الشَّيخ أحمد وهبي
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ..﴾ (المائدة: 54). عن الإمام علي عليه السلام: "حب اللَّه نار لا يمر على شيء إلا احترق"... وعنه عليه السلام عندما ضرب على رأسه: "فزت ورب الكعبة".
* المحبوب غاية ورجاء المحب:
إن القلوب التي عرفت اللَّه تعالى لا تستطيع إلا أن تحبه فإذا أحبته احترقت بنار الشوق إلى رؤيته ولقائه، كيف لا وهو الجمال الكامل التام المطلق الذي هو مصدر كل جمال، الذي إذا تجلى على القلب جمال من جماله في عالم المادة، وتنزَّل ذلك الجمال الأزلي الأبدي في أدنى مراتبه في هذه الدنيا بصورة النجوم والقمر في ليالي العبادة، أو عند الأصيل، أو في جمال الطبيعة لا تستطيع القلوب إلا أن تخضع وتخشع، وتلهج الألسن بذكر ذلك الجمال وتنزيهه وتسبيحه (من أحب شيئاً لهج بذكره) عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحب داعٍ للانقطاع". إن العشق شعور القلب بالجمال ومعرفته به، وحبل ممدود بين المحبوب والمحب يشده إليه ويجذبه نحوه فلا يقر له قرار ولا يهنأ ولا يطمئن إلا به وله ومنه، وسلا عن غيره وسواه "أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبَّائك حتى لم يحبوا سواك..." فيكون المحبوب كل رغبة المحب وغاية رجائه "ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك لقد خاب من رضي دونك بدلاً..." دعاء الإمام الحسن عليه السلام. ... عن النبي صلى الله عليه وآله: "اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إليّ! واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي! واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك". فـ"القلب حرم اللَّه فلا تُسْكِن حرم اللَّه غير اللَّه" كما عن الإمام الصادق عليه السلام. لأن حب اللَّه وحب غيره لا يجتمعان كما عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "كما أن الشمس والليل لا يجتمعان كذلك حب اللَّه وحب الدنيا لا يجتمعان". ومن هنا يدعو عليه السلام عشَّاق اللَّه تعالى إلى إخراج حب الدنيا من قلوبهم فيقول: "إن كنتم تحبون اللَّه فأخرجوا من قلوبكم حبَّ الدنيا" ويدعو دعاء المحبين "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة...".
* الحب داعٍ للمكاره:
عن الإمام الرضا د: "الحب داعي المكاره". وعنه د: "دليل الحب ايثار المحبوب على من سواه". فمن ملىء قلبه من حب اللَّه ووجد حلاوته سعى إليه مهما كانت المشاق والمكاره والمصاعب وهذا دليل الحب، ومهما عذَّبه المحبوب فإنه لا يترك سبيله، بل لا يتخلى عن حبِّه، حبيبه. يعبر الإمام زين العابدين عليه السلام أيضاً عن هذا المعنى في دعائه: "إلهي لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودللت على فضائحي عيون العباد، ما قطعت رجائي منك ولا صرفت تأميلي للعفو عنك ولا خرج حبك من قلبي..." وإنما الخوف من فراق الحبيب لا من العذاب... "فهبني يا إلهي... صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك...". بل إن المحب يلتذ بعذاباته وشقائه التي يلقاها خلال سعيه للوصول إلى اللَّه تعالى مهما بلغت وازدادت حتى لو كانت القتل في سبيله ويعتبرها هديته وتحبباً منه وتودداً. فكل ما كان من الحبيب حبيب وفي الدعاء عن الإمام الصادق عليه السلام عند حضور شهر رمضان: "صلِّ على محمد وآل محمد، واشغل قلبي بعظيم شأنك وأرسل محبتك إليّ حتى ألقاك وأوداجي تشخب دماً...". وهذا ما عبر عنه الإمام علي عليه السلام عندما ضربه اللعين على رأسه: "فزت ورب الكعبة". وعبر عنه الإمام الحسين د فيما رُوي أنه قاله عند استشهاده:
إلهي تركت الخلق طراً في هواك
وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطَّعتني في الحب إرباً
لما مال الفؤاد إلى سواك
فالعاشق المولع الذي أحرقته نار الحب، يشتاق للموت، وبأشد أنواعه ليعبر للحبيب على شدة إيثاره لهواه على هواه. وهذا كان دعاء العابدين العاشقين أن يقتلوا بأشد أنواع القتل ليكون أبلغ في تحببهم للَّه.
* حب الشهادة معرفة ويقين:
إن عشاق اللقاء ومحبي الشهادة قد يعبر عنهم أنهم قد خولطوا، ولكن ما خالطهم هو معرفة اللَّه واليقين به والإيمان بلقائه ورؤية جماله وجلاله. لذلك كانت معرفتهم هي الدليل في طريق اللقاء، وسبيل الوصول إلى رحاب وقرب المحبوب المطلق الحقيقي، ولم يخالطهم شيء آخر كما يحب ويظن الغافلون أن يتهموهم فعن الصادق عليه السلام: "إذا تخلى المؤمن عن الدنيا سما ووجد حلاوة حب اللَّه وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حب اللَّه فلم يشتغلوا بغيره ولقد خالطهم أمر عظيم" كما يعبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وإنما يمتاز المؤمن باللَّه عن غيره بأن المؤمن قد أحب اللَّه وغيره قد أحب غيره. كما عن الإمام الباقر عليه السلام: "الإيمان حب وبغض" وعنه د: "الدين هو الحب، والحب هو الدين".
وعن الصادق عليه السلام: "لا يمحض رجل الإيمان حتى يكون اللَّه أحب إليه من نفسه وأبيه وأمه وولده وأهله وماله ومن الناس كلهم". فالمؤمن يرى اللَّه تعالى علّة كل هؤلاء ومُوجدهم، وهم منه وتجلٍّ له، وجمال من جماله، لذلك هو يحب اللَّه تعالى خالقهم ومالكهم، ولذلك يقدم حب اللَّه على كل شيء حتى ولو كان هؤلاء. فيقدم نفسه وماله وأهله وولده في سبيل اللَّه، وحباً له وشوقاً للقائه، وهذا هو الإيمان الصادق باللَّه وبلقائه. ويرى ذلك سبيل ومنهاج السعادة فعن أمير المؤمنين عليه السلام "الجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء". ويرى أنه مهر يقدمه للحبيب لكي ينال حبه.
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من قطرة أحب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل اللَّه، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها عبد إلا اللَّه عزَّ وجلَّ". فهو يود اللَّه ويحبه ويطلب وده وحبه، ولا شيء يقدمه في سبيل الحبيب أغلى من نفسه، ولا وسيلة لذلك إلا الجهاد كما عبر اللَّه تعالى: "فسوف يأتي اللَّه بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل اللَّه ولا يخافون لومة لائم...". فالحب متبادل، المجاهد طالب الشهادة يحب اللَّه ويسعى للقائه، واللَّه يحبه ويحب لقاءه. لذلك جاء في الرواية: أن "اتقوا أذى المجاهدين فإن اللَّه يرضى لرضاهم كما يرضى للرسل". فهم أولياؤه ولذلك فتح لهم باباً خاصاً إلى قربه، وهو الجهاد "إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللَّه لخاصة أوليائه...".
* هنيئاً للشهداء:
إذن طريق الجهاد وحب الشهادة طريق معرفي وطريق وعي ويقظة وقصد وجدّ يحرك الإنسان من العشق الواعي والعشق للحق والحقيقة والواقع والجمال الواقعي، والكمال الحقيقي وإدراك عالم الغيب والشعور به والإيمان بوجوده وأصالته وأنه مبدأه ومنتهاه ومستقره. من هنا إذا كان الموت الذي هو انتقال إلى العالم الحقيقي، وإلى قرب الحبيب فمرحباً بالقتل وما أحلاه! في الحديث القدسي: "من طلبني وجدني ومن وجدني عرفني ومن عرفني أحبني ومن أحبني عشقني ومن عشقني عشقته ومن عشقته قتلته ومن قتلته فعلي ديته ومن عليّ ديته فأنا ديته" وما أحلاها ديّةً أن يكون اللَّه له واللَّه يعني كل هذا الوجود بمراتبه الظاهرة والباطنة وعلى إطلاقه. فهنيئاً لقلوب العارفين، وطوبى لقلوب المحبين العاشقين، وهنيئاً للشهداء.