السيد علي محمد جواد فضل الله
ولادته والنشأة: ولد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي في شهر رمضان من سنة 385ه. في بلاد طوس. نشأ نشأة علمية تتلمذ خلالها على يد كبار العلماء والأدباء سنّة وشيعة فدرس علوم اللغة والأدب والفقه وأصوله والحديث وعلم الكلام.وفي العام 408ه عزم على الرحيل إلى بغداد، مهبط العلماء وقد سرّع في ذلك، استيلاء السلطان محمود الغزنوي على خراسان وما وراء النهر في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، فاشتد الحال على من لم يكن معتقداً بمذهب الدولة.
* المرحلة البغدادية في حياة الطوسي:
منذ وروده بغداد حاول الطوسي الاستفادة من الجو العلمي السائد هناك، في جميع المذاهب الإسلامي. وكانت زعامة المذهب الجعفري آنذاك في بغداد بيد الشيخ المفيد (338 413ه) فكان من الطبيعي أن يلازمه لموقعه ومكانته، فكان المفيد أعظم مشايخه وأساتذته نهل منه وعلى مدى خمس سنوات علوماً مختلفة من فقهٍ وأصولٍ وكلام. وقد برزت مكانة الشيخ الطوسي الفقهية في أول تصنيفاته وهو كتاب "تهذيب الأحكام" أحد المجاميع الحديثية الأربعة المعتمدة عند الشيعة. والظاهر أنه شرع فيه وعمره آنذاك لم يتجاوز الخامسة أو السادسة والعشرين، وبعد وفاة المفيد انتقلت الزعامة الدينية ورئاسة المذهب الإمامي إلى الشريف المرتضى (355 436ه) الذي تميّز بتبحره في فنون المعارف المتداولة في زمانه. وعني السيد المرتضى بالشيخ الطوسي عناية خاصة، وبقي الشيخ ملازماً له طيلة ثلاث وعشرين سنة، ولم يقتصر بالإفادة على المفيد والمرتضى فقط بل قرأ على كثيرين من أهل العلم من أعلام الشيعة والسنّة، وبعد وفاة المرتضى استقل الطوسي بزعامة الطائفة، واستمرت زعامته في بغداد مدة اثني عشر عاماً (436 448ه)، وقد وفد عليه العلماء على اختلاف مذاهبهم للاستفادة من علمه الواسع(3)، يقول الشيخ عباس القمي "وكان فضلاء تلامذته الذين كانوا مجتهدين يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة، ومن العامة ما لا يحصى"(4)، وقد جعل له خليفة عصره القائم بأمر اللَّه كرسي الكلام والإفادة، الذي كان له يومذاك عظمة وقدراً وكبيراً، لا يجعل إلا لمن برز في علومه، وتفوق على أقرانه(5).
* المميزات العلمية لمدرسة الشيخ الطوسي في بغداد:
من المنطقي أن تكون للشيخ الطوسي مدرسته الخاصة به المختلفة عما كانت عليه البيئة العلمية آنذاك. ومن أهم مميزات وخصائص المدرسة البغدادية للطوسي الأمور التالية:
أولاً: تغييره منهجية السرد الروائي على الصعيد الفقهي والأصولي والتفسيري وغيرها، حيث اعتمد المنهج التفريعي وتطبيق القواعد في أبحاثه الفقهية ولم يتجمد على ظاهر الروايات بل جاب آفاقها إلى غاية ما تتحمله توسعة وتفريعاً. معتمداً على عنصر العقل ولكن ليس على حساب النقل(6).
ثانياً: نتيجة للحاجة الملحة التي كانت تتطلبها أجواء بغداد والمدارس الفقهية المتنوعة فيها، أدخل الشيخ الطوسي عنصراً آخر في أبحاثه ومدرسته ألا وهو الفقه المقارن أو الأصول المقارن، فخلف لنا في مجال الفقه المقارن كتابه الهام (الخلاف)، حيث بسط فيه الكلام في الفقه الإمامي وقارنه مع آراء معظم المذاهب الفقهية الأخرى(7).
ثالثاً: تطوير علم أصول الفقه، عبر كتابه (العدة)، الذي يُعد أول كتاب مبسوط في هذا العلم عند الإمامية، إلى جانب التطور الكبير على الصعيد الفقهي.
رابعاً: الحيوية والنشاط في إلقاء الدروس والمحاضرات وفي مختلف مجالات العلوم الإسلامية، والكتابة فيها، إذ قارب إنتاج الشيخ الطوسي من الكتب في هذه المرحلة (408 - 448هـ) خمسة وأربعين مؤلفاً.
* المرحلة النجفية في حياة الشيخ الطوسي:
في النجف ابتدأت المرحلة الأخيرة من حياة الطوسي، والتي امتدت فترة اثني عشر عاماً (448- 460ه)، فهي تضم مرقد الإمام علي عليه السلام، وفيها نواة حركة علمية لها قابلية النمو(8). بعض الباحثين يخلص إلى أن النجف قبل هجرة الطوسي إليها عام 449ه كانت تضم بعض رجالات الفضل والعلم، فشرع الشيخ الطوسي في إحياء الحركة العلمية فيها. فغدت بعد فترة قصيرة، حاضرة العلم والفكر، يهاجرون إليها من مختلف المناطق(9).
* الخصائص العلمية لمدرسة الطوسي في النجف:
الحوزة العلمية التي أسّسها الطوسي في النجف كانت حوزة فتية حديثة العهد فتلامذة الشيخ في بغداد لم يلتحقوا به وكان لمدرسة النجف بعض الخصائص منها: أن الدراسة فيها كانت تتم ضمن حلقات خاصة ومنها أنها أحادية المذهب وهذا يعني قلة التعرض لآراء المذاهب الإسلامية الأخرى. ومنها: قلة الإنتاج الفكري ففي مدة اثني عشر عاماً لم يكتب سوى "الأمالي" "وأخبار الرجال" "وشرح الشرح".
* المكوِّن المعرفي لشخصية الطوسي العلمية:
ألف الشيخ في علم الحديث كتابي التهذيب والاستبصار اللذين يعدّان من بين الكتب الحديثية الأربعة الأساسية عند الشيعة الإمامية والتي يرجع إليها المجتهدون في استنباط الحكم الشرعي، وصنّف في علم الرجال كتابين من أصل خمسة كتب للشيعة الإمامية في هذا المجال. وفي تفسير التبيان الذي يعتبر فتحاً جديداً في تفسير القران احتذى به العلامة الطبرسي في كتابه مجمع البيان، حيث قال: "هو القدوة استضيء بأنواره وأطأ مواقع آثاره"(10) وقال أحد الباحثين "يُعد بحق دائرة معارف شاملة ..."(11). وأما في المجال الفقهي فقد أحدث ثورة فعلية على السائد والقديم، وذلك عبر ما أدخله إلى البحث الفقهي وخاصة في كتاب المبسوط من مناهج وأدوات فكرية مبتكرة وجديدة. فالفقه إلى زمن الشيخ كان تجميعاً لمتون الروايات مع شيء بسيط من التفسير والموازنة، فنهض الشيخ موسعاً له موضوعاً ومنهجاً. حتى اعتبر المؤسس لطريقة الاجتهاد المطلق في الفقه وأصوله(12). وواكب هذا التطور الفقهي تطور أصولي، فكتاب الشيخ (العدة في أصول الفقه) كان له طابع تأسيسي، وهكذا يمكننا اعتبار الطوسي حداً فاصلاً بين عصرين من عصور العلم كما يرى السيد الشهيد الصدر"قده" العصر التمهيدي للعلم والعصر العلمي الكامل. وأما موقع الشيخ الطوسي الكلامي فإننا نجد غزارة إنتاجه في هذا العلم حيث تجاوز العشرين كتاباً، إضافة إلى منحه كرسي الكلام من قِبَل الحاكم العباسي. الذي لم يعط لأحد لا قبله ولا بعده، وهذا ما دفع العلامة الحلي إلى القول بأنه "هو المهذب للعقائد في الأصول والفروع"(13)، وذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى اعتبار الطوسي أحد أكبر منظري مذهب الإمامية على الإطلاق(14)، فشيخه المفيد جعل الشواخص الكافية التي تميز عقائد الإمامية عن غيرها وقام هو بمهمة تثبيت معالم الهوية المستقلة لمذهب أهل البيت عليهم السلام كما قال السيد القائد الخامنئي"دام ظله". وفي ختام الكلام عن موقع الطوسي العلمي نستعرض ما أفاده الشيخ المظفر قائلاً: "ومما يُلفت النظر عن مقامه العلمي أن كل من جاء بعده من العلماء إلى مدة قرن، كاد أن يكون مقلداً له في آرائه، لا يتخطى قوله ولا يحيد عن رأيه، حتى كان يُخشى أن ينسد باب الاجتهاد عند الإمامية، بل هو إلى يومنا، له من التقدير في نفوس العلماء ما يصعب معه تخطي رأيه ونقده"(15) ؟
(1) جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، طبقات المفسرين، ص29.
(2) محمد رضا الأنصاري، العدة في أصول الفقه، ج1، ص24.
(3) أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الإسلامية، مج1، ص563.
(4) عباس القمي، فوائد الرضوية في أحوال علماء المذهب الجعفري، ص472.
(5) انظر: اغا بزرك الطهراني، مقدمة التبيان في تفسير القران، ج1، ص...
(6) دروس في علم الأصول، ص67.
(7) انظر: العدة في أصول الفقه، ج1، ص34 35.
(8) موسوعة النجف الأشرف، ج6، ص61.
(9) حسن حكيم، الشيخ الطوسي، ص95.
(10) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القران، ج1، ص10.
(11) حسن حكيم، الشيخ الطوسي، ص312.
(12) رسالة الخوئي للمؤتمر ... للشيخ الطوسي، ج2، ص3.
(13) رجال العلامة الحلي، ص148.
(14) رضوان السيد، دراسة عن عصر الماوردي ضمن كتاب قوانين الوزارة سياسة الملك، ص44.
(15) مجلة النجف، العدد الرابع، ص3.