المجاهد الجريح مرتضى سليمان بيضون (هادي المسعف)
الحُبّ.. كلّنا يتكلّم باسمه، وقلّة منّا من يتكلّم الحبّ باسمهم. خلاصة الحبّ الفناء، فناءٌ فحسب. تحلّق الفراشة حول الضوء لتلتهم النارُ أطرافها، فتجذبها وتنصهران معاً لتصبحا النور. أنا وهي؛ كلانا كان الفراشة، وكلانا كان النور، وصهرتنا الرصاصةُ معاً. رصاصة القنص تلك التي اخترقت جمجمتي وخرجت من عيني اليسرى فأطفأتها، أوقفت قلبي ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة ظنّ الأطباء أنّ الصعقات الكهربائيّة هي التي أعادتني إلى الحياة بعد أن زُفِفتُ شهيداً.. لم يكن أحد منهم يعلم أنّ حبلَ وريدي قد تدلّى في بئر قلبها، حيث تصلّي دوماً أن أعود سالماً.
•عندما تجاوز نصف الطريق
أنا مسعفٌ حربيّ. منذُ بداية الحرب في سوريا مكثتُ في الخطوط الأماميّة للمعارك، وكان الجميعُ يعلمُ أنّ إصابة الرأس الخطرة من اختصاص "هادي المسعف"؛ المسعف الذي كان ينقذ الجريحَ بحبّه قبل تضميد جرحه.
لا أستطيع أن أتذكّر ضراوة تلك المعركة؛ وكأنّه يومُ القيامة. تراب الأرض يلامس الغيم، والقذائف تسقطُ وهي تشدُّ معها أطراف السماء لتطبق علينا. سقط أحد الإخوة جريحاً، ولم يستطع أحد سحبه، فما كان منّي إلّا أن شددتُ جرح الجريح الذي بين يدَيّ، وهرعتُ لإنقاذ الآخر. تجاوزت نصف الطريق فقط، وانتهى كلّ شيء.
•"لا زلتُ هنا"
كان في أحشائها حلم جميل انتظرناهُ طويلاً اسمه "ريحانة"، وكنتُ أمامها جثّةً بلا روح.. بقايا نبض، رفض الطبيبُ أن يعطيها أملاً واحداً في المئة، ثمّ كان كريماً بعد أربعة أيّام عندما أنزلني إلى غرفة العمليّات ليفتح رأسي ويزيل نصف جمجمتي بسبب النزيف الحادّ، فقد صار الأمل واحداً في المليون!
"ستفقدينه في أيّة لحظة". فاختزلتِ الزمان والمكان وكلّ ما قيل، وسكنتْ ذلك الخطّ الرفيع والصوت المروّس في آلة مراقبة نبضي. أعلمُ أنّها انهارت وبكت وامتنعت عن الطعام في الفترة التي لم آكل فيها، ولكنّها بقيت واقفة صلبة، كشجرةٍ تشبّثت جذورها في قلبي، وصارت أغصانها شراييني. فجأةً، هذه التي لم تكن تخطو خطوة من دوني، وتغرق في الحياء والارتباك من تفاصيل سطحيّة، تحوّلتْ إلى الجهة المعنيّة بكلّ شيء لأجل حياتي. جلستْ بالقرب منّي وهي حامل في شهرها السادس تداويني وأنا في العناية الفائقة، تقلّبني ذات اليمين وذات الشمال، تنظّف جراحـي، وتحدّثنــي بكلّ شــيء؛ اليوم والتاريخ والأحداث، وتخبرني عن ثياب طفلتنا، وما اشترته لها، وتطلب منّي أن أكون قويّاً لأجلهما. لا أدري وأنا غارق في عالمي البرزخيّ ما الذي كان يجري حولي، ولكنّي كنت أشعر بكيانها حاضراً دوماً، وأعبّر عمّا في قلبي بضغطة ضعيفة على يدها أقول فيها: "لا زلتُ هنا".
أشهر مريرة كانت تقرأ فيها نبض قلبي لتعرف أحوالي، وعندما حان المخاضُ، ووضعتْ "ريحانة"، تركت سريرها بعد أربع ساعات لتتفقّدني وتطمئنّ إليّ.
•الاختيار الموفّق
زوجتي درست التمريض مثلي، ولكنّها لم تتأقلم مع عمل المستشفيات. لم تتقبّل فكرة أن يتوفّى مريض وتكمل عملها وكأنّ شيئاً لم يكن، وقد شجّعتها على ذلك، فتلك الرقّة التي تشابهنا بها قرّبتنا كثيراً من بعضنا بعضاً.
مضافاً إلى الصفات الحميدة الموجودة فيها، شجّعتني الخيرةُ –أيضاً- أن أنتقيها، لتكون زوجة صالحة لي، وبعد سنة ونصف من الزواج، أصبتُ، ولمّا تجاوزتُ الخطرَ، عدتُ إلى الحياةِ بشللٍ رُباعيّ وفقدانٍ للنطق، وصعوبة في التركيز، وبعينٍ واحدة وأذنٍ واحدة.. هادي الذي كان يضجّ حركةً وحياةً ونشاطاً.. لم يعد كذلك.
وحدها من بين الجميع لم ترني على ما أنا عليه.. لقد اتّحدت إرادتي بقوّتها، ومن المستشفى، إلى مراكز العلاج، إلى البحث الدائم في الإنترنت عمّا يمكن أن يساعدني، كانت تعلّمني النطق، وتساعدني في تركيز نظراتي، وتدرّبني على السير وعلى تنشيط حركة يدي، حتّى ذُهل الطبيب بنسبة شفائي بوقت قصير.
•"صباح الخير!"
كلّ يوم كان جديداً بالنسبة إلينا، تفتح عينيها وتقول لي: "صباح الخير"، وتقسّم وقتي بين راحةٍ وتدريب وعناية. وفي كلّ يومٍ كنتُ أودّ أن أعبّر لها عن امتناني العميق لحبّها الذي أخرجني من غياهب الجبّ.
بعد ستة أشهرٍ، نظرتُ إليها صباح يومٍ وكانت لا تزالُ تغفو على الكنبة المقابلة لسريري، تمنّيتُ أن تظلّ نائمةً لأتأمّل شعاع الأمل الساطع من جبينها، وكنتُ أشكرُ الله أن رزقني إيّاها زوجة، ولكنّها فتحت عينيها وقطعت عليّ استئناسي براحتها، ابتسمت معلنةً بدء يوم جديد: "صباح الخير"، فأجبتها بكلّي: "صباح النور"... كانت أوّل ما نطقتُ به، فانهمرت دموعها، صرختْ وهي مذهولة ومسرورة ممّا رأته!
•النزهة المرتقبة
ها أنا ذا اليوم، أتّكئُ على عصاي وأمشي بهدوء، أتجوّل في البيت متدرّباً على السير، فـ"ريحانة" تنتظرُ نزهةً معي... وأتواصل مع مركز عملي لأنبّههم أنّ البديل الذي شغل مكاني عمله مؤقّت.. أعرف أنّي لن أعود كما كنتْ، ولكن مَن انتزع الحياة من الموت، سينتزع بإصراره كلّ ما يريده، فأنا مسعفٌ حربيّ، ولن أكون غير ذلك.
(*) مقتبس من برنامج (بوح الجراح)، إعداد الكاتبة نسرين إدريس قازان.