موسى حسين صفوان
ليس هناك مفردة يمكن أن نستخدمها أكثر تعبيراً عما حدث في سجن أبو غريب من كلمة "فظيع"، بيد أنها تتطلب منك أن تكون بارعاً في إعمال خيالك لكي تستطيع أن تدرك مدى القبح والفظاعة اللذَين شهدهما العالم ولا يزال من حين لآخر مما كان يدور خلف جدران سجن أبو غريب المحروس بالحضارة الأميركية الممتازة! سجن أبو غريب، وهذا ما يؤلم، ليس مجرد مأساة للسجناء العراقيين المغلوب على أمرهم، والذين شاءت الإدارة الأميركية وبقرار سياسي إذلالهم إلى أبعد حدود الإذلال... ربما حتى لا يخطر ببالهم أي شيء له علاقة بالأنفة والإباء والمقاومة...
سجن أبو غريب في حقيقة الأمر مأساة إنسانية تعبر عن المستوى المنحط للمضمون القيمي للإنسان المعاصر، إنه في الحقيقة يعبر عن حالة مستعصية من الظواهر المرضية تشترك فيها ربما عشرات الأمراض النفسية التي صارت بامتياز تشكل العلامات الفارقة لإنسان القرن الواحد والعشرين. أتساءل، لو كانت عناصر الشخصية الإنسانية يمكن أن تظهر عند الإنسان كما تظهر عضلات الرياضيين كيف ستكون صورة المجندين والمجندات الأميركيين والأميركيات وهم يعبثون بسادية واستعلاء وغرور يدعو للقرف بأكوام من البشر العراة الذين كانوا قبل دخولهم إلى دهاليز أبو غريب يملكون مشاعر وأحاسيس وعائلات، ويتمتعون بكرامة وأنفة وشهامة وعزة نفس!!! المأساة التي لا بد من الإتيان على ذكرها، أن أولئك الغزاة المتوحشين، الذين يدَّعون أنهم رسل الديموقراطية والحضارة والنظام العالمي الجديد، لم يكونوا قبل دخولهم سجن أبو غريب، ولا أثناء وجودهم فيه، ولن يكونوا بعد خروجهم منه ليحظوا ولو بذرَّة من كرامة وشهامة وإنسانية وعزّة نفس!!! فهم ينطوون على نفوس مشحونة بالعقد غير قادرة على رؤية العناصر الإنسانية في الإنسان الماثل بين أيديهم، والذي لا ذنب له سوى أن سوء الطالع قذف به في هذا السجن ليعاني من سياط الغرباء بعد أن عانى الأمرَّين من سياط الجلادين من بني جلدته!
يمكن للمحلل والمراقب أن يجد أشياء كثيرة تعتمل في نفوس المجندين والمجندات ومَنْ وراءهم من الضباط وربما السياسيين الذين يستمتعون بعذابات البشر وآلامهم ودمائهم... فهناك مثلاً الشعور بالاستعلاء، فمئات بل آلاف السجناء ربما لا يشكلون حتى لا نقول وجدان في اعتبار الضابط الأميركي أكثر من كائنات يمكن أن يجري عليها ما يشاء من الاختبارات التي تروي غريزته الجامحة المريضة العفنة دون أن يشكل ذلك له أي حرج! ويمكنك أن تلاحظ ببساطة موت الإحساس بالآخر وهذا من مظاهر الحيوانية التي يروِّج لها الغرب دائماً من خلال أفلام الحركة والقتل والتدمير بدون أي وازع. ويمكنك أن تلمح مقدار العقد المستفحلة التي تختفي خلفها السادية والميزوتشية وغيرها من الأمراض الغرائزية، فالإباحية المبالغ فيها في بلاد التكنولوجيا والحضارة قتلت أعزّ ما يمكن أن يتميز به الإنسان وهو مجموعة الأحاسيس المادية والمعنوية، فصار الإنسان هناك يبحث عن المبالغة لتحصيل الارتواء الذي فقده نتيجة موت الأحاسيس لديه، وتحولت بذلك الغرائز الجسدية التي تعجز عن تحصيل الإشباع من خلال الوسائل المتاحة بكثرة إلى غرائز سيكولوجية لا ترتوي أبداً، ومن هنا يمكنك أن تلاحظ تحول المجتمع الغربي إجمالاً إلى المبالغة، والعنف، والتوتر، بدءاً من الموسيقى الصاخبة، وإلى مظاهر الحياة كافة. كل ذلك... ولا تزال تلك الدوائر الغربية المتسلحة بالتكنولوجيا وأسلحة الدمار الشامل تعتقد واهمة أنها قادرة على بسط نموذجها الحضاري على ما تبقى من أقطار العالم المحافظة على حد أدنى من القيم!
سجن أبو غريب يجب أن يكون مؤشراً لنا من أجل معرفة المضامين السلوكية لدى الإنسان الغربي، من أجل أن نقوم بعملية مواجهة لهذه الحرب الأخلاقية من خلال خطين من المواجهة وهما:
الخط الأول: تحصين أنفسنا وأبنائنا من الأنماط الغربية التي شرعت تغزو بلداننا، وذلك من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من مجموعة الأحاسيس الفيزيولوجية والسيكولوجية لدى إنساننا الشرقي الذي يعاني أصلاً من أزمات ومشاكل نفسية نتيجة عقود طويلة من التبعية الثقافية والحضارية. وذلك يكون من خلال إعادة إحياء المضامين الحضارية الشرقية وخاصة الإسلامية التي ليست تواجه الغزو الثقافي الغربي فقط، بل وتستطيع إعادة بناء الشخصية الشرقية بناءً متوازناً قادراً على مواجهة التحدي.
والخط الثاني: وهو على جانب كبير من الأهمية، ويتمثل بشن حرب قيمية ضد المبادئ السلوكية الفاسدة بالاستعانة بالرصيد القيمي الإسلامي والشرقي عموماً خاصة وقد بدأت تظهر علامات المرض لدى الإنسان الغربي، وبدأت ترتفع صيحات التذمر والشكوى من هنا وهناك... فهل ترى نستطيع مواجهة الغزو التكنولوجي والثقافي ضد شعوبنا المستضعفة، بهجوم ثقافي وإنساني مضاد، خاصة مع وجود وسائل الاتصال التي تمكننا من إيصال ما نملك من مضامين إنسانية خيّرة؟ لا يبدو ذلك مستحيلاً؟