السيد بلال وهبي
لا يكتفي الإسلام بإبداء موقف إيجابي من الزينة والتجمل، بل يحرّض المسلم على ذلك بشتى أنواع التحريض والترغيب، فمن ذلك قول الإمام أبي عبد اللَّه الصادق د: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يحب الجمال والتجمُّل ويكره البؤس والتباؤس"(1). فاللَّه جميل وجمال اللَّه ظاهر في هذا الكون الفسيح الرحب الذي يضج بالجمال والزينة والإبداع وكل خلق اللَّه تعالى مظهر لجمال اللَّه تبارك وتعالى، فالأرض الخضراء المنبسطة الغنَّاء بأعشابها الزاهية، والجبال المكلّلة بأنواع الأشجار، والورود المختلفة الألوان، كل هذه آيات بالغة على جمال اللَّه تعالى، فهاكم آيات القران الكريم، وهي تشير إلى بعض ما زينت به السموات والأرض حيث يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافات/6). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ (الحجر/16). ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ﴾ (ق/6- 10). والإنسان وهو واحد من بين تلك المخلوقات، ليس خارجاً عن القاعدة التي بني الخلق على أساسها وهي أن كل مخلوق يجب أن يفيض كمالاً وجمالاً وبهاءً وأبهة، ولقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين/4).
* الزينة للإنسان المؤمن:
ينطلق الإسلام في موقفه المحرِّض على التزين والتجمل من مبدأ أن الزينة مخلوقة أساساً للإنسان المؤمن ولئن شاركه الآخرون فيها في دار الدنيا فهي محصورة به في الآخرة قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف/32). فالآية الكريمة تنكر على أولئك الذين حرَّموا على أنفسهم متع الحياة واستنكفوا عن التزين والتجمل ظناً منهم أن الزينة والجمال والأناقة تتناقض مع الإيمان، وأن التعبد الكامل للَّه تعالى يعني التخلي عن المظهر الجميل الأنيق لحساب مظاهر أخرى.
* التجمل في الحياة العائلية
ولئن كان الاجتماع الإنساني محتاجاً إلى مظاهر الزينة والتجمل والأناقة وغير ذلك، فإن اللبنة الأولى والأساسية للمجتمع، أعني الأسرة، تكون هي الأولى برعاية هذا الأمر والحرص عليه، لما في ذلك من تمتين للعلاقة بين الأفراد من خلال إيجاد المرغِّبات والمحسِّنات التي تجعل الفرد يميل إلى صنوه(2) والزوج إلى زوجه والولد إلى والده.
* الزينة عند الزوجين
تأسيساً على ذلك يصبح من الضرورة بمكان أن يهتم الزوج بمظهره وهندامه وأن يحرص على أناقته أمام زوجته كما تُطالَب الزوجة بذلك بنفس القوة والشدة، وما يُؤْسف له أن اهتمام الإنسان وأناقته قبل الزواج يكون قوياً وفاعلاً لدرجة أن يصبح هو الشغل الشاغل للشاب أو الفتاة، لكن هذا الاهتمام يخف تدريجياً بعد الاقتران حتى يصل إلى مرحلة النسيان واللاَّمبالاة مع أن المطلوب من الناحية الشرعية عكس ذلك تماماً، المطلوب حرص شديد على البعد عن كل منفر للطرف الآخر، والاهتمام بما يرغب فيه زيادة للُّحمة بين الزوجين وتأكيداً لرابطة الحب بينهما. يروي الحسن بن جهم فيقول: "دخلت على أبي الحسن الرضا د وقد اختضب بالسواد، فقلت: أراك اختضبت بالسواد؟! فقال: إن في الخضاب أجراً، والخضاب والتهيئة مما يزيد اللَّه عزَّ وجلَّ به عفة النساء، ولقد ترك النساء العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة. ثم قال: أيسرك أن تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة؟ قلت: لا، قال فهو ذلك، ثم قال: من أخلاق الأنبياء التنظيف وحلق الرأس"(3). لقد وضع الإمام المعصوم د إصبع المداواة على جرح بليغ ينزف منه قيح منفِّر في عالم اليوم، حيث عدم العفة صار ظاهرة مدوية، فالرجل ينشدُّ إلى المرأة المتجمِّلة المتزينة هذا هو طبعه، فإن كانت زوجته كذلك صانته عن اللِّحاق المحرم بالأجنبيات، والمرأة كذلك، يهمها أن ترى الزوج أنيقاً جميل المنظر بهي الطلَّة فإن انعكس الأمر فلم تر في بيتها إلا زوجاً تفوح منه رائحة عرقه، وشعره مهمل لا يلامسه المشط إلا نزراً قليلاً، ولحيته كثة تكاد أن تحجب وجنتيه، ووجهه وثيابه بالية أكل الدهر عليها وشرب، ألا يستدعي ذلك أن تفكر فيما لا يحل لا سمح اللَّه. وقد أوصى الرسول الكريم محمد ا رجال أمته فقال: "ليأخذ أحدكم من شاربه، والشعر الذي من أنفه، وليتعاهد نفسه، فإن ذلك يزيد في جماله"(4). وتحدَّث الوصي الأكبر الإمام علي عليه السلام فقال: "نتف الإبط ينفي الرائحة المكروهة، وهو طهور وسنة، مما أمر به الطيب" يعني بالطيب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله(5) . وعن الإمام الرضا د: "لا ينبغي للرجل أن يدع الطيب في كل يوم"(6).
وتحدث الإمام الصادق د عما ينبغي أن يكون عليه الزوجين في حياتهما الزوجية من رعاية الحقوق وأداء الواجبات فقال: "لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته وهي: الموافقة لها ليجتلب بها موافقتها ومحبتها وهواها، وحسن خلقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها، وتوسعته عليها. ولا غنى بالزوجة فيما بينها وبين زوجها الموافق لها عن ثلاث خصال وهن: صيانة نفسها عن كل دنس حتى يطمئن قلبه إلى الثقة بها في حال المحبوب والمكروه، وحياطته ليكون ذلك عاطفاً عليها عند زلة تكون منها، وإظهار العشق له بالخلابة والهيئة الحسنة لها في عينه"(7). وفي رواية أن امرأة جاءت إلى رسول اللَّه تسأله عن حق الزوج على المرأة فكان مما أجابها به: "... وعليها أن تطيب بأطيب طيبها، وتلبس أحسن ثيابها، وتزين بأحسن زينتها..."(8). إذاً، لا ينبغي للزوج المؤمن أن لا يبالي بمشاعر الزوجة وأحاسيسها وحبها للجمال والزينة، بل عليه أن يحرص على زينته ليكبر في عينها وقلبها والمطلوب من المرأة كذلك، والزينة حين تكون من قبل الطرفين تزيد في رسوخ وثبات الحياة الزوجية، وتشد من عروتها، وعدم المبالاة من طرف أو من الطرفين، غالباً ما يؤدي إلى توترات في الحياة الزوجية، قد تتمظهر في أمور عديدة، لكنها غالباً ما تنطلق من منطلقات كهذه، وما أكثر الرجال الذين يشكون من قلة تهيئة الزوجة لهم، كما أن الكثير من النساء يشكين هذا الأمر من أزواجهن.
* الاهتمام بزينة الأبناء:
إن الاهتمام باللباس والتجمل في الحياة العائلية لا ينحصر في الزوجين فقط بل لا بد من الاهتمام بنظافة وأناقة الأبناء أيضاً فإن الأبناء ما هم إلا مظاهر لآبائهم ومظهر الطفل الخارجي بالزينة وعدمها واللباس النظيف الجيد أو الرث البالي الوسخ هو انعكاس لطبيعة الأبوين، إن تدريب الطفل منذ صغره على التزين والأناقة، أمر هام للغاية، لأنه سيمارس في الكبر ما نشأ عليه في الصغر، فلا بد من حثه على النظافة، نظافة بدنه ونظافة لباسه ونظافة كتبه ودفاتره، ولا بد من تعويده على ترتيب أدواته المدرسية، وغرفة نومه وجلوسه، وتوعيته إلى ما للمظهر الجميل من وقع في نفوس الناس، ومن ثواب عند الباري تعالى الخالق المبدع لكل جميل، كما لا بد من الثناء على اهتمامه بمظهره وعنايته بنظافته، فإن هذا الأمر ينمي في الطفل الإحساس الجمالي في نفسه. كذلك فإن النقد للمظاهر القبيحة منه، والنفور من هندامه الوسخ غير المرتب، يعمق في نفسه النفور من القبح والتمسك بالجميل من القول والفعل.
الزينة مطلوبة أولاً للَّه تعالى، ومطلوبة منا لنواجه بها الآخرين خصوصاً عند المتدين الذي ترصده أنظار الناس، يرصدون حركته وأفعاله وكلماته ومواقفه، يرصدونه في جمال مظهره وأناقة بيته وعذوبة كلماته وحنانه في منزله فينبغي أن يكون النموذج الذي يقتدي به الناس.
(1) وسائل الشيعة، الجزء الخامس، أبواب أحكام اللباس.
(2) الصنو: الأخ الشقيق أو ابن العم، وقوله تعالى "صنوان" أي نخلتان متجاورتان.
(3) فروع الكافي: ج5 567.
(4) قرب الإسناد: 32.
(5) من لا يحضره الفقيه: ج1 35.
(6) فروع الكافي: ج2 222.
(7) بحار الأنوار: ج78 237.
(8) فروع الكافي: ج5 508.