التحرير
"ادعم المقاومة ولو بثمن رصاصة". شعارٌ لطالما أطلقته هيئة دعم المقاومة الإسلاميّة، لتُشرك شعب المقاومة في الدعم الماديّ، ولو برصاصةٍ ما زال يجمع ثمنها الشعب المضحّي والمُحبّ، لتتوجَّه دون انحراف إلى صدر العدوّ مهما وضع من أقنعة. وبالمناسبة، ما زالت بوصلة تلك الرصاصة موجّهةً نحو العدوّ، على خلاف حملات التشويه الإعلاميّة الكثيرة الموهِمة بتغيير وجهتها.
لكنّ مشكلة "هستيريا الرصاص" باتت جدّيّة وخطرة، تحتاج إلى تفعيل وسائل المكافحة الجذريّة، التي تفوق الكلام على هذه الصفحات وتتجاوزها إلى ميدان العمل الرسميّ والملاحقة الشرعيّة والقانونيّة والشعبيّة أيضاً، خلافاً لِمَا يتداوله الإعلام القاصر بوصف المشكلة أنّها نتيجة وجود السلاح فقط.
كيف تعاطى خطاب المقاومة مع هذه المشكلة؟ وهل تعرّض لها خطاب سياسيّ باستثناء خطاب حزب الله؟
في هذا المقال، نعرض مجموعة كلمات للأمين العام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في سبيل حلّ هذه المشكلة.
* إطلاق النار: عادة سيّئة
في عام 2007م لم تكن مشكلة الرصاص الطائش بارزة كما الآن، وبدأت كابتهاج يرافق الإطلالات السياسيّة، حينها وصفها سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بأنّها "عادة سيّئة يجب التخلّي عنها"؛ وذلك حين ختم كلمته الخاصة بذكرى التحرير عام 2007م بهذا الرجاء: "أقبّل أيادي الشباب (ما حدا يقوّص)؛ فعادة إطلاق النار عادة سيئة. ومن تعب من الاحتفاظ برصاصاته أنا آخذها منه مأجوراً مشكوراً مع الصلاة على محمد وآل محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(1). وختم جملته بابتسامةٍ واضحةٍ دلالةً على طرح الموضوع بمودّة عالية في خطاب حزب الله.
* إنّما تطلقون النار على صدري
فيما حَفِلَ عام 2008م بإنجازات هامّة حقّقتها المقاومة، منها إقفال ملف الأسرى في السجون الإسرائيليّة، وقد أشار سماحته إلى أنّ لبنان البلد الأوّل الذي ينجح فعليّاً في معالجة هذا الملف الشائك مع العدوّ، وأهدى هذا النصر إلى لبنان بكل طوائفه وتيّاراته السياسيّة، في المؤتمر الإعلاميّ الذي عقده بالمناسبة. واللافت أنّ في خضمّ ذلك الإنجاز حضرت مشكلة الرصاص في لغة أكثر جديّة، فقال سماحته: "كلّ من يطلق النار في الهواء إنّما يطلق النار على صدري ورأسي وعمامتي. ومن يطلق النار إنّما يطلق النار عليَّ وعلى المقاومة وشهدائها وإنجازاتها وحضاريّتها. والمحبّون والغيارى يجب أن يفهموا الموضوع بهذا الحجم"(2).
وتعدّت مواقفه حدود الكلام: "سنقوم بمجموعة تدابير لضمان التعاون الشعبيّ في حلّ هذه المشكلة. وأنا أدعو سكّان كلَّ بناية إلى أن يشكِّلوا لجنة تمنع أيّ إطلاق للنار؛ لا لأنّه يخدم العدو فقط، بل لأنّه إطلاق للنار على المقاومة، التي قدمنا -نحن وأنتم وكلّ اللبنانيين- تضحيات جساماً لنرى إنجازاتها ماثلةً أمام أعيننا"(3).
وذلك احترازاً من موجة الرصاص التي قد تشكّل استفزازاً للآخر، حيث دعا سماحته في هذا الخطاب إلى أن يكون الاحتفال جامعاً وحضاريّاً؛ مطالباً المشاركين جميعاً من أي تيّار سياسيّ كانوا عدم إطلاق النار؛ ضماناً للمشاركة الوطنيّة في حدثٍ بحجم الوطن.
* وضع النقاط على الحروف
اختلف المشهد بعد سنوات، وتنامت مشكلة إطلاق النار في ظروف بلد حَبَك العدوّ نسيجه حوله، وراح يوزّع السلاح عبر عصابات وعملاء وجماعات إرهابيّة مسلّحة لتسهّل تداول السلاح في مناطق البلد كلّها.
يأتي خطاب الأمين العام في يوم الجريح ليعالج هذه المشكلة بشكل تفصيليّ خلال كلمته التي يثمّن فيها تضحيات المجتمع الصابر الذي قدّم شهداء أحياء أيضاً، فيحدّد حجم المشكلة وأسبابها وتداعياتها، ويعرض الموقف الفقهيّ منها في استعراض موضوعيّ لظاهرة إطلاق الرصاص:
1- في كلّ مناسبة
حيث يقول سماحته: "إنّ ظاهرة إطلاق النار في الهواء في كلّ مناسبة، موجودة في لبنان، ليست عند جمهورنا فقط، بل عند كثير من اللبنانيين وليس كلّ اللبنانيين. وقد اشتدّت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة بشكل مسيء جدّاً؛ ففي الأعياد يطلق الناس النار، وفي المناسبات السياسيّة، وفي تشييع الشهداء، وأثناء إعلان نتائج الامتحانات الرسميّة أيضاً يطلقون النار. فالذي ينجح في "البروفيه" يطلقون النار احتفاءً به، والذي ينجح في "البكالوريا" (لحّقوا على قواص)، وعند إطلالة أحد السياسيين -ومنهم أنا العبد الفقير- أيضاً يطلقون النار!"(4).
2- رصاصك يرعب الناس
على خلاف الخطابات السياسيّة التي تعالج القضايا بشكل عام لتهرب من التفاصيل، نجد خطاب السيّد نصر الله يعرض تبعات المشكلة ويناقش الأعذار الموهومة أيضاً: "سألنا السؤال التالي: عندما يتمّ إطلاق نار في الهواء، ما هي النتيجة؟ ترويع الناس وإرعابهم. في كل القرى وكل المدن وكل الأحياء، الناس يرتعبون من صوت الرصاص، ومنهم من يظن أن هناك اشتباكاً ما في الحيّ؛ جرّاء صوت الرصاص. هذا ترويعٌ للناس.
يسقط قتلى أو ضحايا أحياناً، أو يسقط جرحى، وتُحرق ممتلكات، فهل يجوز؟ هل يجوز إطلاق النار في الهواء؟ قد يبرر أحد لنفسه بأنّ السلاح سلاحه والرصاصات له، والناس مسلّطون على أموالهم، وأنا أقوم بإطلاق النار في الهواء، وما شأنكم بي؟ كلّا، هذا شأننا جميعاً. فأنت لا تعيش وحدك"(5).
3- حرامٌ عند كلّ المراجع
لطالما تمنّى سماحة السيّد نصر الله (حفظه الله) أن يجري التخلص من ظاهرة إطلاق النار. فقد تنوّع أسلوب الخطاب لديه؛ فتارةً يعرض مخاطر المشكلة وأخرى يُحذّر من الانتهاكات القانونيّة، وثالثةً يذكّر بالتبعات الأخلاقيّة. واللافت عرضه الرأي الفقهيّ للمراجع الكبار في إيران والعراق الذين وَجَّه لهم سؤال عن حكم إطلاق الرصاص في الهواء، فقال:
"أرسلنا استفتاءات خطيّة لعدد من مراجع الدين الكبار في إيران أو العراق -لأنّك إذا قلت إنّ إطلاق النار حرام، سيعترض أحدهم: من أين أتيت بهذه الفتوى؟ لكي لا يتذّرع أحد بأنه يقلّد مرجعاً دون آخر- فسألناهم: يا علماءنا، يا مراجعنا، هل يجوز إطلاق النار في الهواء؟ فأتى جواب المراجع (حفظهم الله جميعاً): "لا شكَّ في حرمة هذا العمل" وجوابهم كان خطيّاً وعليه ختمهم أيضاً.
فالذي يحرص على دينه ويحرص على آخرته يجب أن ينتبه. وأحبّ أن أنوِّه بأنّنا في حزب الله، لا نسمح بأن يُستخدم سلاحنا أو ذخيرتنا في هذا النوع من إطلاق النار.
وقد أفتى المراجع أيضاً بأنْ: إذا نتج عن إطلاق النار قتلٌ أو جرحٌ أو حرقٌ لممتلكات الآخرين، فإنّ مُطلق النار يكون "ضامناً"؛ أي عليه أن يدفع "دِيَة" أو تعويضاً لما سبّبه من ضررٍ، وإلّا تكون مسؤوليته يوم القيامة مضاعفة... وقد باتت الظاهرة خطيرة.
أخاطب الجميع وأناشد الجميع بمنطق العقل والدين والأخلاق والقانون والأهل والمحبّة وأمن الناس واستقرارهم، الانتهاء جذريّاً من إطلاق الرصاص، والذي لا يستطيع أن يحتفظ بذخيرته عنده في المنزل، "يعطينا إيّاها"، فنحن بحاجة إليها، فليتبرع بها للمقاومة؛ فندافع بها عنه في الدنيا، وفي الآخرة يكسب أجراً"(6).
وبعدها انتشر تسجيلٌ خاص لسماحته يطلب من جميع المحبّين الالتزام التامّ بعدم إطلاق النار في أيّ إطلالة خاصّة به. وقد لوحظ هذا الالتزام، حين أشار سماحته إلى متابعته الشخصيّة حين وجّه الشكر للملتزميــن خلال ختام كلمته السنويّة في ذكرى القادة الشهداء:
"أتوجه بالشكر إلى كل الكرام، أهلنا في الضاحية وبيروت وكل المناطق الذين التزموا بالمناشدة في عدم إطلاق الرصاص وهذا المتوقّع منكم وحسن الظنّ بكم"(7).
* سنفصل مطلقي النار
كان الإجراء العمليّ الوحيد على الساحة اللبنانيّة، لحلّ المشكلة، هو الموقف الذي أعلنه الأمين العام حين دعا إلى معالجة وطنيّة شاملة لهذه الآفة، وكان جادّاً في استئصالها؛ إذ يقول: "نحن في حزب الله أخذنا القرار بمعالجة هذا الأمر، وبدأنا بحملة شاملة في هذا المجال"، ويضيف: "نرفض هذا الأمر بشكل قاطع. وقد أصدرنا تعميماً داخليّاً بمعاقبة أيّ مطلق للنار، وهناك التزام بنسبة عالية جدّاً به، ومع ذلك فقد أجمعت قيادة حزب الله على أنّ من يطلق النار في الهواء من تشكيلات حزب الله سوف يُفصل من صفوفنا". كما أمل سماحته من "الأحزاب والتيارات الأخرى أن تتّخذ إجراءات مشابهة"(8).
ختاماً، وبعد الخطاب، قد تجتاحك رغبة في القيام بجولة سريعة على أرقام الضحايا الذين سقطوا أو أصيبوا بإطلاق النار والمناطق التي اغتالهم فيها الرصاص الأرعن، ليتضح أنّ المشكلة تشمل جميع المناطق اللبنانيّة، في حين أنّ الخطاب السياسيّ والمسؤول لم يصدر إلّا عمّن وجَّه رصاصته إلى صدر العدو... وإلى العدوّ فقط!
(1) كلمته بتاريخ: 25/5/2007م.
(2) كلمته في مؤتمر إعلان آخر تبادل للأسرى، بتاريخ: 2/7/2008م.
(3) (م.ن).
(4) كلمته في احتفال يوم الجريح، بتاريخ: 14/6/2013م.
(5) (م.ن).
(6) (م.ن).
(7) في ختام كلمته، في ذكرى الشهداء القادّة، بتاريخ: 15/2/2015م.
(8) كلمته في ذكرى الشهيد "ذو الفقار" بتاريخ: 24/6/2016م.