د. علي الحاج حسن(*)
مما لا شك فيه أن مدينة القدس في التاريخ الإنساني والبُعد الجغرافي ليست مجرد مدينة بتكاوينها الطبيعية والمادية الجامدة التي قد يشار إليها بما لا يعطيها القيمة الحقيقية والصحيحة لها. القدس في الواقع هي من المُدن الأكثر وغولاً في تاريخ البشرية وفي حياتها الفكرية والعقائدية، اهتمت بها الأديان السماوية، وهبط فيها الوحي وتناوب على الحضور فيها عدد ليس بقليل من أنبياء اللَّه ورسله... وبالتالي أصبحت المدينة تشكل في القاموس البشري قيمة إنسانية يرتبط بها الفرد لعقيدة ورابط عميق. لو حاولنا التدقيق في حقيقة الرؤية الإسلامية للمدينة لاتضحت لنا عظمتها والسبب الحقيقي الذي جعل المسلم يمجّد المدينة ويهتم لأمرها، رافضاً المساس بها وتدنيسها أو الاعتداء على وجودها المقدس. فما هي المكانة التي احتلتها عند المسلمين؟
*منطلق الأنبياء
القدس قبل كل شيء هي المحل الذي وُجد فيه العدد الكبير من أنبياء اللَّه ورسله ومبلغي وحيه، وإليه هبط الوحي مرات ومرات، حيث شكّل أنبياء اللَّه عليهم السلام من المدينة المنطلق والقاعدة الأساس للانطلاق في مسيرة الدعوة إلى دين اللَّه وترسيخ قواعد النظام الإلهي. وأكبر مؤيد على هذا الأمر هو ما جاء في الكتب السماوية وما دونته كتب التاريخ. من جهة ثانية فإن المسلّم به أن أنبياء اللَّه تعالى شكلوا سلسلة متكاملة في سبيل الدعوة إلى دين اللَّه وإرساء قواعد الهداية وإخراج البشر من الظلمات إلى النور، وبالتالي فإن الإرث النبوي ينتقل إلى كل نبي لاحق باعتباره المكمل للدعوة السابقة، والكل يشكل جوهر الدين الإلهي. وبعبارة أخرى فإن كل نبي هو في الواقع معني بشكل مباشر بدعوة النبي السابق، والأنبياء كانوا على ملّة وطريقة واحدة كما يحكي القرآن الكريم، نافياً التعدد والكثرة في مضمون دعوة الأنبياء: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (البقرة: 130).
*محور الإسراء والمعراج
مدينة القدس هي المحل الذي كان محور الإسراء والمعراج. فإليها الإسراء برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله ومنها عرج إلى السماء. والنتيجة كانت وجوداً حقيقياً لدين الإسلام المكمّل لجميع الأديان وخاتمها. فالمتدين إزاء هذا الأمر يشعر بالتصاق لا نظير له اتجاه هذا المكان المقدس.
*أول قبلة للمسلمين
لا يشك أحد أن المسجد الأقصى كان أول قبلة للمسلمين، حيث توجهوا في بداية الدعوة الإسلامية إليه. وهذا يحمل في جوانبه معانيَ متعددة تبين الأهمية القدسية للمكان وتوضح العلاقة الخاصة بين المسلم وقبلته، فهو معنيّ به قبل أي إنسان آخر.
*الآثار الدينية
بالإضافة إلى ما ذكر فقد اشتملت المدينة على عدد كبير من الآثار التي تركها الأنبياء والأولياء التي ترمز إلى وجود الوحي الإلهي فيها. ففيها الحرم ومسجد الصخرة والمسجد الأقصى... لا بل إن كل نقطة فيها كانت موطأ قدم لنبي أو ولي وكانت المنطلق للخروج برسالته الإلهية إلى العالم.
*الصلاة في بيت المقدس
جاء في الروايات ما يبين الأهمية الخاصة لهذه المدينة، ولا يتسع المجال لذكر تفاصيلها ويكفي أن نشير إلى رواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام حين يقول: "إن الصلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة". مجموع الأمور التي ذكرنا يبين لنا أن ارتباط المسلمين بالمدينة ليس ارتباطاً سطحياً بل يعود في الحقيقة إلى جذور فكرية وعقائدية، على أساس أن الدين الإسلامي هو الامتداد الطبيعي لرسالة الأنبياء السابقين، وهو التبلور الواضح لدين إبراهيم عليه السلام.
*المسؤولية اتجاه القدس
يؤكد القرآن الكريم على هوية الدين الإبراهيمي بعد أن بيّن أنه هو المحور الذي يتحرك على أساسه جميع أنبياء اللَّه تعالى. قال اللَّه تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 67 68) حيث تؤكد الآية الشريفة على ارتباط المسلم بكل الإرث النبوي ورجوعه إلى حقيقة الدين الإبراهيمي الذي هو في الأساس الإسلام الحنيف. أما المعيار في الإرث هذا فهو الاتباع والعمل طبق مضمونه، وهذا ما تجلّى في رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وأوليائه من بعده عليهم السلام. فإذا كانت القدس مدينة بهذه العظمة والأهمية، وإذا كانت الأديان السماوية وحدة متكاملة، وإذا كان الإسلام هو التعبير الحقيقي عن كل الأديان السابقة، فإن هذا يلقي على كل مسلم مسؤولية ثقيلة اتجاهها، ويدعوه للتوقف عند كل عمل يُراد منه نزع محتوى القداسة والعظمة عنها، لا بل إن الحرص على حفظ المدينة وحمايتها ينطلق من الفهم الواقعي لحقيقية المسؤولية. قبل كل شيء تعتبر مسؤولية الحفاظ على المدينة مسألة إنسانية يمليها الفهم الواقعي لحقيقة الأماكن التي لعبت الدور الأهم في تبلور الدين، وهي ثانياً مسؤولية العلماء والمفكرين الذين حرصوا باختلاف توجهاتهم على الدعوة إلى حماية المدينة والدفاع عن خصوصياتها.
*أقوال العلماء
لو حاولنا الإطلالة على آراء علماء المسلمين ومراجعهم في خصوص القدس لتلمّسنا فهماً حقيقياً للقدس وأهميتها وقداستها وتأكيداً على طبيعة الخطر الذي يهددها، وعلى هذا الأساس كانت فتاواهم. وهنا نتعرض لبعض ما جاء من أقوالهم: لعل العبارة التي أطلقها الإمام روح اللَّه الموسوي الخميني في هذا الصدد تختصر المشهد وتقدّم تعبيراً حقيقياً عن طبيعة القدس والصراع حولها، عندما يقول: "القدس قدس المسلمين ويجب أن تعود إليهم". ويحدد الإمام قدس سره الطبيعة الحقيقية للمدينة المقدسة فيقول: "إن مسألة القدس ليست مسألة شخصية، وليست خاصة ببلد ما، ولا هي مسألة خاصة بالمسلمين في العصر الحاضر، بل هي قضية كل الموحدين والمؤمنين في العالم السالفين منهم والمعاصرين". ويقول الإمام الخامنئي دام ظله: "تحظى مسألة القدس بأهمية بالغة، فالمؤامرات الصهيونية متكالبة ومتنوعة لاغتصاب هذه المدينة المقدسة وتهويدها وإزالة آثارها الإسلامية، لكن هذه المدينة تتعلق بكل المسلمين وكل القدس عاصمة لكل فلسطين، ولن يسمح المسلمون للمخططات العدوانية المشؤومة أن تنفّذ، وسيحبطونها بإذن اللَّه". ويؤكد العلماء المسلمون على طبيعة المسؤولية الملقاة على المسلمين، يقول آية اللَّه العظمى مكارم الشيرازي: "واجب على المسلمين جميعاً مسؤولية أكيدة في حفظ هذا المركز الإسلامي المقدس والإبقاء على هويته الإسلامية". ويشير آية اللَّه العظمى فاضل اللنكراني إلى هذه الحقيقة، فيقول: "تشكّل مهمة الدفاع عن القدس وبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى، وكذلك الدفاع عن الأرض الإسلامية في فلسطين وظيفة شرعية بالنسبة لجميع المسلمين، وواجب عليهم أن يعملوا بكل ما لديهم من قوة وإمكانيات من أجل تحرير القدس إنشاء اللَّه".
ولقد كان آية اللَّه العظمى حسين نوري الهمداني واضحاً في رأيه بالمحتل وبوظيفة المسلمين الشرعية التي تقتضي العمل على تحرير المدينة المقدسة: "إن الاحتلال الأجنبي ولا سيما الصهيوني للأراضي الإسلامية من المحرمات الإسلامية قطعاً، وإن طرد المحتلين واجب المسلمين جميعاً". إن هذه الكلمات وغيرها من آراء علماء المسلمين لا يدع مجالاً لتهاون المسلم بوظيفته ومسؤوليته، حيث يُعدّ عدم التهاون والتخاذل في الدفاع عن قداسة المدينة أمراً ضرورياً مطلوباً ينمّ عن فهم المسلم لحقيقة اعتقاده وتوجهه الديني.
(*) مدير مركز الإمام الخميني الثقافي/بيروت.