تحقيق: نبيلة حمزي
مبارك لكم عيد المقاومة والتحرير 25 أيّار عام 2000م ويوم الأسرى والمحرّرين اللبنانيّين 23 أيّار
أثناء انشغاله في ريّ الخضار والفاكهة، لفت انتباهه انتشار كثيف لعناصر من جيش العملاء حول المنزل، وكأنّه اقتحام لموقع عسكريّ، فعرف أنّ الوضع خطير جدّاً، وخصوصاً أنّ معاون المسؤول الأمنيّ في المنطقة كان برفقة العناصر المنتشرين، وناداه قائلاً: "طالبينك جيش الدفاع بالثكنة". وأثناء مرافقته لهم، وقع نظره على أخته الصغيرة التي لم تتجاوز السنوات الخمس، فحملها وضمّها إلى صدره، وأحسّ أنّه لن يراها مجدّداً، ثمّ نظر إلى أمّه، ولم يستطع عناقها، فقال لها: "أمّي سامحيني وضلّك ترضّي عليّي".
تبدأ الحكاية من منطقة جزين (جبل الريحان)، في بلدة طوّعت وديانها لنضال المقاومين، وهبّت قممها لتوثّق عذابات الأسرى، وتضحيات الشهداء، وتخلّد انتصاراً كانت بوّابته عام 2000م.
من بلدة عرمتى، يروي لمجلة بقية الله الأسير المحرَّر غالب الحاج حسين، قصّة إرادةٍ كسرت القيد، وإيمانٍ مكنونٍ أرّخ لعمر المقاومة حتى التحرير.
•نحو معتقل الخيام
كان صيف العام 1988م. كانت القوّة مؤلَّفة من ثلاث سيّارات عسكريّة وسيارتي مخابرات. طلبوا من غالب الصعود فوراً إلى إحدى السيّارات، وتوجّهوا إلى ثكنة عرمتى، حيث كان بانتظاره المسؤول الأمنيّ، الذي رمقه قائلاً: "أهلاً أهلاً بالإعلامي والمصوّر الشاطر"! بعدها قيّدوا يديه وقدميه بشريط بلاستيكيّ، وأدخلوه بعنفٍ داخل آليّةٍ عسكريّة، وغطّوا رأسه بكيس، ثمّ وضعوا أقدامهم عليه. كانت الطريق طويلة، فعرف أنّ الوجهة نحو معتقل الخيام.
وصل غالب إلى المعتقل؛ وبدأت رحلة التحقيق والتعذيب. تمَّ تسليمه إلى آمر السجن الذي وضعه في زنزانةٍ كبيرة ثلاثة أيّام دون أن يكلّمه أحد. كان يفكّر في مصيره، ووضع أهله المعيشيّ إنّ طالت مدّة اعتقاله، ثمّ تذكّر كلام المسؤول الأمنيّ عندما قال له: "أهلاً بالإعلامي والمصوّر الشاطر"، وراح يحدّث نفسه قائلاً: "هل انكشف أمري؟".
•فنون التعذيب
في اليوم الثالث، قدّموا له القليل من الطعام والماء. وكان تقديم الطعام مصحوباً دائماً بالسّباب والشتائم، ليُساق إلى التحقيق بطريقةٍ عنيفة، حيث تمَّ استجوابه بشكل مفصّل حول ضيعته وأهلها، مع التشديد في الأسئلة على كلّ مَن له صلة بالمقاومين. استمرّ التحقيق نحو ستّة أشهر. هذا وخُصّصت أسابيع طويلة لإجراء تحقيق حول مهمّته في تصوير مواقع حسّاسة للعدوّ الإسرائيليّ، وتقديم تقارير مفصّلة عنها، نظراً إلى دقّة هذا العمل وأهمّيّته. وكان التحقيق مترافقاً مع كلّ أنواع التعذيب التي لا يمكن أن يتخيلها إنسان؛ فمن التعليق على العمود في باحة المعتقل، مع رشّ المياه الباردة، والضرب المبرّح بالأقدام، إلى الجَلْد بالسّوط (الكرباج)، وتعريضه إلى شحنات الكهرباء المتتالية، والحجز داخل القنّ، وهو من أقسى أنواع التعذيب وأشدّها، وهو عبارة عن صندوق صغير من الباطون مساحته 80×80 سم، له باب صغيرٌ، يدخل إليه الهواء من فتحة صغيرةٍ في الباب بقياس العملة المعدنيّة، تغلق وتفتح بحسب مزاج الحارس. يصف الأسير المحرّر غالب شعوره بعد دقائق عدّة من الحجز داخل القنّ: "وكأنّ روحي سوف تنزع من جسدي".
•لدغة العقرب
يروي الأسير المحرّر غالب: "أصبت بلدغة عقرب ليلاً، فطلبت المسعف، الذي قال مستهتراً: اربط إصبعك بقطعة ثياب قصيرة، وإذا استيقظت صباحاً نحلّها، وإن لم تستيقظ، يعني أنّك تسمّمت ومُتّ. وهو ما أتمنّى أن يحدث".
•نضال لتحقيق المطالب
بعد الانتهاء من مرحلة التحقيق الغني بأنواع التعذيب، وبوتيرة تصاعديّة، تمّ نقله إلى السجن رقم (2) مع عملاء الزنزانة، الذين كانت مهمّتهم تحطيم معنويّاته، ودفعه إلى الاعتراف بكلّ ما اتُّهم به. لكن محاولاتهم كلّها باءت بالفشل. انتقل بعدها إلى غرف الأسرى: "بدأنا هناك مرحلة النضال، فقد كان الأسرى يقاسون معاناة يوميّة كتقديم طعامٍ فاسد وبكميّةٍ قليلةٍ جدّاً، ومياه شرب داخل أكياس متّسخة، وقطع المياه أثناء الاستحمام، فضلاً عن وضع دلو قذر لقضاء الحاجة داخل غرفة الاعتقال وتأخير تغييره، وغيرها الكثير. أمام هذا الواقع المزري، بدأنا بتنفيذ سلسلة إضرابات للمطالبة بظروف لائقة في المأكل والمشرب، والمبيت داخل الزنزانة.
بعد الإضراب والطرق القوي على الأبواب، كان اللحديون يخافون من الدخول إلى الزنازين، فكانوا يلقون علينا قنابل غازية خانقة، وكنّا أثناءها نقسّم أنفسنا إلى فرقتين، فرقة تتابع الضرب على الأبواب، وفرقة تستلقي على الأرض حيث لا يصلها الدخان. عندما يغيب معظم المعتقلين عن الوعي، يجرؤون على الدخول لسحبنا إلى الخارج إلى فسحة السجن. وقد تحقق بعض من مطالبنا كتقديم طعام نظيف، حيث كانوا يقدمون لنا طعاماً فيه حشرة السوس وحشرات صغيرة أخرى، وقطعاً صغيرة من الخبز. وبعد كل إضراب، كان يأمر مسؤول السجن بسجني في الإفرادي".
•"لم أخن بلدي"
علم مسؤول الأمن لجيش العملاء في منطقة جبل الريحان بنشاطات غالب، فزار المعتقل بعد فترةٍ قصيرة؛ ليعرض عليه الإفراج الفوريّ مقابل تعاونه معه في نقل أخبار أبناء بلدته، لأنّه كان شخصيّة شابّة ومحبّبة إليهم. وراح يستثير عواطفه قائلاً إنّ أمّه متأثّرة جدّاً بفراقه، وإنّه يراها باكيةً كلّما مرّ من أمام منزلهم. كان ردّه: "أنا ابن هذا البلد، وابن البلد الأصيل لا يخون، ومن المستحيل أن أعمل ضدّ بلدي وأهلي.. ويجب أن تعلم جيّداً أنّ الاحتلال لن يدوم، وسوف يأتي يوم وتخرجون فيه معهم من أرضنا. ها قد أسرتموني، فماذا بمقدوركم أن تفعلوا أكثر من ذلك؟!". استشاط المسؤول اللّحدي غضباً، وأمر الشرطيّ بتعليقه على العمود لثماني ساعات متتالية، ثمّ أعادوه إلى الزنزانة مع قرار بمنع الزيارات ومنع تسلُّم أيّ أغراض من أهله، فكان رفاقه في الأسر يقدّمون له ما يحتاج من ثياب.
أكثر ما كان يعزّيه داخل المعتقل هي الأخبار المفرحة التي تصله عن عمليّات أبطال المقاومة، والتي غالباً ما كان العدو العاجز يُنفّس عن غضبه منها بالتنكيل بالأسرى.
•في المعتقل: شبكة اتصالات!
"تنقلتُ بين أكثر من سجن، وكان بعض السجون مسقوفاً بالحديد، ما سهّل علينا عملية التواصل مع الغرف الأخرى عن طريق (التونيش) (1)، لكن المشكلة كانت في السجون المسقوفة بالباطون؛ لأننا إذا حاولنا التواصل عن طريق الأبواب التي توصل صوت الطرق بسهولة، سيسمع العملاء في الممرّات، ففكرت في إنشاء شبكة اتصالات تمتد بين الغرف لتسهيل التواصل، الذي بدا شبه مستحيل.
لاحظنا أنّ ثمّة أسلاك حديدية رفيعة تمتد في (منور) تحت الأسقف على شكل أشرطة وشبك، حيث من الممكن أن ننزع بعضها ونقوم بحفر الجدران بها، لكنّ الإخوة الأسرى قالوا إنّ الجدران سميكة جداً، ومن المستحيل أن نقوم بخرقها، لكنّهم استدركوا أن زنزانتنا بناؤها جديد، فالفكرة ممكنة. فككنا الأشرطة، (كل شريط كانت يستغرق فكّه نحو 15 يوماً) وبعد فكّ ثلاثة أشرطة، قمنا بربطها وشحذ رؤوسها لتصبح حادّة، وبدأنا بالحفر في الحيطان. كان بعض الإخوة يعملون، والآخرون يصدورن ضحكات وأصوات عالية؛ كي لا يُسمع صوت الحفر، وفي كل مرحلة كنا نقوم بستر الثغور بصابون؛ كي لا يلاحظ العملاء ما نقوم به، وعندما يقومون بمداهمة مفاجئة، كنّا نخبئ شريط الحفر في دلو الحمّام.
استغرقت العملية أشهراً عدّة، لكنّنا تمكنّا من التواصل. لم تكن في البداية الأصوات واضحة، فقررنا حصر الصوت. لاحظنا في الفرش القديمة قطع نايلون، فقمنا بلفّها كأنابيب رفيعة، ووضعناها في الحُفر ليمر الصوت عبرها، فأصبح واضحاً. كنا نستفيد من هذه الاتصالات في إعلان الإضرابات وغيرها من المطالب، كما تعرضنا لاختناق أثناء الإضراب الذي ارتفع فيه شهيدان من المعتقلين. وبقيت الشبكة حتّى حدث أن نسي أحد الإخوة سدّ الثقب، فاكتشفوا أمرنا، وكنّا مادة دسمة لهمجيتهم.
استمرت أيّام المعتقل ولياليه ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وفي كلّ ليلة قصّة وحكاية وعبرة وموعظة وحكمة.
•إلى الحرية
يومها، ذُكر رقمي الذي كان 2155، ولم أسمعه؛ لأن أصدقائي الأسرى رموا بأنفسهم عليّ من شدّة فرحهم. لكنّك أنت عندما تعلم بالإفراج عنك، ينتابك الإحباط، فكيف يُفرج عنك وفي المعتقل إخوان مقاومون؟! بالطبع كانت إجراءات الإفراج طويلة مع الصليب الأحمر، وكان الإفراج مقابل تبادل جثث لجنود العدوّ الصهيونيّ، نتيجة سواعد أبطال المقاومة عام 1990م. علم أهل الضيعة بالخبر وأقاموا لي عرساً بكل معنى الكلمة، كانت والدتي بانتظاري أمام مدخل القرية، كانت المرة الأولى التي تنهمر فيها دموعي، تعانقنا، ونظرت أمي إلى السماء وقالت: "يا الله، أنا سلّمته لك، ودعوتك أن تعيده لي سالماً، شكراً لك يا ربّي".
•عام التحرير: إلى الخيام مجدداً
بعد التحرير، ذهبت إلى معتقل الخيام مجدداً، لكن برفقة والدي هذه المرّة. وبدأت أتذكّر المرحلة التي أمضيتها في المعتقل، وكلّ شهيد ومقاوم، وها أنا بفضل الله وبفضلهم أجول في المعتقل بكلّ عزّة. قرأت الفاتحة لأرواح الشهداء، فألف تحيّة إكبار لكلّ الشهداء والجرحى والأسرى، وأقول لهم: نعم، حرّرتم لبنان الحبيب.
1.التونيش بمعنى أن يقف أحد المعتقلين على ظهر آخر؛ ليصبح كاشفاً للزنانزين من فوق، وكذلك الزنزانة المجاورة، فيكون (ونشاً) له.