح، ويقبل الأعذار... إنه الشخص الذي نرتاح إليه". صفات قدمها الدكتور عتريسي كمعيار في اختيار الصديق.
وللصداقة دور كبير على المستوى النفسي، والاجتماعي، وهي عنصر هام في تمتين روابط الأفراد وتعاونهم على تحدّيات الحياة، حيث يشير الدكتور طلال عتريسي إلى أن "الصداقة الحقيقيّة التي أشرنا إليها مهمة على المستوى النفسي لأنها تجعل الهموم أقل تأثيراً". والصداقة تجعلنا نشعر بأننا لسنا وحدنا، أي أنها نقيض الوحدة أو العزلة التي قد تسبب الاكتئاب للإنسان، وهي مهمة على المستوى الاجتماعي. والصديق يتيح لنا فرصة لنتعلم كيف نتعامل مع الآخر الذي يختلف عنا، فمع الصديق يمكن أن نناقش القضايا التي تزيد من وعينا الاجتماعي....
*قصة لم تمحها السنون
تتنهد الحاجة لطيفة طويلاً، وتتبع تنهيداتها بعض التمتمات غير المفهومة، وتبدأ بسرد قصتها: "كنت وجارتنا زهرة (أحلى من السمنة على العسل)، أعرفها منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ساعدت إحدانا الأخرى في كل شيء حتى في أعمال المنزل اليوميّة، خبزنا سوياً وحضّرنا المؤن الشتويّة معاً، فرِحتُ لأفراحها، وحزنت لمصائبها. ولكنها رفضت أن تبيع أرضها لابني المغترب الذي عاد من أفريقيا راغباً الاستقرار في قريته، مع أنها لطالما عبرت عن رغبتها في بيع قطعة الأرض هذه (لتيسير أمور أولادها)، ولما كان المشتري ابني، رفضت!!".
*آثار القطيعة
وقد لا يدرك الكثير من الأشخاص أن للقطيعة آثاراً على الفرد والمجتمع، وأن الصداقات التي تُقطع قد لا تعود لتتكرر في هذه الحياة، وقد لا تصادف مرة ثانية صديقاً كالذي قطعته، فتبقى نادماً طوال حياتك. فكرة يعبّر عنها السيد بلال وهبي بقوله: نهت الروايات الشريفة عن القطيعة الكاملة وإيصاد الأبواب بشكل نهائي، وحثت في ذات الوقت على إبقاء السبل مفتوحة بين المؤمن وأخيه، والصديق وصديقه ولو بالحد الأدنى، فلربما اضطرتك الأيام للعودة إلى من قطعته"، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب"(6).
*استمرار الصداقة والمحافظة عليها
تعتبر جنى السيّدة الثلاثينيّة أنّ المحافظة على الصديق أمر بغاية الصعوبة، وهو يتطلّب الكثير من الصبر والتضحية. وتؤكد أن علاقاتها بصديقتها حنان، تعثرت في كثير من الأحيان، لكنها لم تُقطع يوماً، فمن واجبي تحمل سيئات صديقتي، (ما في حدا ما بيغلط).
"ربّما تكون المحافظة على الصحبة أهمّ، بل وأصعب من بنائها"، جملة يقولها السيّد بلال وهبي ويضيف: ذلك أن كثيراً من الصداقات يولد صدفة كأن يجمع سفر بين اثنين أو وظيفة أو جلسة أو ما شابه، فتنشأ بينهما صداقة، لكن المحافظة عليها أمر بالغ الأهمية وربما تكون أمراً صعباً. وقلّة هم الناس الذين يحفظون أصحابهم، ويبقون على مودتهم، ما طالت الأيام. هؤلاء موفّقون بلا شك، وممدوحون في الناس، إذ يقال: فلان يحفظ الصحبة".
ويعتبر السيد بلال وهبي أن من أهم الأسباب التي تحفظ الصحبة هو عندما تكون في الله، فكل ما كان لله تعالى يُكتب له الدوام والاستمرار والخلود، حيث قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف: 67)، ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "على التواخي في الله تخلص المحبة"(7).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "تحتاج الأخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلّا تباينوا وتباغضوا، وهي: التناصف، والتراحم، ونفي الحسد"(8). وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تضيعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه"(9).
*بناء الصداقة بطرق سليمة
ولعلم الاجتماع رأي في كيفيّة بناء الصداقات على أسس سليمة، وفي طرق المحافظة عليها، حيث يشرح الدكتور طلال عتريسي رأيه قائلاً: "المحافظة على الصداقة تحتاج إلى الالتزام بشروطها مثل: الوفاء، والصدق (والصداقة مشتقة من الصدق)، والتعاون في أوقات الشدة، وتقديم العون، وعدم إيذاء الصديق حتى بالتجريح أو بالتهكم".
أما بناء الصداقات بطريقة سليمة فيتأثر بالمرحلة العمريّة التي نعقد فيها الصداقات تبعاً لما يراه الدكتور عتريسي: "ففي المراحل الطفولية على سبيل المثال لا تستمر هذه الصداقات طويلاً، وفي مرحلة الفتوّة تتأثر الصداقات بالحالة الانفعاليّة. واستمرار الصداقة يتعلق بكيفية اختيار الصديق: كالتوافق الثقافي، التوافق الأخلاقي، والاهتمامات المشتركة، والتقارب العمري والاجتماعي... أما إذا لم يتوفر مثل هذا التوافق فعلى الأرجح لا تستمر الصداقات طويلاً".
مهما كانت الظروف، ومهما اشتدت مصاعب الحياة، جِدْ صديقاً يكفيك، حافظ عليه جيداً، فقد لا يرزقك الزمن غيره.
1- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص50.
2- م.ن، ص63.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص198.
4- م.ن، ج71، ص191.
5- الأمالي، الطوسي، ص302.
6- الوافي، الكاشاني، ج26، ص239.
7- عيون الحكم، م.س، ص327.
8- بحار الأنوار، م.س، ج75، ص236.
9- نهج البلاغة، من وصيّة الأمير لولده الحسن عليهما السلام.