مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حجة الوداع غدير من العطاء

 مقابلة مع العلاّمة المحقّق السيد جعفر مرتضى‏

حوار: محمد ناصر الدين‏


* مقدمة مقابلة السيد جعفر مرتضى‏
تقاطرت الجموع من كل حدبٍ وصوب، وسارت مع أقدس إنسان في أقدس زمان إلى أقدس مكان، جمعهم في عرفة وهم في حال الإحرام بعدما أعلنوا براءتهم من الشرك، وقف فيهم مخاطباً ليعلمهم بأنه يوشك أن يفارقهم، مؤججاً عواطفهم باعثاً فيهم الاهتمام بكل حرف ونظرة وهو يحدثهم عن المستقبل، وقبل عودتهم إلى ديارهم عاد ليجمعهم في غدير خم ليكمل لهم دينهم ويتمِّم عليهم النعمة. هذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وآله عام 10 للهجرة في حجته الأخيرة "حجة الوداع" خطة نبوية رائعة، ماذا أراد منها الرسول صلى الله عليه وآله؟ وكيف جرت فيها الأمور؟ وما حقيقة ما جرى في "عرفة" و"غدير خم"؟ وأسئلة أخرى حملناها إلى سماحة العلاّمة المحقّق السيد جعفر مرتضى العاملي: فكان هذا الحوار:


* إذا كان الأمر الإلهي بأداء فريضة الحج قد نزل عام 8 للهجرة فكيف نفسِّر حج نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام؟
اختلفوا في وقت تشريع الحج، فقيل: في سنة ست، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر للهجرة، وقيل: قبل الهجرة. ولكننا نقول: إن الحج كان مشرَّعاً ومفروضاً قبل ذلك.. وقد خاطب الله تعالى نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، فقال: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(الحج: 27). وكان الناس ملتزمون بأداء هذه المناسك قبل بعثة رسول اللّه صلى الله عليه وآله. وإن كانوا قد غيَّروا وبدَّلوا وأدخلوا فيها ما ليس منها. يضاف إلى ذلك: أن الآيات الآمرة بالحج قد وردت في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، وهما قد نزلتا في أول الهجرة، وسورة البقرة هي أول سورة نزلت بالمدينة، ونزلت سورة آل عمران في أوائل الهجرة أيضاً.

* متى قام الرسول صلى الله عليه وآله بأداء فريضة الحج؟ ولماذا أُطلق على حجته عام 10 للهجرة "حجة الوداع"؟
إن حجة الوداع كانت الأولى والأخيرة وقد ودع صلى الله عليه وآله بيت اللَّه وحرمه، وأخبر الناس بأنه يوشك أن يدعى فيجيب، وودعهم. ويمكن أن تكون تسميتها بحجة الوداع، من حيث أنه صلى الله عليه وآله كان يحج قبل الهجرة في كل سنة، حيث قيل: حج ثلاث حجات، أو حجتين قبل الهجرة؛ فحجة الوداع تكون آخر حجاته صلى الله عليه وآله..

* لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وآله السنة العاشرة ليحج فيها؟!
هناك عدة أسباب فرضت هذا الأمر، ومنها: أن حروب قريش لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وغطرستها، وسيطرتها على بيت اللَّه لم تكن تسمح له صلى الله عليه وآله لا بالحج، ولا بالعمرة. ثم فتحت مكة في السنة الثامنة، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وصارت الوفود تتقاطر إلى المدينة من كل حدب وصوب لإعلان الولاء والوفاء، فكان لابد من متابعة أمورهم. وقبول ذلك منهم.. وكان هناك عدو آخر لا يزال يترصد الفرصة، ولابد من وضع حد لطغيانه، وهم الروم، فكانت غزوة تبوك في سنة تسع.. يضاف إلى ما تقدم: أنه صلى الله عليه وآله يريد أن يحج معه حشد عظيم، من مختلف البلاد والعباد لأجل إبلاغهم أمراً هاماً جداً لابد من إبلاغهم إياه.. ولم يتيسر له ذلك إلا في سنة عشر.

* كيف لبى المسلمون دعوته صلى الله عليه وآله إلى الحج، ومن خرج معه في تلك السنة؟!
إنه صلى الله عليه وآله قد أذن في الناس بالحج، فلم يبق أحد يقدر على الحج إلا بادر إلى ذلك، فقدم عليه الناس مشاة وركباناً من كل جهة، من المدينة وما حولها، ومن مختلف البلاد، فقدم المدينة بشر كثير(1) ويمكن مراجعة ما قاله ابن إدريس في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(2).

* هل استطاع الرسول صلى الله عليه وآله أن يبلِّغ كل أحكام ومعاني الحج للمسلمين في تلك الحجة؟!
إنه لا شك في أنه صلى الله عليه وآله قد بلَّغ الناس الكثير من أحكام الحج، أو أنهم استفادوها من متابعتهم له صلى الله عليه وآله في أعمال الحج.. ولكن لا مجال للقول بأن كل فرد من تلك الجموع التي حجت معه قد أصبح عالماً بأحكام الحج، واقفاً على جميع معانيه وأسراره.. فإن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وآله للحج كانوا سبعين، أو تسعين، أو مائة وأربعة عشر، أو مائة وعشرين ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، مع ملاحظة: أن هذه التقديرات الأخيرة تصعِّب القول بأنهم كانوا سبعين، وتقرب لنا احتمال التصحيف بين كلمتي سبعين وتسعين، لتقاربهما في الرسم، مع عدم وجود نقط للحروف في تلك العصور. فإن كان صلى الله عليه وآله قد بلَّغ أحكام الحج ومعانيه كلها، فلابد أن يكون قد بلَّغها لبعض من كان قريباً منه، ويعيش معه، وليس هو إلا علي عليه السلام باب مدينة علمه صلى الله عليه وآله، والوصي من بعده، وأحد الثقلين الذين لن يضل من تمسك بهما.

* إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أخبر الناس بأنه يوشك أن يدعى فيجيب، فلابد أن يكون قد دبر الأمر بصورة صحيحة، لتسير الأمور بعد موته بصورة طبيعية، ولابد أن يكون قد قطع الطريق على أي خلاف يمكن أن يحصل، فهل لنا أن نعرف ماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله في هذا الاتجاه؟!
إنه صلى الله عليه وآله كان يعرف أن معظم الناس بعد فتح مكة قد أعلنوا الإسلام، أي في السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وآله، وأن إسلام الأكثرين منهم كان سطحياً، بل صورياً، فرضته عليهم الظروف التي نشأت في المنطقة بعد فتح مكة، ولم يكونوا يعرفون عن هذا الدين الشي‏ء الكثير، لأنهم كانوا يعيشون في بواديهم، وفق أحكام الجاهلية والعادات القبلية، ولم يكن زعماؤهم يسمحون للمبلغين المسلمين أن يصلوا إليهم، أو أن يحدثوهم عن هذا الدين وأحكامه، ومفاهيمه، وتفاصيله، و.. و.. ولم يتربوا بعد إسلامهم الذي حصل للتوِّ على معاني الإيمان والإسلام، بل كان زعماؤهم هم الذين يتحكمون بهم، ويسيرون أمورهم، ويهيمنون على حركتهم.. ومن جهة أخرى: فقد كان هناك طامعون وطامحون كان يذكي طموحهم هذا التوسع السريع والهائل الذي كان من نصيب أهل الإسلام في فترة وجيزة جداً.. وهو توسع قد هيأ لهم المال والجاه العريض، والنفوذ، والقوة.. وما إلى ذلك من أمور ما كانوا يحلمون بها.. ومن جهة ثالثة: فقد كان في المدينة وحولها، من لم يرق لهم الانصهار في المجتمع الإسلامي والذوبان فيه، والانطلاق به في الحياة.. فكانوا يكيدون له في الخفاء، ويشاركون في كل ما يلحق به ضرراً مهما كان حجمه ونوعه.. وقد وجد هؤلاء في كثير من مُسْلِمَة الفتح سنداً وعضداً لهم أيضاً.. هذا.. عدا عن غيرهم من الفئات التي ما أسلمت ولكنها استسلمت، فلما وجدت الفرصة لإظهار أمرها لم تتوانَ عن ذلك.. وكل هذا الذي ذكرناه من شأنه أن يصعِّد من درجة الخطورة التي يواجهها الإسلام، والمخلصون من أهله بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.. فكان الهدف الأعظم والأهم للنبي صلى الله عليه وآله هو حفظ تعاليم الإسلام، وصيانة عقائده ومفاهيمه، وتمكينها من اختراق هذه السدود، واجتياز هذه العقبات التي كانت تواجهها، وتسعى لمنع الأجيال الآتية من الحصول عليها.. وهذا بالذات هو ما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، وفي العديد من المفاصل الحساسة بعدها.. ثم تابعت الزهراء وعلي عليهما السلام المسيرة من بعده، فكانت حصيلة هذا الجهد، وهذا الجهاد مواقف سبعة أعادت الأمور إلى نصابها، وأقامت الحجة على جميع البشر، ولم تدع حيلة لمتطلب حيلة..

* هل لنا أن نعرف هذه المواقف السبعة بالتفصيل؟!
إن تفصيل الحديث في هذه الأمور يحتاج إلى ساعات، فلا بد من الاكتفاء بمجرد تعدادها، وهي:
1- ما جرى في حجة الوداع.
2- ما جرى في غدير خم.
3- قصة تجهيز جيش أسامة.
4- حديث الصلاة بالناس في مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.
5- حديث رزية يوم الخميس، وقولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله ليهجر، أو غلب عليه الوجع.
6- ما جرى على الزهراء عليها السلام من ضرب وإسقاط جنين..
7 - حديث فدك..
وقد أشرت إلى هذه الأمور في الجزء الثامن عشر من كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله..

* إذا كان لا مجال للتفصيل في ذلك فهل لنا أن نسأل هنا عن خصوص ما جرى في حجة الوداع؟!
إن النبي صلى الله عليه وآله قد أعلن في السنة العاشرة للهجرة أنه عازم على الحج، وأرسل بالمنادين بهذا الأمر في كل اتجاه. فتقاطر الناس إلى المدينة من كل حدب وصوب، وسار إلى مكة بتلك الجموع العظيمة، التي قدر عددها بأكثر من مئة وعشرين ألفاً حسبما تقدم.. وكان هذا يدخل في خطة نبوية رائعة، تهدف إلى حفظ الدين، وإلى إقامة الحجة على البشر جميعاً، ولتبقى هذه الحجة قاطعة دامغة على مدى العصور والدهور. فجمع هذه الجموع العظيمة والهائلة، وجاء بهم إلى أقدس مكان، وفي أقدس زمان، مع أقدس إنسان خلقه اللَّه، ولأداء شعيرة عبادية هي من أعظم شعائر الإسلام. وجاء معه أولئك الذين يدبرون في الخفاء ما يدبرون. وكان صلى الله عليه وآله يعلم أن مكة وما حولها كانت من حزب هؤلاء الطامحين، الذين يدبرون لحرف الأمور عن مسارها الذي هي فيه. بالإضافة إلى أن طائفة من أهل المدينة وما حولها كانت تتعاطف معهم، فاختار النبي صلى الله عليه وآله عرفة دون سواها لا مكة، ولا منى لأن الجميع حاضر في عرفة وكلهم على حال الإحرام، الذي يظهر رغبتهم في إعطاء انطباع عنهم يعبر عنه امتناعهم عن ملذاتهم، وعن كثير من الأمور المحللة لهم، فهم ممنوعون حتى من إيذاء النملة والقملة، فضلاً عما سواهما، وها هم يسيرون من بيت اللَّه، إلى حرمه بعد أن كانوا قد لبوا داعي اللَّه، وأعلنوا براءتهم من الشرك ورفضهم له، حين قالوا لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، واعترفوا أيضاً بأن الحمد والنعمة والملك للَّه سبحانه، دون غيره، فليس لهم أن يفتروا عليه تعالى في شي‏ء من ذلك. وهم في يوم دعاء وابتهال وعبادة وتوبة إلى اللَّه.. هذا أمر يشاركهم فيه عشرات الألوف من الحجاج في عرفات، الذين جاؤوا من كل بلد، ومن كل حي، ومن كل عشيرة وقبيلة، وهم في حج لم يحصل مثله فيما مضى، ولن يكون له مثيل فيما يأتي إلى يوم القيامة. وهو حج مع أفضل من خلق اللَّه، وفي آخر حجة يحجها، وقد أعلمهم بأنه يوشك أن يفارقهم، فأثار بذلك عاطفتهم، وأذكى شعورهم الحاني، وجعلهم أكثر اهتماماً بكل حرف، وكل حركة، وكل نظرة وسمة فيه صلى الله عليه وآله، وسيعود هؤلاء الحجاج إلى بلادهم بأعز ذكرى، وأجمل، وأحلى حديث.

فما الذي رآه هؤلاء الناس في عرفات، وما الذي سمعوه، وما الذي سوف ينقلونه لأهلهم في بلادهم؟
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد خطب الناس في يوم عرفة وحدثهم عن المستقبل، وما أحلى الحديث عن الغيب، ولا سيما إذا كان يرتبط بمستقبل الإنسان، لقد حدثهم عن الأئمة، أو الخلفاء، أو الأمراء، وذكر لهم عددهم، وأنهم اثنا عشر. فثارت ثائرة بعض الناس، حين رأوا أن ذلك يفسد عليهم خطتهم، ويضيع جهودهم، أو على الأقل يضع أمامهم العراقيل. فما كان منهم إلا أن قاموا في وجهه وضجوا وتكلموا، وصاروا يقومون ويقعدون، وعلا صراخهم حتى لم يعد بالإمكان سماع شي‏ء مما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، حتى ليقول أحد رواة هذا المشهد: فقال كلمة أصمنيها الناس، فقلت لأبي وكان أقرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مني : ما قال؟ فقال: كلهم من قريش. فما هذه الجرأة منهم على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، مع أن الله سبحانه كان قد أوصاهم بأن: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُون (النساء: 59). وهذا يتناقض مع ظاهر حالهم، فإنهم في هذا الحج بصدد إنجاز عمل صالح يوجب غفران ذنوبهم. وقال لهم: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ (النساء: 80)، وقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ (الحشر: 7)، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (الحجرات: 1)، وقال: ﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (الحجرات: 2)، وآيات أخرى لا مجال لذكرها. فإذا رأى الناس منهم ذلك، وانتشر ذلك عنهم في البلاد والعباد، وانتقل إلى الأجيال اللاحقة جيلاً بعد جيل، وسجلته حتى كتب الفرق الإسلامية على اختلافها.. فإن ذلك يعطي انطباعاً عن مدى انقياد هؤلاء الناس لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وعن حقيقة ما يضمرونه من طموحات، وما يسعون له من مناصب ومآرب. ويكون صلى الله عليه وآله بذلك قد فتح للناس باب الهداية، وأقام بذلك الحجة عليهم جيلاً بعد جيل، فما عليهم إلا أن يختاروا أن يكونوا مع أي فريق، والسير في ذلك، أو في هذا الطريق.

* إذا كانت الجموع بهذه الكثرة، مئة وعشرين ألفاً وقد جاؤوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، يضاف إليهم أهل مكة وكل المحيط الذي يرتبط بها، فكيف استطاع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يسمع خطابه لجميع الحاضرين في عرفة؟
لقد ذكرت النصوص أنه صلى الله عليه وآله كان يخطبهم وكان علي عليه السلام يقف في مكان آخر، ويوصل كلامه إلى من هم في الجهة الأخرى(3). ويمكن أن نستفيد من هذا: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان في المواضع المشابهة من حيث كثرة الحاضرين، يمارس هذه الطريقة لإبلاغ كلامه للآخرين، ولعل هذا هو ما جرى في غدير خم أيضاً.

* بعد عودة الرسول صلى الله عليه وآله من الحج مع القوافل عرَّج على غدير خم، فلماذا عاد إلى طرح الموضوع من جديد؟! ألم يخش من تكرار ما حصل في عرفة؟! لماذا اختار النبي صلى الله عليه وآله هذا المكان للنزول فيه؟!
إن النزول في غدير خم قد كان لمتابعة المهمة، التي أوكلها اللَّه تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وآله، فإن ما جرى في عرفة قد يمكن التملص منه بأنها مجرد غلطة صدرت، قد ندم مرتكبوها وتابوا إلى اللَّه تعالى، وطلبوا المسامحة والعفو من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فأنعم لهم به وعفا عنهم.. على أن ما جرى في عرفات قد أنتج منع النبي صلى الله عليه وآله من الجهر بما يريد، واضطره إلى السكوت.. فلا بد من تعريف الناس بما أراد صلى الله عليه وآله أن يقوله، فإنه لم يصرح به.. وإذا تفرق جمع هذا الحجيج، فقد لا يتمكن من جمعهم مرة أخرى ليبلغهم ما أراد اللَّه تبليغهم إياه.. فكان أن جاء التهديد الإلهي للمتجرئين على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ليقول لهم: إنكم إن لم تكفوا عن معارضتكم هذه، فإن القرار الإلهي سيكون الأمر بالدخول معكم في حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر، لأن ذلك سوف يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ولعله يخوض معهم حروباً تشبه حرب بدر، وأحد، والأحزاب، و.. و.. وهذا هو ما ألمح إليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: 67). فبادر صلى الله عليه وآله إلى الخروج مع الناس الذين جاؤوا معه، وعاد معه أيضاً أولئك الذين خالفوه ومنعوه من إبلاغ ما يريد.. ولكنهم تركوا جماهيرهم، ومؤيديهم خلفهم، لأن أهل مكة سوف يبقون في بلدهم، كما أن جميع الناس الذين يعيشون في محيط مكة سوف لا يشاركون في هذه المسيرة، بل سوف يعودون إلى أهاليهم، وقراهم القريبة أو البعيدة.. وسار الركب الذي قد يزيد على المئة وعشرين ألفاً. وبلغ غدير خم، الذي كان قرب مفرق طرق، ولا بد أن يتوزع الناس إلى بلادهم منه. فنزل هناك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. وفي ظلال هذه الوحدة والبعد عن الأنصار والمؤيدين لهؤلاء الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وآله في عرفة، وفي ظل ذلك التهديد الإلهي لهم بالحروب، والمصائب، والبلايا، والنوائب، تمكن النبي صلى الله عليه وآله من تبليغ ما أمره الله بتبليغه، وهو الإمامة التي ذكر أن عدم تبليغها بمثابة عدم تبليغ أصل الرسالة، فسكت المتجرؤون عليه بالأمس في عرفات، بل هم قد عبروا عن قبولهم، وعن غبطتهم، وهنأوا علياً عليه السلام، الذي نصبه اللَّه ورسوله ولياً وإماماً، وبايعوه في جملة من بايع حيث رأوا أنه لا بدَّ من الانحناء أمام العاصفة، ثم يستأنفون بعد ذلك التدبير الذي يضمن وصولهم لما تصبو إليه نفوسهم، ويحقق لهم مآربهم..

* كيف أصبحت الإمامة والولاية تعدل الدين كله، بحيث يصبح عدم تبليغها بمثابة عدم تبليغ أصل الرسالة؟!
إنه لا شك في أن النبي صلى الله عليه وآله قد بلَّغ هذا الدين في عقائده وشرائعه، ومفاهيمه، وقيمه، وسياساته، وغير ذلك طيلة ثلاث وعشرين سنة، لكن ذلك كله لكي يكون مقبولاً عند الله، ومحققاً للأهداف، وموصلاً للغايات المتوخاة منه يحتاج إلى الاقتران بولاية أمير المؤمنين عليه السلام، ولذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة: 67). فقرر أن تبليغ أي حكم، أو اعتقاد، أو مفهوم يبقى ناقصاً، إذا لم يصاحبه الأمر بالاعتقاد بالولاية والإمامة لأهلها، فالتوحيد الذي لا ولاية معه ليس هو التوحيد الذي أراده الله، والاعتقاد بالمعاد بدون الاعتقاد بالولاية ليس هو المطلوب لله تعالى، والصلاة أيضاً، والحج، والجهاد، والتسبيح، والتوبة، وغير ذلك إذا لم تصاحبه ولاية علي عليه السلام فهو ناقص، ولا يحقق الأهداف، ولا يوصل إلى الغايات الإلهية، وليس هو ما يريده الله، بل هو مردود، وبمثابة المعدوم غير الموجود. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد بلَّغ جميع أحكام الدين، ولم يبلِّغ الولاية، فإنه لم يكن قد بلَّغ الرسالة، وإذا أردنا توضيح ذلك بالمثال، نقول: لو أن جسداً ملقىً وله عين وقلب، ويد، ورجل، ولسان، وأذن، و.. و.. الخ.. ولكنه فاقد للروح، فالعين لا ترى، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، واللسان لا يتكلم، وليس له عقل، ولا مشاعر، ولا، ولا الخ.. فإذا نفخت فيه الروح، فإن تلك الجوارح تبدأ بالعمل، فالعين تبصر، والقلب ينبض، واليد تمتلئ قوة، ويصير يحب ويبغض، ويحس ويتألم، ويلتذ الخ.. فوجود اليد واللسان والرجل، والأذن، و.. و.. يكون بدون الروح كعدمه. وولاية أمير المؤمنين عليه السلام بالنسبة للأعمال من هذا القبيل، ولذلك ورد أن هذه الولاية شرط قبولها، ومن شرط تحقق المثوبة عليها، وبدون هذه الولاية لا يكون لكل تلك الأعمال الجوارحية والجوانحية فائدة، بل يكون وجودها كعدمه..

* ذكرتم في كتاب "الغدير والمعارضون" أن قضية الغدير سوف تبقى القضية الأساس بالنسبة للمسلمين جميعاً ولغيرهم أيضاً، فماذا قصدتم بذلك؟!
إن قوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (المائدة: 67) هو الجواب على هذا السؤال، فإنه إذا كان دين الله تعالى هو أهم قضية بالنسبة للبشر، فهو سر سعادتهم ونجاتهم، وهو رمز بقائهم، وبه تتبلور حقيقتهم الإنسانية، وعلى أساسه لا بد أن يكون تعاملهم، ومن خلال تعاليمه، ومفاهيمه، لا بد أن يتم بناء شخصيتهم الإنسانية. وإذا كان كل حكم، وكل حقيقة في هذا الدين مرتبطاً بأمر الولاية والإمامة، حتى إذا لم يتم تبليغها فإن الدين نفسه يصبح كأن لم يكن أصلاً.. فإن هذه الولاية تصبح ضرورة للبشرية، وليس فوقها ضرورة على الإطلاق.


(1) يمكن الرجوع في ذلك إلى: "إختلاف الحديث" للشافعي ص‏567 و"سنن النسائي" ج‏5 ص‏164 و"المصنف" لابن أبي شيبة ج‏4 ص‏423 و"السنن الكبرى" للنسائي ج‏2 ص‏355 و"المسند" ص‏195.
(2) الآية 27 من سورة الحج. وقول ابن إدريس موجود في السرائر ج‏3 ص‏551.
(3) راجع: البداية والنهاية ج‏5 ص‏217 وتاريخ مدينة دمشق ج‏18 ص‏4 وأدب الإملاء والإستملاء ص‏101 والسنن الكبرى للبيهقي ج‏2 ص‏343 والمغني لابن قدامة ج‏1 ص‏624 وتحفة الأحوذي ج‏5 ص‏319 وسبل الهدى والرشاد ج‏7 ص‏312.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع