الشيخ أحمد خشاب
في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
* مقام أهل البيت في القرآن والسنة
أهل البيت عليهم السلام هم الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس والمطهرين تطهيراً كما ورد في آية التطهير. وهم الذين جعل الله مودتهم واجبة على هذه الأمة، وجعلها حقاً للنبي صلى الله عليه وآله كما في آية المودة(1) وأوجب الصلاة عليهم فقرن ذكرهم بذكر الرسول صلى الله عليه وآله كما في الآية 56 من سورة الأحزاب، وحين سئل النبي كيف نصلي عليك قال: "قولوا اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"(2). والقارئ للقرآن والسنة النبوية يجد أن القرآن يسجّل أحداثاً تخصهم وتنزل الآيات لتحدث عن فضلهم ومقامهم فتثني عليهم مجتمعين كما في آية الإطعام في سورة الدهر. وكما في آية المباهلة التي تتضمن بيان بعض فضلهم عليهم السلام يقول تعالى في آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران61).
* قصة الآية
في السنة التاسعة أو العاشرة للهجرة في25 من شهر ذي الحجة وقعت حادثة تاريخية خلَّدها اللَّه في كتابه ورواها المحدثون والمؤرخون والمفسرون والعلماء على مختلف مذاهبهم كشفت عن عظيم مقام وقدر علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. يقول الزمخشري في تفسير الكشَّاف عند تفسيره للسورة "وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء". إذ أن مما لا شك فيه ولا جدال أن هذه الآية نزلت في حق الخمسة الأطهار الميامين أهل الكساء. وقد ذكر ذلك الرازي في تفسيره، وأبو إسحاق الثعلبي في كشف البيان، والسيوطي في الدر المنثور، وابن حجر المكي في الصواعق المحرقة، والقندوزي في ينابيع المودة، والطبري ومسلم في صحيحه، والترمزي في صحيحه، وغيرهم الكثير. وعبَّر الإمام عبد الحسين شرف الدين في الكلمة الغراء ب: "أجمع أهل القبلة حتى الخوارج منهم على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يدْعُ للمباهلة من النساء سوى بضعته الزهراء وعلي والحسن والحسين فقط". هذا الحدث الذي أحتجَّ به علي عليه السلام يوم الشورى حسبما رواه في الصواعق عن الدار قطني يوم الشورى فقال لهم:"أنشدكم الله هل فيكم أحد اقرب إلى رسول الله في الرحم مني ومن جعله نفسه وابناه ابناه ونساءه نساءه غيري". قالوا اللهم لا. وتفصيله هو أن النبي صلى الله عليه وآله دعا نصارى نجران إلى الإسلام فأقبلت شخصياتهم، وكان العدد يربوا على السبعين، ولما وصلوا المدينة المنورة التقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وجالسوه مراراً وسمعوا حديثه ودلائله وما كان عندهم رد وجواب. يقول الرازي في تفسيره لما أورد الدلائل على نصارى نجران: قال صلى الله عليه وآله "إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم" إلى أن قال، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد أحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمِّنوا، فقال أسقف نجران إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، إلى أن قال: ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا... وعقب الرازي على الرواية وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
* بعض دلائل آية المباهلة
هذا النص لا شك أنه يحمل العديد من الدلالات الهامة والعلامات التي تستوقف الإنسان:
1- إن معنى المباهلة كما في الكشَّاف للزمخشري، ثم نبتهل، ثم نتباهل بأن نقول: بَهْلةُ الله على الكاذب منا، ومنكم والبَهْلة بالفتح والضم: اللَّعنه وبَهَلَهُ الله: لَعَنَه وأبعده من رحمته من قولك: "ابهلة" إذا أهملة ... واصل الابتهال هذا ثم أستعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً.
2- إن هذا برهان واضح على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله. لأنه من الواضح فيما ذكره كل من تحدث عن المباهلة أنهم لم يستجيبوا للمباهلة والتقوا بأن يصالحوا النبي صلى الله عليه وآله.
3- إن تعيين شخصيات المباهلة لم تنشأ من حالة عفوية ارتجالية أو تأثيرات عائلية بل بتوجيه إلهي واختيار رباني هادف، فقد تحدى بهم أعداء الإسلام وجعل خصومهم كاذبين معرَّضين للعنة والعذاب... وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله حينما سُئل عن هذا الاختيار قوله: "لو علم الله تعالى أن في الأرض عباداً أكرم من علي وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى.
4- إن اختيارهم لهذه المهمة العظيمة واختصاصهم بهذا الشأن الكبير، وإيثارهم فيه على من سواهم حيث أن النبي صلى الله عليه وآله باهل بهم، فلم يدع من النساء أياً من أمّهات المسلمين، مع أنهنّ كنّ في بيوته وعلى مرأى ومسمع، ولم يدع مع سيدّي شباب أهل الجنة أحداً من أبناء الهاشميين ولا أبناء الصحابة على كثرتهم. ولم يدع من الرجال مع علي أحداً لا عمه العباس ولا أحد من كافة عشيرته الأقربين أو من السابقين الأولين وكانوا بمرأى ومسمع من المباهلة، فهذا فضل لم يسبقهم إليه سابق وذلك لمكان قربهم من الله وكرامتهم عليه وقدسيتهم المتميزة ومقامهم العظيم. هذه الكرامة والعظمة وقرب المنزلة والمهابة والجلالة أدركها الخصم من أول نظرة إلى وجوههم، فغشي بصره وأرتد فارتعدت الفرائص وخفض لها جناح الذل.
5- إن العارفين بكنه البلاغة وأسرار القرآن يعلمون أن الجمع المضاف حقيقة في الاستغراق، وجاز إطلاق تلك العموميات على أهل البيت عليهم السلام بالخصوص تبياناً ولكونهم ممثلي الأمة والإسلام ولكونهم أكمل الأنام فلو كان لهم نظير لما حاباهم النبي لقاعدة الحكمة والعدل والمساواة، فدعوتهم إلى المباهلة بحكم دعوة الجميع وحضورهم بمنزلة حضور الأمة عامة.
6- ما ذكره الزمخشري من أنه قدم ذكر الأبناء والنساء على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مقرونون بها، أي أن نفس الرسول وعلي فداهم، وهذا الأمر يلاحظ حتى بكيفية خروجهم عليهم السلام إذ خرج صلى الله عليه وآله حتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها. فالحسين مني وأنا من حسين. والزهراء عليها السلام السائرة في الوسط تفدى بهم وهي الممثلة لقطب رحى النبوة والإمامة.
7- لقد التمس النبي صلى الله عليه وآله منهم التأمين على دعائه فقال إذا دعوت فأمِّنوا واستعان بهم في المباهلة "ثم نبتهل" بصيغة الجمع لتيقن فضيلتهم ومنزلتهم عند الله، فإن كثرة الأفاضل أدخل في الاستجابة.
8- لقد جعل الرسول صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام نفسه صلى الله عليه وآله، فهو تجسيد لشخصية الرسول صلى الله عليه وآله لما فيه من الفضائل والكمالات التي اجتمعت في النبي صلى الله عليه وآله إلا النبوة.
وهو في آية التباهل نفس المصطفى ليس غيره إياها
وإذا ضممت إلى هذا الأمر قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾. لقد أخرج الله أهل البيت عليهم السلام ليباهل أعداءه لما لهم من حرمة على الله ومكانه وقدسية وضمان استجابة دعاء وليعد الأمة لما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أهل البيت عليهم السلام المحور الذي لا بد للأمة أن تلتف حوله وقد قال الزمخشري وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. نقل العجيلي في صحيفة الآل عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي أبياتاً منها:
مذاهبهم في أبحر الغيِّ والجهل |
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم |
وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل |
ركبت على اسم الله في سفن النجا |
(1) سورة الشورى، الآية: 23.
(2) الدر المنثور للسيوطي.