مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: هو كنّاها"أمّ أبيها"

أحمد بزّي


لمَّا بلغتْ مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام سنتين من عمرها الشريف، اشتدَّ أذى قريش لأبيها محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حتّى حاصروهم في شِعب أبي طالب عند طرف مكَّة. وهناك عانتْ قسْوةَ الجوعِ والظلم، ولم تعرفْ غير الصَّبر جمالاً، فهي المُمتحنةُ الصَّابرةُ قبل خلقها. وبعد ثلاث سنواتٍ من الحصار، جاءَ الفرج. وفدَ أهل مكَّة إلى الشِعب ليسمعوا كلام النبيِّ الأعظم. لقد آن الأوان للعودة إلى أحياء بني هاشم.

- "نعم يا بُنيَّتي، هنا كنَّا في إقامةٍ مؤقَّتة. صحيح أنّها استمرَّت ثلاث سنوات، لكنّها كانت مؤقّتة. واليوم سنعود معاً إلى بيتِنا. بعد اليوم لن نعودَ لأكل ورق الشجر، ولن نتقاسم حبَّة التَّمرِ نصفين من جوعٍ وحبّ، بل سنتقاسمها نصفين من حبٍّ وحبّ".

•عادت الحياة من جديد
عاد سادتي من بني هاشم إلى أحياءِ مكّة. انتعش ترابُ الأرض من جديد. أصبح هواء مكّة الجافّ أكثر طراوة بقدومهم. مساكن الهاشميين متقاربة. الأبواب مصطفّة كبنيانٍ مرصوص، فلا باباً يقابلُ باب دارٍ آخر. من النوافذ تظهر بطحاء مكّة. وها هو أبو طالب يتقدّم إليها. يهوي كسجود محمّد قبل أيّام الحصار.

ومولاي محمّد في الدّار يُصلح ما أضرّت به الأمطار، والرياح، والشمس في سنوات الغربة. الحمزة مشغول بحراسته. اعتاد أن لا يفارق ظلَّ سيّدي محمّد منذ ثلاث سنوات. أمّا عليّ، فكعادته يدور على الجميع، يحمل بين يديه نور محمّد ويبثّه علماً، وفهماً، وعزماً، وحبّاً، وهدىً أينما حلّ.

•أركان الكعبة أضاءت
تهيّئُ مولاتي خديجة ابنتها المتشوّقة إلى الاقتراب من جدار الكعبة. لم يعنِ لفاطمة من العودة أكثر من ذلك. فالماء والنخيل، والأرغفة السمراء، والملابس الجديدة، والإبل، والكلمة، والحرف، والنقطة، وكلّ الدنيا من قبلها خُلقت من أجلها. لطالما حدّثنا النبيُّ بذلك.

- "قبل الحصار، يا سيّدتي، كنتُ أرى من بين كلّ أهل مكّة فقط ثلاثة من الخلق يسجدون بين الركن والمقام: محمّد وعليّ وخديجة. والآن سيسجدُ لله جمعٌ تلو الجمع. وأنا أتشوَّقُ إلى ذلك". بدأ قلب أسماء يرتجف، أطراف أصابعها ترتجف، جفناها يرتجفان، شفتاها ترتجفان. ستتوضّأ من جديد عساها تهدأ.

مشى الرَّكبُ المحمديُّ إلى الكعبة، إبراهيم في السماء يصلّي على الماشين، وإسماعيلُ يناجي الله ليفتدي الآل بالذبح ألف مرّة. محمّد، وعليّ، وأبو طالب، والحمزة، وخديجة، وفاطمة، وكثير من الطير، والجبال، والسحاب، والشجر، والخيل، والورد، والملائكة رموا البصر إلى السماء. اقتربوا من الكعبة. أركانها أضاءت، كأنّ الجدار عاد لينشقَّ لابنة أسد من جديد. ركعوا كما ركع النبيّ. سجدوا كما سجد النبيّ. وكلٌّ شَكَر وحمدَ، لكنَّ عينيَّ رأتْ ما جعل قلبيَ يرتجفُ من جديد؛ مولاتي خديجة تكاد روحها تفارق الدنيا!

•رداء الرحمة
- "فاطمة، فاطمة، فاطمة. إليَّ إليَّ يا ابنتي، سأحدّثك بحديث وأنت العالمة غير المعلَّمة. وما أعذب حديثك يا محدَّثة! منذ أن كنتِ جنيناً في أحشاء أمّك ونحن نتحدّث. أنا لا أنسى وعدك بأنّ دين أبيك سيسمو ويملأ الدنا. قبل بعثة أبيك سيّدي ومولاي ومعلّمي، كان يصعد إلى غار حراء. كنت أعلم أنّ واجبي أن أعينه على ما يقوم به، فأصوم كما يصوم، وأصلّي كما يصلّي، وما صلاتي أمام صلاة حبيب الله! أجهّز له طعام الإفطار وشيئاً يسيراً من الماء، وأرسلها إليه مع أديبه عليّ. أقولُ لكِ هذا يا نورَ عينيّ لأنَّ أباكِ قبل أن يخرجَ من الحجرة قبل هنيهة تنهّد مليّاً وكنّاكِ (أمّ أبيها) يا حنون. في الحقيقة، أنا من طلبت منه أن يخرج. أستحي أن أطلب وصيّتي التالية بمحضره. سأوصيك أنتِ بها؛ يا حبيبتي وقرّة عيني، قولي لأبيك: إنَّ أمّي تقول لك إنّها خائفة من القبر، وتريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي لتكفّنها به".

من فورها نهضت فاطمة. خرجت إلى أبيها. قالت له ما أوصتها به أمّها خديجة. ابتسم الحبيب، وهو المختنق بغصّة الفراق الوشيك. احتضن مهجة قلبه، مسح على خدّها، وقام يجرّها. سلّمها الرداء لتطمئنَّ خديجة على تكفينها.

جاءت فاطمة بالرداء إلى أمّها فسُرّت به. وضعته عليها غير مدركة أنّ الله اختصّها بكفن من السماء، بل من الجنّة. فخديجة ما خديجة! أوّل مسلمة، وأوّل ساجدة، وأوّل عابدة، وأوّل فادية، وأوّل باذلة لكلِّ مالها، ومن أوّل من صلّى بصلاة محمّد. فكان لها كفنان، كفن من الله، وكفن من رسوله.

•"يا أبتِ: أين أمّي؟"
منذ ثلاثة أيّام ونحن لا نفارق قبرها. رسول الله حزين. حزنه عميق. فَقَدَ في العاشر من شهر رمضان رفيقة الرسالة والمعاناة العذبة، وهو الذي لطالما قال: "رُزقتُ حبَّها".

ما أقسى مكّة وشعابها! ما أقسى مقبرة الحجون! ولدت مولاتي فاطمة في مكّة. كان جرم أمّها كبيراً. لقد تزوّجت من صاحب رسالة سماويّة. هجرتها النساء. حتّى في يوم ولادة فاطمة مُنعت النساء من الحضور عند خديجة. عاشتْ سنتين في كنف أمّها وأبيها في شبه حصار، ثمّ حوصرت البتول حتّى الخامسة في أصعب معاناة قد تشهدها البشريّة.

راح سيّدي رسول الله يخفّف عن مولاتي فاطمة ويواسيها بحنان الأنبياء، يشمّها كلّما اشتاق إلى الجنّة، وما أكثر شوقه إليها! يلقّبها بألقاب أمّها نفسها، فيناديها: يا طاهرة، يا عابدة، يا عالمة، وينقلُ لها رسائل السماء:

"إنّ جبرئيل عليه السلام عهد إليّ أنّ بيت أمّك خديجة في الجنّة بين بيت مريم ابنة عمران، وبيت آسية امرأة فرعون...". والبيت، يا فاطمة، من لؤلؤ وقصب، كعابه من ذهب، والأعمدة ياقوت أحمر.

صارت مولاتي تُكثرُ السؤال: "يا أبت: أين أُمّي؟ أينها؟"، وما أحلى الجواب! حفظته عن ظهر قلب: "أُمّك في بيتٍ من قصب، كعابه من ذهب، والأعمدة ياقوت أحمر، بين بيت آسية وبين مريم ابنة عمران".

وفي كلّ مرّةٍ كانت الزهراء تسأل عن أمّها، كان النبيّ يجيبها مضيفاً كراماتٍ مزيدة:

- يوم الحشر تأتي لاستقبالك ومعها سبعون ألف ملك يحملون رايات زُيّنت بعبارة (الله أكبر).

•على خطى والدتها
وهكذا مرَّ عام الحزن على النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته عليها السلام. وفيه قضى أبو طالب نحبه، فضاعفت قريش من أذاها. وآن أوان تنفيذ وصايا خديجة. كأنّ آمنة بنت وهب قد بُعثت من جديد.

دخل النبيُّ إلى الدارِ. احتضن ابنته وروحه وريحانته كعادته. رفعها إلى جنب خدّه. يُخفي عنها آلاماً تجمهرت واحتشدت على عدد حبّات التراب المنثور في رأسه.

بلى، مرَّ النبيّ في شوارع مكّة، فرماه سفيهٌ قريشيّ بالتراب على رأسه. عاد النبيّ إلى بيته ليزيلها. رأت فاطمة التراب على رأس نبيّ الله، فراحت تمسح التراب عنه. أنزلها. أتت بالماء، وراحت تغسل رأسه وتبكي. صارت البنت "أمّ أبيها".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع