لقاء مع سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين
كثيرةٌ هي التساؤلات التي يطرحها الشباب حول الإمام الخمينيّ قدس سره، وفكره، وثورته المباركة.. تلك الشخصيّة الفريدة والاستثنائيّة التي شهدها التاريخ البشريّ، والتي أثقلت نفوسهم وعقولهم بروح الثورة والمقاومة، ورفض الظلم، وإعلاء كلمة الحقّ.
يجيب سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين عن بعض الأسئلة التي وُجّهت إليه خلال حوار شبابي في ذكرى انتصار الثورة (أربعون ربيعاً) (*).
•بماذا تميّزت شخصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره؟ وكيف يمكن للشاب أن يقتدي به؟
بدأ الإمام الخمينيّ قدس سره ببناء نفسه وشخصيّته قبل أن يأتي إلى قمّ المقدّسة، حينما كان في بلدته "خمين شهر". وكان قدس سره شديد المواظبة على بناء نفسه وشخصيّته، وهذا يعني أنّني كإنسان، كي أستفيد من شخص، ومن تجربة عظيمة كتجربة الإمام الخمينيّ قدس سره، يجب أن أفتّش عن الأسباب التي امتلكها الإمام حتّى وصل إلى ما وصل إليه. فالإمام قدس سره هو مَن يدلّنا ويرشدنا، وقد كان دائماً يوصي الشباب بأنّ لديهم الطاقة والإمكانيّة، ويدعوهم إلى اغتنام وقت الشباب وزمنه؛ فهو زمن البناء، والتركيز على الذات، والوعي، والفهم، والإيمان، والمعرفة، وما يمكن أن يطويه الشاب في بداية حياته على مستوى علمه بساعات، إذا تقدّمت به السنّ، فإنّه يحتاج إلى أيّام وشهور، ولن يتمكّن من الوصول إلى أيّ شيء. إذاً، مرحلة الشباب هي مرحلة الاستفادة.
لذا، عندما نتحدّث عن البرامج الحكوميّة، والوطنيّة، والتربويّة، والتعليميّة، يجب أن يُعطى لمرحلة الشباب الأهميّة القصوى. في الخلاصة، يجب الاستفادة من مرحلة الشباب ما أمكن. وهذه هي تجربة الإمام، فبإمكان أيّ شاب وفتاة، وأيّ إنسان، أن يبني في نفسه خمينيّ المستقبل، إذا اقتنع أنّ بإمكانه أن يفعل ذلك. وفي نهاية المطاف، الإمام الخمينيّ قدس سره كان إنساناً. صحيح أنّه عاش في بيئة ساعدته، لكنّه ابن شهيد، وعاش يتيماً، وعاش شظف الحياة، وتمكّن من أن يستثمر هذه البلاءات كلّها في صياغة شخصيّته ومستقبله. يقول أحد الذين عرفوه: إنّ الإمام كان دائماً يتحدّث عن المستقبل كأنّه يراه أمامَه؛ وهذا نتيجة الثقة بالله عزّ وجلّ، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ﴾ (محمد: 7).
•اقترن مصطلح البصيرة بالإمام الخمينيّ قدس سره، وقد تجلّى ذلك عند استشهاد نجله مصطفى ومن خلال ما سمعناه وقرأناه عنه، فما هي أسباب هذه البصيرة؟
تحتاج البصيرة إلى أمرين:
أوّلاً: الإيمان النافذ: فهناك إيمان ضعيف، وبسيط، وساذج لا يخدم صاحبه كثيراً؛ بمعنى أنّه إيمان فيه قليل من التقوى وقليل من الفقه والمعرفة، الذي لا يُستتبع بعمل، ولا تطبيق، ولا يقوى على مواجهة التحدّيات.
ولتوضيح ذلك، فقد يأتي مَنْ يُصلّي صلاة الجماعة في المسجد، ويغادر، فتبدر منه معصية بنظرة أو بكلمة، فهذا يدلّ على ضعفٍ إيمانيّ لديه؛ لأنّ صلاته لم تصمد من حين أدائها إلى الباب الخارجيّ للمسجد.
أمّا بالنسبة إلى الإيمان القويّ، فلو عُرضت الدنيا على الإنسان بمباهجها ومغرياتها كلّها، فسيختار الله عزّ وجلّ وطاعته، وهذا ما تجسّد حقيقةً بالإمام قدس سره.
ثانياً: العقل الثاقب: أي العقل النافذ، والمعرفة، والعلم، والوعي؛ لأنّ الحياة عموماً فيها الكثير من بلاءات السذّج والبسطاء، فالبسطاء يقفون في وجه الحقّ، وهم يحملون راية الحقّ، فلا يميّزون بين الحقّ والباطل. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا ازدحم الجواب، خفي الصواب".
ويقول عليه السلام: "اعرف الحقّ، تعرف أهله".
ومن نتائج البصيرة:
1- تسديد من الله عزّ وجلّ.
2- الهيبة أمام الأعداء.
•ما مدى تأثير الإمام الخمينيّ قدس سره بعائلته؟
كان الإمام قدس سره شديد الحرص على بيته، وأسرته، وأبنائه؛ ولذا كان شديد الاعتناء بمعرفتهم، وثقافتهم، وتديّنهم، ولُحمتهم، واجتماعهم؛ لأنّه يعلم أنّ هذه العائلة إذا أعانها بعلمه، ومعرفته، وتقواه، ستعينه أيضاً على دنياه وآخرته، وثورته. فالإمام يمتدح كثيراً عائلته الخاصّة، وخاصّةً زوجته، التي أرسل لها الكثير من الرسائل بعد النفي، يُعبّر فيها عن خالص شكره وتقديره لها؛ لأنّها صبرت وصمدت، وتحمّلت معه تلك الأيّام الصعبة، خاصّة أيّام السجن، والنفي، والإبعاد. وأيضاً على مستوى أبنائه، فقد كان قدس سره شديد الحرص على سلوكهم، وتصرّفاتهم، لئلّا يرتكبوا الأخطاء، وخاصّةً بعد أن انتصرت الثورة الإسلاميّة، وأصبح هو الحاكم الفعليّ.
وكيف أثّروا هم فيه؟
لا شكّ في أنّه كان المطلوب منهم أن يكونوا محلّ رضى، فحينما كانوا مرضيّين، كان الإمام يحبّهم، ويعطف عليهم، ويدعو لهم، ويوجّههم، وهذا يعطيه راحة ومقدرة غير عاديّة. وكما نعلم، كلّما كان القائد مطمئنّاً وصادقاً معهم، سيكون أكثر طمأنينةً وصدقاً مع شعبه ومع الناس الذين يتحدّث معهم.
•هناك تحوّلات ثقافيّة كبيرة ومدّ ثقافيّ عالميّ كبير، هل بإمكاننا فعلاً أن نقف في وجه هذه الأمواج المتلاطمة كلّها؟
ما الذي يملكه الآخرون ولا نملكه نحن؟ فنحن نمتلك الفكر، والتاريخ، والتجربة، والقدرة، والطاقة الهائلة، ولكنّ المهمّ أن نُحسن تفعيل واستثمار هذه الطاقات في مشروع كبير. إنّ أسوأ شيء في منطقتنا، في عقليّة الانهزام العربيّ، هو عدم وجود قضيّة، حتّى لمن كان يدعم القضيّة الفلسطينيّة في الظاهر، فليس المطلوب لا الآن ولا في المستقبل أن ندعم القضيّة الفسلطينيّة فقط، بل يجب أن نحمل القضيّة الفلسطينيّة حتّى نكون مقاومين، ويجب أن نحمل قضيّة شعبنا حتّى نشعر بآلامه، ويجب أن نحمل هذه القضايا، همّاً، وعقيدةً، وفكراً، وثقافةً، ومعرفةً، وسلوكاً. فالإنسان الذي لا يملك قضيّة ولا ينتمي إلى قضيّة، ليس له وجود ولا قيمة في الحياة. حين تكون قضيّتنا كبيرة إلى هذا الحدّ، فثقافات الدنيا كلّها -ربّما نحترم بعضها ونرفض بعضها الآخر- نتعاطاها بعقلٍ، ومعرفةٍ، وثقة، وعندنا ما نملكه وما نقدّمه من ثقافة أصيلة، ومتينة، وعميقة. نعم، ما يملكه أعداؤنا من أدوات الهيمنة هو كثير، ولكن لو أنّنا استسلمنا للأدوات الأمريكيّة والإسرائيليّة، فمن المؤكّد أنّنا لن نكون هنا، ولو أنّنا استسلمنا لأدوات القتل والفتك، أدوات الإعلام، والسياسة، والضغط، والتهويل، لم نكن لننتصر لا في معركة، ولا في جبهة، ولا في أيّ مكان في هذا العالم. فحينما نثق بثقافتنا، نعتمد عليها، وهذا يحتاج أيضاً إلى من يقوم بهذا الأمر، وهذا هو الواجب.
•ترك لنا الإمام قدس سره إرثاً ثقافيّاً كبيراً، ما هو الكتاب الأجمل بالنسبة إليك؟
كُتُب الإمام كثيرة وكلّها جيّدة، لكنّ الكتاب الذي أثّر فيّ بشكل جيّد هو الكتاب الذي يتحدّث فيه عن الأبعاد الروحيّة للصلاة، أو الآداب المعنويّة للصلاة. في الحقيقة، هذا الكتاب ليس أستاذاً ومعلّماً فقط، بل هو كمن يأخذ بيد الإنسان ليعلّمه كيف يتوضّأ، ويصلّي، ويكون بين يدي الله عزّ وجلّ. مضافاً إلى كتاب (الأربعون حديثاً)، وهو من الكتب المهمّة جدّاً.
ومن المهمّ أن نذكر هنا، ما هو معروف في حياة الإمام الخمينيّ قدس سره، وهو حبّه للعلم، وشغفه به، وشغفه بطريقة تعلّمه، على قاعدة الحوار والنقاش. وأذكر أحد طلّابه ممّن كتب عنه قدس سره: "كنّا نحضر البحث الخارج، بحث استدلاليّ عميق، بحيث يأتي المرجع والذي كان هو الإمام، ولديه مجموعة كبيرة من الطلّاب، فيستدلّ على مسألة فقهيّة، وعندما ينتهي من الشروحات، يقرِّر الطلّاب الدرس، وبعد مدّة كان الإمام، المربّي والمعلّم، يقول للطلّاب: (أريد أن أرى ما تكتبون)، ليقرأ ويعلّق على تقريراتهم". ويكمل هذا الطالب الشيخ: "أعطيتُ دفتري للإمام فردّه لي بعد أيّامٍ قليلة، وقال: كلّ ما ألقيته في الدرس أنت كتبتَه وفهمته بشكلٍ جيّد، لكنّني لم أجد فيه أيّ كلمة من عندك، أو طرحك لأيّ إشكال، فهل قبلتَ بكلّ ما قيل، ما هي فكرتك ورأيك؟ بهذه الطريقة حفّزني الإمام".
وينقل أحدهم أنّ الإمام حينما كان يجلس مع ابنه الشهيد السيّد مصطفى في مناقشة علميّة، كان يعتقد من يراهما من بعيد أنّهما في مشادّة كلاميّة، وعندما سُئل السيّد مصطفى عن الأمر قال: "من الطبيعيّ أن يحصل أخذ وردّ عند طرح أيّ نقاش علميّ".
•يقول أحد الشهداء الإيرانيّين: "تعلّموا اللغة الفارسيّة فإنّها لغة الثورة"، هل تشجّعون على فهم هذه اللغة وتعلّمها؟ وما مدى أهميّتها في التقرّب من فكر الإمام؟
أنا ممّن يعتقدون أنّ من لا يعرف اللغة الفارسيّة، قد حُرم الخير الكبير والكثير. فاللغة الفارسيّة مدخل إلى الكثير من العلوم والمعارف التي تحتاج إليها المكتبة العربيّة. وفهم اللغة، سيُدخل الإنسان إلى أبعاد مهمّة جدّاً في شخصيّة الإيرانيّ المسلم، الذي ينتمي إلى هذا الإسلام، على المستوى العقائديّ والمعرفيّ. في نهاية المطاف، فمن يريد أن يتعرّف على تاريخ العلماء الإيرانيّين، من شعر، وأدب، وتاريخ، وثقافة، فإنّه يحتاج إلى اللغة الفارسيّة، وهي لغة مهمّة جدّاً، وتفتح آفاق الإنسان على عالمٍ رحب، وكلّ إنسان يبتغي المعرفة، بحاجة إلى هذه اللغة لتعينه على المعارف والعلوم كلّها.
•في إيران، يوجد نساء محاربات يتعلّمن تقنيّات الحرب، لماذا لا تُعمَّم هذه التجربة في لبنان؟
في المبدأ، لا مانع منه، وهذا حصل ويحصل بين الحين والآخر، لكن في الواقع، لا حاجة إلى ذلك، ففي حال كان هناك حاجة، فسنبادر مباشرة للقيام بهذا الأمر. وأمّا على مستوى محو الأميّة العسكريّة، فنحن جاهزون لهذه المسألة، وهذا يحصل، بمعنى أنّ الأخت بإمكانها استعمال السلاح عند الضرورة.
•ما هي نظرة الإمام الخمينيّ قدس سره إلى وحدة العالم الإسلاميّ، والتقريب بين المذاهب؟
يعتقد الإمام قدس سره أنّ العالم الإسلاميّ يجب أن يكون عالماً موحّداً في قضاياه، وهمومه، واستراتيجيّاته، وأهدافه. فحينما افتقد العالم الإسلاميّ البوصلة الموحّدة، أُخذ إلى أهداف شيطانيّة زرعت بين المسلمين الشقاق والتفرقة، وعندها دخل الاستعمار، والاستكبار، والغرب، وفتك بنا، وما زال يفعل إلى اليوم.
لقد نظر الإمام قدس سره إلى وحدة العالم الإسلاميّ، نظرة دينيّة شرعيّة فقهيّة تاريخيّة قرآنيّة، ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (الأنبياء: 92). وليس المطلوب بحسب نظرة الإمام قدس سره أن يكون الشيعي سنيّاً أو العكس، بل المطلوب أن تقترب المذاهب من بعضها بعضاً إلى حدّ أن تصل إلى أن توحّد شعوبها على قضاياها، وهمومها، وأهدافها.
(*) من كلمته في ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة (أربعون ربيعاً)، بتاريخ 7 شباط 2019م.