مقابلة مع سماحة الشيخ نعيم قاسم
حوار: جومانة عبد الساتر
ربّما يكون السؤال الأكثر تداولاً بين الكتاب والمثقفين والمحللين السياسيين فضلاً عن العامة، والذي انبثق بعد أحداث حرب تموّز 2006 الدامية التي شنَّها ببربرية وهمجية الكيان الصهيوني على لبنان، هو المتعلق بأسباب هذا الانتصار العظيم، والتي ضمنت له نصراً ثانياً وثالثاً ورابعاً فيما لو فكّرت «إسرائيل» في شن حروبٍ جديدة. فما هي تلك الأسباب التي يستند عليها المقاومون؟ وما هي المقومات المادية والمعنوية لهذا النصر؟ وهل يكفي أن تتحقق المقومات من جانب القيادة، أم هي مطلوبةٌ من كل أفراد المقاومة؟ وهل كان لأيادي الغيب حضورٌ في حرب تموز؟ ومن هم صانعو الانتصار؟ وكيف يؤدي كلٌّ دوره (المقاومون شعب المقاومة الإعلام)؟ عن هذه الأسئلة وغيرها يجيبنا -بعون الله تعالى- نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم.
* ما هي مقومات النصر؟
من الطبيعي أن تكون للنصر نتيجة وأدوات ومقدمات. وهناك عنوان رئيس يمكن أن يكون العنوان الشامل لأسباب النصر جميعاً وعنه تتفرع تفاصيل الأسباب. هذا العنوان يرتبط بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ وبالإسلام عقيدة وشريعة. ومعلوم أنّ هذا الإيمان ينعكس في الفهم الإسلامي تربيةً للنفس وإيماناً عملياً في السلوك اليومي ومواقف تتأثر بالضوابط والحدود الشرعية وعلاقات تتوسع وتأخذ بعين الاعتبار الحدود التي رسمها الله تعالى وعلمنا إياها رسوله والأئمة عليهم السلام لمصلحة الإنسان. وهذا هو ما تربى عليه المجاهدون واستطاعوا بسببه أن يمتلكوا القوة المعنوية الكبرى للعلاقة مع الله تعالى. فهموا معنى أن الله تعالى أكبر، وفهموا معنى أن ذكر الله تعالى يملأ القلوب بالشحنة المعنوية، وفهموا معنى أن الارتباط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت عليهم السلام يركز القدوة التي تعطي الزخم والتفاعل والاندفاع إلى الأمام ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب:21). على هذا الأساس نحن مدينون كحزب الله ومقاومين للمنهج الإسلامي، ولهذه الرؤية التي تربّى عليها المؤمنون والمجاهدون في كلّ ما حصل بعد ذلك من نصر وتقدم. وبعد هذا السبب المركزي تأتي المعنويات التي تُشعر بأن الإنسان المؤمن رابح على كلّ حال ومنتصر على كلّ حال، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ*وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 171-173).
وهذه الآية وُجهت للمؤمنين عبر التاريخ ليفهموا أنّ من كان مع الله ينتصر في نهاية المطاف. ومع ذلك فالمؤمن لا يعيش أثناء هذه الحالة المعنويّة النصر منعزلاً عن الشهادة، ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ (التوبة: 52). وهكذا، يعيش المؤمن حالة من الاطمئنان والمعنويات الكبرى ويؤمن أنه رابح على كلّ حال، رابح بالنصر على الأعداء، ورابح بالشهادة والانتقال إلى جوار الله تعالى. فسواء بقي في الدنيا أو غادر إلى الآخرة، فإنه في الدنيا عزيز بالنصر وفي الآخرة عزيز بقيامه بالتكليف وبالمفاجآت التي سيحصل عليها، هذا هو الجانب المعنوي من النصر.
* هل يتحقق النصر بتوفر المقوّمات المعنوية أم ثمّة جوانب مادية مكمّلة؟
نعم، الجانب المادي يرتبط بالإعداد. نحن مكلّفون بأن نقوم بما علينا وأن نعدّ العُدّة، لا أن نطلب النصر من الله ونحن قاعدون، بل أن نطلب النصر ونحن ساعون. ولذا حدّد الله تعالى لنا كيف نسعى بطريقة سلسة ومنسجمة مع قدرة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60). طلب تعالى منا الإعداد بقدر الاستطاعة، ولم يطلب منا الإعداد بقدر العدوّ، ولم يطلب منّا الإعداد الذي يحمل التفوق اللامتناهي، بل طلب منا أن نسعى. لكن لولا هذه الحالة المعنوية لما كان للعدّة قيمة. ولولا الترابط بين الماديات والمعنويات في شبكة الارتباط بالله تعالى، لما كان هذا النصر؛ لأنّ ما يخفى علينا من أسباب النصر أكثر ممّا نعرفه. نحن نعرف ما علينا أن نُعِدّ لكن لا نعرف ما الذي يؤدّي إلى النصر. هذه مقدّمات قمنا بها، فنصرنا الله.
* ماذا عن الأساليب المخفيّة في الحرب والقدرات التكنولوجية التي أبهرت العدو؟
علينا أن نسجّل أولاً ودائماً أن النصر لم يكن مرتبطاً بالإمكانات المادية فقط. لكن هذا لم يمنع المقاومة الإسلامية من أن تعمل ليلاً نهاراً من أجل أن تتوفر لها الإمكانات المادية المتقدمة والتقنيات الحديثة. وكذلك فإنه لدى المقاومة مجموعة من أصحاب الاختصاصات في المجالات المختلفة يستخدمون علمهم والإمكانات التي لديهم لتطوير وابتداع أساليب تنسجم مع خصوصية المقاومة، بل أستطيع أن أقول: إنّ المقاومة الإسلامية أسست مدرسة في المواجهة يحتاج إليها كلّ مقاوم للاحتلال. بالتالي، نحن استفدنا ممن قاوم قبلنا، وتعلمنا من أساليب الحرب، فاخترنا أسلوب المقاومة في مقابل الحرب الكلاسيكية، واخترنا تربية المجاهد على المعنويات في مقابل الماديات فقط، فجمعنا بين الإمكانات والخبرة والتطوير وهذه الخلفية المعنوية.
* من الأسباب التي تخدم المقاومة في معركتها هي طبيعة الفهم العميق لخصائص مجتمع العدوّ الإسرائيليّ. هل هذا الفهم، برأيكَ، يجعل المقاومة تعرف ما هو المطلوب تحضيره، وكيف تنتصر؟
لا يمكن مواجهة العدو إلا إذا كنا نفهم طبيعة هذا العدو وتفكيره وإمكاناته. ولدينا مجموعات بحثية تهتم برصد ما عند العدو من دراسات وأفكار وقناعات، وتدرس كذلك طبيعة المجتمع الإسرائيليّ، وتلاحق طبيعة تنظيمه وإمكاناته من أجل أن تكون العدّة التي يعدّها المقاومون منسجمة مع ما يملك هذا العدو من إمكانات ومقوّمات؛ إذ لو كانت المواجهة اعتباطية لا تأخذ بعين الاعتبار قدرات العدوّ، لا يمكن أن تكون العدّة متناسبة مع هذه الإمكانات. على هذا الأساس، فإنّ مبدأ «اعرف عدوّك» هو مبدأ أساسي: اعرفه بتشكيلته، بعقليته، بمناخه السياسي والاقتصادي والعسكري، بلغته التي يتحدث بها. كل هذه الأمور هي محل رصد واهتمام من قبل المقاومة، وهذا ما ساعدنا على امتلاك مخزون معلوماتي مهم قبل الحرب وخلالها.
* إلى جانب المعركة العسكرية، إلى أي مدى نجح الحزب وقائده سماحة الأمين العام في المعركة النفسية والإعلاميّة؟
الإعلام له دور أساسي في المعركة، وخاصّة في عصرنا الحاليّ، عندما يكون إعلاماً مصوّراً. وفي لقاء جمعني مع الراحل محمد حسنين هيكل الصحافي المشهور -وكان حزب الله قد بدأ لتوّه بعرض العمليات الجهادية، وعرض يومها عملية الدبشة المشهورة- وإذ بمحمد حسنين هيكل يقول: «لو أصدرتم البيانات والتحليلات واتّسمتم بالإيمان لتقولوا إنكم قمتم بهذه العملية بهذه الصورة لكان تصديقكم ضعيفاً، لكن عندما أبرزتم الصورة، وأظهرتم كيف وصل المجاهد إلى موقع العدو الإسرائيلي، وكيف زرع العلم، فإن تأثيره في المصداقية وفي نفسية العدو حول جرأة المقاومين وجبن عناصره لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة أبداً. وحتى تلفزيون العدو الإسرائيلي والمحللين الصهاينة يتكلمون عن تأثير إعلام حزب الله والإعلام المساند في عملية المواجهة؛ لأن إبراز الحقائق وتعريف المجتمع الإسرائيلي على طبيعة هذا العنصر المقاتل من حزب الله وطبيعة الناس المؤيدين للمقاومة وصمودهم وتضحياتهم في مقابل هشاشة إعلام العدو الإسرائيلي، يجعل الصور والأفكار التي تخرج من حزب الله إليهم أو من الإعلام المؤيد والمناصر كاشفة عن حقائق لن يمرّرها إعلام العدو الإسرائيلي. مضافاً إلى ذلك تتميز قيادة حزب الله وعلى رأسها سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله (حفظه الله) بكاريزما شخصية تساعد على تقديم الصورة والفكرة بشكل مبسّط ومقنع وممتع أيضاً، وهذا ما جعل المجتمع الإسرائيلي يصدق الأمين العام أكثر مما يصدق قياداته، ويصدّق حزب الله أكثر مما يصدق الجيش الإسرائيليّ.
* هل يكفي برأيكم أن تتحقق مقومات النصر من جانب القيادة أم هي مطلوبة من كل أفراد المقاومة؟
النصر عملية متكاملة تبدأ من القيادة وتنتهي في القاعدة وتشمل الأنصار والمحبّين. ونحن نعتبر أن الانتصار الحقيقي إنما حصل في لبنان لأن المقاومة لها من يلتف حولها، ولأنها شكّلت مجتمع المقاومة، ولأن المقاومين في الميدان هم الطليعة المتقدمة التي تسجّل الانتصارات التفصيلية. فلا يكفي أن تكون القيادة حكيمة وأن تعيش حالة الانتصار على المستوى المعنوي، بل يجب أن يُعَمَّم هذا الأمر على المقاومين وأنصارهم. لذا من يراقب واقع المقاومين قبل المعركة وأثناءها يجد أنهم واثقون بالنصر ومقتنعون بما يفعلونه، فهم ليسوا في حالة إرباك، بل في حالة زهوّ نفسي مع الله تعالى في مقابل الأعداء. وكذلك رأينا أن الاعلام عندما قابل المهجّرين والمكلومين والمجروحين، كان يسمع منهم إجابات فيها من المعنويات ما يعطي دفعاً كبيراً للمسيرة.
* ماذا عن حضور أيادي الغيب على الجبهات؟
نحن نؤمن أن الغيب موجود إلى جانب المؤمنين، وأن الله تعالى نصيرهم، وأن المشاهد التي ذكرها بعض الشباب سواء برؤية الأئمّة عليهم السلام أو بنصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بإمداد غيبي أنقذهم أو نصرهم في موقع أو في محل، من الأمور المنسجمة مع إيماننا بالله تعالى.
* بعضهم يشكّك في أن يكون النصر نصراً إلهياً، كيف تردّون؟
إنما سمّيناه نصراً إلهياً لأن أصل الانطلاقة في عملية المواجهة هي قربة إلى الله تعالى، ولأن الله وعدنا بالنصر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد: 7)، ولأن التكافؤ في المعركة غير موجود بيننا وبين العدو. يستحيل أن يتحقق هذا النصر بهذه الصيغة وبهذه التفاصيل وبهذا العدوان لمدة 33 يوماً متواصلاً وبهذا التواطؤ الدولي المنقطع النظير في مواجهة هذه الثلّة المتكلة على الله، إلّا إذا كان ثمّة مدد وغيب إلهيّين. أما كيف يكون، فهذا بيد الله، هو نصر إلهي بمنطلقاته وبنتائجه.