نسرين إدريس
اسم الأم: سكينة الموسوي.
محل وتاريخ الولادة: قرحا - 12/4/1960م.
الوضع العائلي: عازب
مكان وتاريخ الاستشهاد: ثغور المقاومين في إقليم التفّاح، 1/4/1990م
وأخذته بين ذراعيها لتنظر إلى وجهه الذي أشرق كشمس نيسان الندية، وقد أغمضت عينيها لتشكر الله على لطفه الكبير بحفظ وليدها سالماً معافى، ليستريح قلبها القَلِق بالقرب من اطمئنان قلبه، فهي كانت قد وقعت على بطنها بعد أن زلت قدمها وهي حامل في شهرها السادس فخشيت أن يُصاب جنينها بسوء. نظرت إليه، وإذ بالجمال المرتسم على وجهه فيضاً من نور نسبه الهاشمي. عجنت روحه بصبر كان زاده في طريقه الصعبة، وملجأ أيام القهر. في بلدة برج البراجنة حيث ولد أحمد من والدين هاشميين محبين غمرا أولادهما بمحبة كبيرة.
كَبر وهو يرى كدّ والده وصبر والدته على ضنك العيش، فدثر أيامه بقناعة وسعي لإرضائهما، وهما اللذان لم يرغبا بشيء سوى رفد أولادهما بحياة كريمة وعلم يكون سلاحاً لمستقبلهم، ولم يترك ضيق الحال الذي شدّ حزامه على العائلة غير آثار عزة النفس ورضا بما قسم الله لهم. تميزت شخصية احمد بالعديد من الصفات الحسنة، فهو كان مثالاً يحتذى بأخلاقه، واتسم بالمحبة التي غمر إخوته بها، وصدق قوله الذي هو كلام الفصل أمام والديه اللذين لفت نظريهما أيضاً شدة احتفاظه بأغراض الغير، فهو دائماً ينبه أخوته لعدم استعمال أي شيء وضع عندهم واعتباره أمانة كبيرة، حتى لو كان هذا الشيء كوباً صغيراً. بدأت والدته تحدثه عن أهمية الصلاة عندما بلغ العاشرة من عمره، فغمرته السعادة وهو يبادر لتأدية الفرائض الدينية، مشدداً على والدته في إيقاظه إلى صلاة الصبح ولو اضطرت لضربه بالسوط إذا تلكأ عن القيام، معوداً نفسه أن تكون طوع يمينه، فقسا عليها بقدر ما حملت عشقاً لله، وبقدر ما شرّع جوارحه التي وعت دروب الجهاد لنسائم الشهادة.
أنهى احمد دراسته المتوسطة، وما إن بدأ عامه الأول في الثانوية، حتى بات من الصعوبة الوصول إلى مقاعد الدراسة بسبب اشتعال الحرب الأهلية، فتارةً تفتح الثانوية أبوابها وأخرى تقفلها، وأسوة بالعديد من العائلات، حزمت العائلة حقائبها متوجهة إلى بلدتها قرحا في البقاع، ما أثر سلباً على استقرارها، خصوصاً مع اضطرار الوالد إلى التنقل الدائم بين منطقة حي السلم في ضواحي بيروت، والقرية نتيجة عمله. وإزاء ذلك، بدأ أحمد بالعمل ليعين والده، فراح يكد من أجل تحمل الأعباء الحياتية الضاغطة تاركاً دراسته الأكاديمية على مضض، فيما كان وحتى آخر يوم من حياته، يحث إخوته على متابعة دراستهم الجامعية واضعاً نفسه في خدمتهم.
وفي بعلبك، راقب عن كثب مجريات المتغيرات السياسية فكان يُدلي برأيه فيها بكل شفافية ووضوح، بانياً رؤيته على أساس النقد البناء، واستشرف مستقبل المقاومة عبر قراءته الصحيحة للأوضاع الراهنة. ومع قدوم الحرس الثوري إلى لبنان في عام 1982م لمعت في أفق غده بارقة أمل، خصوصاً وأنه لطالما حلم أن يدرس العلوم الدينية، فاستغل الفرصة الأولى للالتحاق بإحدى الدورات العالية المستوى ونال فيها الدرجة الأولى بامتياز، ما أهّله للالتحاق بالدراسة الحوزوية، فالتحق بحوزة بعلبك، إلى جانب بدئه العمل مع الأخوة في الحرس بعد أن خضع لدورات عسكرية, وقد حوّل منزلهم في القرية إلى ثكنة عسكرية صغيرة، وعمل جاهداً حتى لا يعرف أحد طبيعة عمله. عندما علمت والدته بما يقوم به، طلبت إليه أن ينتبه إلى نفسه، وشدت على يده قائلة: "نحن نركض لتعيش وإخوتك"، فابتسم مجيباً: "سوف تعيشين مرتاحة يا أماه أعدك بذلك"، وأخبرها أنه يرغب بدراسة العلوم الدينية، ففرحت بالخبر، وذكّرها أن علماء الدين فقراء، فطلبت أن لا يحمل همّ أي شيء سوى دراسته، ففقراء الدنيا من المؤمنين هم أغنياء الآخرة.
وهكذا انطلق احمد من البقاع إلى الجمهورية الإسلامية ليتابع دراسته الحوزوية، تاركاً قلبه في لبنان، في محاور الجهاد المتفرقة، وتميز بجديته في الدراسة وعشقه الغريب لتحصيل العلوم وكرمه وطيبة نفسه، وقد تشرف بلقاء الإمام الخميني العظيم قدس سره، فكانت تلك اللحظة التي نظر فيها إلى عيني الإمام تساوي عنده الدنيا وما فيها، وبعد أن لامس يده التي بقي شذاها يشحذ في روحه عشقًا من نوع آخر، لا احد يستطيع فهم كنهه خلا الشهداء لحظة ارتقائهم إلى البارئ. عاد إلى لبنان للاستقرار وليكمل مشواره في حوزة المعهد الشرعي، متنقلاً بين غرف الحوزة والمنزل ومكان لم يعرف أحد أين هو، فالسرية والغموض في العمل رافقاه حتى النهاية. ولكن الظروف المادية الصعبة بقيت تتربص به، فأخبر والدته ذات ليلة انه قرر ترك الدراسة الحوزوية، وعندما سألته عن السبب علمت انه بحاجة إلى كتاب غالي الثمن، فقامت وأعطته ما ادخرته من المصروف القليل ليشتري به الكتاب، ومرةً أخرى باعت المحبس الخاص بها لشراء كتاب ثانٍ وهي تؤكد له انه الوحيد الذي تشرف بزيارة جده الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام من العائلة، وقد فاضت بركات غريب طوس في منزلهم، فعليه أن يكمل الطريق حتى النهاية، وكان أحمد قد قام بمسح منشفةٍ خضراء بمرقد الإمام عليه السلام ولشدة ما كانت عزيزة على قلبه احتفظت والدته بها في دولاب الملابس بعيداً عن متناول الأيدي، غير أن حريقاً صغيراً اندلع في مطبخ المنزل أربك العائلة فسارع أخوه ليأتي بما يطفئ به النار، فلم ينتبه انه حمل المنشفة الخضراء إلا بعد أن أطفأ الحريق بها، ولكنها لم تمس بسوء!
تابع احمد شؤون والديه وإخوته، وقام بمساعدة أمه وخدمتها في المنزل، وفي مرة سألها إذا ما شاركت في تشييع أحد الشهداء، وعندما أجابت بالنفي، جلس بالقرب منها وأوصاها بأهمية المشاركة في التشييع، والتواجد في الحسينيات، ثم وضع رأسه في حضنها وقد سبحت روحه في الأفق لأعلى: "أنت تفكرين بالبيت! السيدة الزهراء عليها السلام لا تقبل إلا أن ندفع كل شيء لأجل رضا الله"، فأجابته: "نحن ندفع الذي يقدرنا الله عليه". فشدّ عليها مؤكداً لها: "التضحية بكل شيء حتى ننال رضاها". أكثر ما كان يقلق باله هو إخوته، فقد أحب أن يكونوا في الدائرة التي انتمى إليها، فناقشهم بمحبة وود، ولفت أنظارهم إلى بعض الأمور بهدوء وحكمة، وهم بالمقابل كانوا يحترمونه ويجلونه ولكنهم ظنوا انه يبالغ قليلاً في تعبيره. في المرة الأخيرة التي ذهب فيها إلى محاور المقاومة في الجنوب، وكان قد بعث برسالة إلى رفيق في الحرس الثوري يخبره بما يجول في خاطره: "...إنني ما زلت أعلّل نفسي وأمنيها بالسفر إلى تلك الطاهرة الصغيرة من الأرض (جبل صافي) التي تباركت بأن وطأتها أرجل المجاهدين وأرجلكم، فأرجو المولى أن يكون ذلك قريبًا...".
وانطلق احمد إلى عمله بعد أن أعطى أمه قبل خروجه من المنزل صورة له وطلب إليها أن تحتفظ بها حتى يعود، ولكن غيبته طالت، ليعود بعد ثلاثة عشر يوماً جريحاً، حيث بقي في المستشفى أكثر من أسبوعين عانى خلالهما من جراء ما ألم ّبه مرارة الأوجاع بصمت واحتساب، وصدى كلماته في رسالته إلى صديقه ترن في قلبه: "...إنني أرى بوضوح أن ما حصل في الجنوب وما يحصل ما هو إلا لصالح الإسلاميين في لبنان، وليس هذا كل شيء ، فإن ما أراه هو اندفاع عظيم للأخوة إلى ساحات الجهاد، إلى ملاقاة الإمام الحسين عليه السلام، فبعض الأخوة الذين حرموا من شرف الجهاد في تلك المعارك لم يستطيعوا الصبر على الضيم فتراهم يعملون على حفظ المقاومة كخلية نحل..." وقد فقد القدرة على النطق بعد حوالي يومين لمدة أسبوع، غاب بعدها عن الوعي أسبوعاً آخر، لترتقي نفسه الهاشمية الطاهرة إلى بارئها وقد قُلدت بوسام الشجاعة والتضحية والإقدام...والشهادة. بعد أن تمّ تغسيل الجسد الطاهر، وتنشيفه بالمنشفة الخضراء، وعندما همّ أخوه بالتكفين، بحث وأحد الأخوة عنها ولكنهما عجزا عن العثور عليها على الرغم من صغر المغسل وعدم دخول أحد عليهما. لقد كان الصمت الذي رافق أحمد في أسبوعه الأخير، من أكثر الرسائل مصداقية على أن الرجال الذين تصنعهم الحروب هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي بمواقفهم الخالدة ودمائهم الذاكية.