هناء نور الدين
كثيرة هي الأدوار التي أدتها ومثلتها السيدة زينب عليها السلام قبل كربلاء وفي كربلاء وبعد كربلاء، أدوار متعددة تروي لنا القيم الإنسانية والتعاليم الإسلامية وهي تحتاج إلى صفحات وكتب للتدوين لا سيما المواقف البطولية التي وقفتها بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء وخلال مسيرة السبي إلى الشام.
* العبودية للَّه عند الشدائد
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام، الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأنها كانت تقسِّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة"(1). ويتابع الإمام عليه السلام أيضاً: "إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية"(2) "وكانت تقضي كافة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن" حتى أنها ليلة الحادي عشر من المحرَّم لم تترك صلاتها ونوافلها يقول الإمام عليه السلام: "رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس" وعن فاطمة بنت الحسين عليه السلام تقول: "وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة أي العاشرة من المحرم في محرابها، تستغيث إلى ربها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رفة"(3)... وقد ورد في بعض الروايات "إن الحسين عليه السلام لما ودَّع أخته زينب عليها السلام وداعه الأخير قال لها: "يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل"(4) هذا إضافة إلى نصوص أخرى وردت في هذا المضمار تظهر من خلالها عبوديتها المطلقة للَّه تعالى، وهي التي لم تنهزم أمام المحن والشدائد بل زادتها قوة وعنفواناً وإباء.. وهذا هو سر قوتها، فهي معدن من معادن العظمة الإلهية، وقبس من نور الرسالة التي تحتاج في تبليغها إلى قوة وعقيدة راسخة وهذه القوَّة استمدتها زينب عليها السلام من اللَّه، من نوره المطلق الذي يشع في قلوب العارفين والأولياء فتتفجر ينابيع الحكمة من قلوبهم وتجري مجرى الزلال الصافي الذي لا يعرف الكدر؛ لذلك خلد التاريخ موقفها البطولي في كربلاء بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين عليه السلام حين قالت "اللهم تقبل منا هذا القربان".
* الدور الإعلامي التبليغي بعد أحداث كربلاء
هناك دور للسيدة زينب عليها السلام لولاه لما كنَّا ننعم نحن اليوم ببركة الإسلام وببركات الثورة والمجاهدين إذ أن كل ما لدينا هو من عاشوراء، نحن لا نملك شيئاً، بل الحسين عليه السلام أعطانا الحياة عندما قال:
"إن كان دين محمد لم يستقم
إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"
وعندما استشهد الإمام الحسين عليه السلام اغترف الناس من معين ثورته وتعرَّفوا على مبادئها وماهيتها وأخلاقياتها وهوية أبطالها... لقد انتهت لغة الدم ولم تعد تُسمع أصوات السيوف ليبدأ جهاد الكلمة والمنبر الاعلامي التبليغي فماذا يعرف الرأي العام الإسلامي آنذاك عن تلك الثورة؟ عن أسباب استشهاد الإمام الحسين عليه السلام؟ عن قافلة السبي الزينبي.. لا شيء، سوى أن هؤلاء مجموعة من الفرس والديلم خرجوا عن طاعة الأمير عبيد اللَّه بن زياد فاستحقوا القتل... لقد ثبَّتت أجهزة الدعاية الأموية أضاليلها وأكاذيبها لتضلل الناس، ولتسدل الستار على هوية الثورة ورجالها... في هذا الموقف برز دور السيدة زينب عليها السلام والطفلة الثائرة فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام وسكينة وأخريات يشرحن ويوضحن أهداف الثورة: لماذا حدثت؟ من هو الحسين عليه السلام ما هي المبادئ والقيم التي أراد الإمام أن يحييها في قلب هذه الأمة؟ بكلمات بليغة تدخل إلى أعماق القلوب فتحدث فيها الثورة والجهاد من جديد... وتعيد للعقيدة صفاءها وطهارتها... كل هذا أثناء رحلة السير الزينبي من كربلاء إلى الكوفة حيث تحولت صحراؤها إلى مبكى الجماهير فخاطبتهم السيدة الجليلة زينب عليها السلام ووجهت إليهم اللوم والتوبيخ قائلة: "يا أهل الكوفة يا أهل الغدر والختل(5)! أتبكون؟! فلا رقت الدمعة، ولا هدأت الرنّة. ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم، أن سخط اللَّه عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون".
وهكذا أثناء الطريق من الكوفة إلى الشام... طريق طويلة محفوفة بالصعاب وفي كل ناحية يمرون فيها، كان الناس يتجمعون على الطرقات ويتساءلون: من هم هؤلاء الأسارى؟ وفي كل مرة يبرز دور السيدة زينب عليها السلام وأخواتها في تبيان حقيقة الثورة وأهدافها ودحض أجهزة الاعلام الأموي الكاذب. لقد حفظت السيدة زينب عليها السلام مشروع الثورة ووقفت بجرأة بوجه الظالمين لتعلِّم الأجيال دروساً في الشجاعة والإيمان والتوكل على اللَّه تعالى والأهم من كل ذلك أنها حضنت الإمامة وحافظت عليها ولولا وجود العقيلة زينب عليها السلام في كربلاء ووجود النساء معها لانطمست أهداف الثورة، وهنا نفهم سر اصطحاب الإمام الحسين عليه السلام النساء معه إلى كربلاء حيث تذكر لنا كتب السيرة أن العقيلة زينب عليها السلام وقفت أمام عبيد اللَّه ابن زياد في مجلسه في الكوفة عندما قال لها متشمِّتاً "الحمد للَّه الذي فضحكم وأكذب أُحْدُوثتكم" فقالت عليها السلام: الحمد للَّه الذي أكرمنا بنبيِّه محمد صلى الله عليه وآله وطهَّرنا من الرجس تطهيراً، إنما يُفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر وهو غيرنا" فقال لها: "كيف رأيت فعل اللَّه بأهل بيتك"؛ قالت عليها السلام: "ما رأيت إلا جميلا". يا لقوة صبر زينب عليها السلام كل تلك المصاعب والمحن لم ترها إلا جميلا... جمال الحب الإلهي الذي يسكن في قلوب المجاهدين. فيزدادون قوة... وجمال القيم والتضحية والمبادئ، وجمال صور الشهداء وهم يستأنسون بالمنيّة استيناس الطفل بمحالب أمه... وجمال الأمهات اللواتي دفعن أولادهن إلى الجهاد... جمال يحمل في طيَّاته معاني رائعة لا نستطيع نحن العاجزين والمقصِّرين أن ندركها أو نعبِّر عنها ما لم تغشَ نفوسنا روحية الإسلام.
* القدوة الملحَّة
إذن عاشوراء كلها دروس وعبر ومواقف... تُنَمي فينا بذور العقيدة... وتستطيع المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر أن تلتحق بقافلة الإمام الحسين عليه السلام وموكب السبي الزينبي رغم بعد المسافات حيث الحاجة ماسة ومُلحَّة إلى تربية جيل صالح وأفواج من الشباب مستعدين لتلبية نداء الحسين عليه السلام... والحاجة قوية أيضاً إلى أن تربي المرأة نفسها بالإسلام لأن الإسلام يهذب النفوس ويطهرها من دنس المعاصي والشهوات... وأعظم مدرسة للتربية مدرسة عاشوراء... وأجَلُّ قدوة لنا السيدة زينب عليها السلام في دعوتها وتبليغها، وقوَّتها، كي يكون لنا منبراً زينبياً نحارب فيه الفساد والمجون والظلم، في عصرٍ تكاد تنمحي فيه القيم من الوجود.
(1) مقتل الحسين، السيد محمد تقي بحر العلوم.
(2) المجالس الفاخرة، السيد عبد الحسين شرف الدين.
(3) النقدي، ص62.
(4) النقدي، ص62.
(5) الختل: الخداع على غفلة.