الشيخ إبراهيم نايف السباعي
من أراد التوبةَ والعودةَ إلى الله، فهذا شهر رمضان شهر التوبة والعودة، ومن أراد الاستقرارَ والقربَ من الله تعالى فهو شهر الدعاء ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة: 186)، ومن أراد إصلاحَ ما فَسُد بينه وبين الله، فهو شهر الأوّابين: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ (الإسراء: 25)، ومن أراد الهداية فهو شهره: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185).
•مميّزات شهر رمضان
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "هذا شهر رمضانُ شهرٌ مُباركٌ، افترض الله صيامه، تُفَتَّحُ فيه أبوابُ الجنّةِ، وتُغَلَّقُ أبوابُ السَّعيرِ، وتُصَفَّدُ فيه الشياطينُ"(1).
فشهر رمضان يتميّز بمجموعة أمور، أهمّها:
1- فتح أبواب الجنّة: وفيه ترغيب للمؤمنين في اغتنام هذا الشهر بالطاعات والقربات.
2- إغلاق أبواب النيران: لأنّ المؤمنين يقلّلون من ارتكاب المعاصي في هذا الشهر العظيم.
3- تصفيد الشياطين: أي تُسَلْسل، والمراد بالشياطين المرَدة منها، وهي أشدّ الشياطين عداوةً للإنسان.
4- المغفرة: وهي هدف العبد الآبق من الله إليه، والمسجون في هوى النفس، الطالب للحرّيّة من المعاصي، فقد شرّع الله تعالى أيّاماً وسنّ أعمالاً، إذا ما قام بها العبد حبّاً له وإخلاصاً وانقياداً له؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
4- العتق من النيران والدعوات المستجابة: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ للهِ عُتَقاءَ في كُلِّ يَوْمٍ ولَيلَةٍ، لكُلِّ عَبْدٍ مِنهم دَعْوَةٌ مُستَجابَةٌ"(2)؛ فعلينا الإكثار من العتق في شهر رمضان، وهذا ممّا يشجّع الصائمين على التسابق لنيل هذا الفضل العظيم: بالإخلاص في العبادات والإحسان في أدائها، وترك المعاصي وهجرانها.
•أهمّ الأعمال في شهر رمضان المبارك
إنَّ العبد في شهر رمضان كيفما تقلّب فيه حصّل الثواب العظيم والأجر الوفير؛ فالنوم فيه عبادة، والأنفاس فيه تسبيح، والدعاء فيه مستجاب. وبالتالي، علينا الإكثار من الأعمال والاجتهاد بالعبادة لتحصيل المضاعفة في الأجر والثواب؛ لأنّه شهر ليس كباقي الشهور، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأجر فيه مضاعف.
إذاً، ما هي الأعمال التي علينا القيام بها للاستفادة من شهر رمضان؟
1- الصوم جُنّة من النار: لقد شرّع الله الصوم لما فيه من المصالح الموصلة إلى تقوى الله عزَّ وجلَّ، والصيام بمثابة تربية للمسلمين على الصبر، وقوّة التحمّل، والإرادة، وفيه قهرٌ للشيطان وغيظه، وفيه تعمّ الرحمة والعطف على الفقراء والمساكين.
فلا ينبغي -وتحت أيّ عذر- أن نفوّت يوماً منه أبداً. كما وعلينا التحلّي والتخلّي؛ التحلّي بالأخلاق الحميدة فيه، والتخلّي عن صفات القبح كلّها، وما يقف أمامنا من أعمال تحول دون التزامنا بواجبات شهر رمضان وتأديتها، فتكون النتيجة للصائم بعد شهر رمضان فرحتين: فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربّه، حيث يخرج من الذنوب كما ولدته أمّه؛ ولادة جديدة وصحف أعمال نظيفة.
2- الصدقة: إنّ الصدقة يوم الجمعة فضلها عظيم ومضاعف، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "الصدقة ليلة الجمعة ويومها بألف..."(3)، فكيف إذا وقعت منه في شهر رمضان؟
الصدقة إن كانت مالاً، ردّه الله تعالى على صاحبه أضعاف ذاك المال بثوابه، وإذا كانت الصدقة طعاماً، فذاك أفضل؛ لأنّ في إشباع بطن جائع الثوابَ الكثير الجاري. وأجمل ما يمكن أن يتقرّب به العبد من ربّه بعد الواجبات هي الصدقة، لذا ذكر تعالى ما يتمنّاه المنافق والكافر بعد الموت: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ (المنافقون: 10)؛ فالكافر والمنافق يطلبان من الله بعد الموت الصدقة؛ وذلك لعلمهما بقيمتها وفضلها.
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما تقع صدقة المؤمن في يد السائل حتّى تقع في يد الله تعالى، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: 104)"(4)؛ وكأنّ الله نزّل نفسه منزلة وليّ الفقراء الذي يقبض عنهم مالهم وينفقه عليهم.
دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة الزهراء عليها السلام، فوجدها تعطّر درهماً في يدها، فسألها: "ما هذا؟ قالت: درهم صدقة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: حسناً، ولماذا تعطّرينه؟ قالت فاطمة عليها السلام: سمعت منك يا رسول الله، أنّ الدرهم الصدقة يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، وقد أحببت أن يقع درهمي في يد الله سبحانه معطّراً"(5). وفي خبر آخر: قالت: أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، والله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً(6).
3- صلاة الليل: قال تعالى عنها: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (الإسراء: 79). فصلاة الليل من أفضل الأعمال التي تقرّب العبد إلى الله تعالى، وتأثيرها على المصلّي عجيب ومفعولها سريع، وقد ورد أخبار في فضلها وفي شأن من يؤدّيها.
فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس من شيعتنا من لم يصلِّ صلاة الليل"(7).
4- قراءة القرآن الكريم وختمه: عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: "الحسنات في شهر رمضان مقبولة، والسيئات فيه مغفورة، من قرأ في شهر رمضان آية من كتاب الله عزّ وجلّ، كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور"(8).
وإنّ تأثير القرآن على قلب العبد المؤمن لعجيب، حيث ترى القلب لا يطمئنّ إلّا إليه؛ لذا كانت الدعوة من الله تعالى دائمة: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 4).
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لكلّ شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان"(9)؛ لأنّ القرآن نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر التي تنزل فيها الملائكة والروح.
5- ليلة القدر: قيل عن ليلة القدر الكثير. والحقّ أنّ ليلة القدر خير من ألف شهر عبادة؛ أي من أحياها كان له أجر ذلك، وهي فرصة تمرّ علينا مرّة كلّ عام، لذا ينبغي استغلالها.
6- التحلّل من الآخرين: قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: 14)، وعن الصادق عليه السلام: "المرصاد: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة"(10).
والمظلمة تقف حائلاً حتّى يتحلّل المرء من الآخرين الذين أخطأ معهم في يوم من الأيّام. ورد عن الإمام زين العباد في دعاء يوم الاثنين:
"اللّهُمَّ إِنّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ نَذْر نَذَرْتُهُ، وَكُلِّ وَعْد وَعَدْتُهُ، وَكُلِّ عَهْد عاهَدْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَفِ بِهِ. وَأَسْأَلُكَ في مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدي فَأَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ أَوْ أَمَة مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها إِيّاهُ في نَفْسِهِ أَوْ في عِرْضِهِ أَوْ في مالِهِ أَوْ في أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ أَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوىً أَوْ أَنَفَة أَوْ حَمِيَّة أَوْ رِياء أَوْ عَصَبِيَّة، غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدي وَضاقَ وُسْعي عَنْ رَدِّها إِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ..." (11).
والتحلّل يكون إمّا بالتواصل المباشر مع صاحب الحقّ، وإمّا بالصدقة عنه -ردّ المظالم- والاستغفار له، وختم القرآن وإهداء ثوابه له، والدعاء له، فتلك المسائل كفيلة بإرضاء صاحب الحقّ بما شاء الله.
7- الدعاء: إنّ إحياء أيّام وليالي شهر رمضان قد يكون فرصة لن تتكرّر ولن تعود، فلنحيها بالصوم والورع عن محارم الله، والعبادة، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والصلاة على النبيّ وآله الأطهار، وقراءة القرآن، والدعاء. وفي كيفيّة الدعاء، فقد ورد في حديث قدسيّ: "أنّ الله أوحى إلى نبيّه موسى عليه السلام: يا موسى، إن أردت أن أجيب دعوتك، فادعني بلسان لم تعصني به. قال: يا ربّ، وهل لي إلّا لسان واحد؟ قال تعالى: سل غيرك من المؤمنين أن يدعوا لك، وادعني أنت لغيرك، فإنّي أستجيب لكما"(12).
1.الأمالي، الطوسي، ص74.
2.كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج3، ص153.
3.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج7، ص413.
4.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج93، ص134.
5.جمعيّة الدرّ المنثور للتنمية.
6.في تفسير سورة الشعراء للشعراوي.
7.وسائل الشيعة، (م.س)، ج8، ص162.
8.بحار الأنوار، (م.س)، ج93، ص341.
9.وسائل الشيعة، (م.س)، ج6 كتاب الصلاة.
10.بحار الأنوار، (م.س)، ج8، ص64.
11.البلد الأمين، الكفعميّ، ص117.
12.بحار الأنوار، (م.س)، ج93، ص359/17 وص342/11.