الشيخ نعيم قاسم
حفظ أئمة الهدى المعصومون الرسالة الإسلامية التي أتى بها خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله، فنقلوها إلينا صافية نقية. وفسَّروا الغامض منها والملتبس، ووضَّحوا لنا ما نحتاجه مع تغيُّر الزمان. فكانوا الاستمرارية لنهج النبوة، يتكاملون معه، ولا ينفكَّون عنه. وهذه نعمة إلهية كبرى منَّها الله تعالى علينا، بأن أبقى حماة الرسالة وحملتها الحقيقيين حاضرين في حياة المؤمنين، حيث كانوا يباشرون شؤون الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى زمن الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله فرجه التي انتهت عام 329هـ، فتحولت المتابعة مع صاحب العصر والزمان في زمن الغيبة الكبرى إلى نمط الرعاية والحضور الخافي عن الأنظار، بانتظار الظهور المباشر وإقامة دولة العدل الإلهية العالمية على الأرض.
* الكلمة الحق
فإذا ما أردنا أن نفهم جيداً ما أراده الله تعالى منَّا، وما كلَّفنا به، وما يريدنا أن نؤمن به ونعتقد به، عدنا إلى روايات أئمتنا عليهم السلام لنفهم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة فنتعرَّف إلى الكلمة الحق والموقف الصواب. وقد شارك إمامنا المهدي عجل الله فرجه في هذا الدور، فكان يتواصل مع الناس في غيبته الصغرى من خلال سفرائه الأربعة، ويرسل معهم إجاباته عبر كتبٍ يوقعها. وهذا ما اشتهر في الروايات عن الإمام المهدي عجل الله فرجه عندما يُذكر "التوقيع"، ومقصوده إجابات الإمام المهدي عجل الله فرجه عن أسئلة الناس. وضَّح إمامنا المهدي عجل الله فرجه صفات الأئمة عليهم السلام، وعلاقتهم بالله تعالى، ودورهم على هذه الأرض، مبيِّناً أثر هذه الصفات في إرشاد الناس إلى طريق الحق. فلولا الأئمة عليهم السلام المعصومون من الأخطاء والذنوب، لما تحدَّدت القدوة، ولادَّعى كل واحد من الناس صحة موقفه وتفسيره، وعندها يلتبس على الناس الحق فلا يميزونه عن الباطل. فالعصمة ضرورية لحفظ الشريعة وإيصالها نقية إلى الناس. وهي المفتاح للمحافظة على نهج الاستقامة على المستوى العملي عندما يدبُّ الخلاف في الأمة. فإذا اعترض المنحرفون مدَّعين العمل للإسلام، فضحهم وقوفهم ضد الأئمة المعصومين عليهم السلام الذين أرادهم الله تعالى هداة وقادة. أرسل أحد أصحاب الإمام المهدي عجل الله فرجه يستوضح ما قرأه في كتاب للإمام جعفر الصادق عليه السلام، فخرج الجواب من صاحب الزمان عجل الله فرجه عن صفات الأئمة ودورهم، ومما قال فيه: "بأنْ عصمَهُم (الله) من الذنوب، وبرَّأهم من العيوب، وطهَّرهم من الدنس، ونزَّههم من اللبس، وجعلهم خزان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سره، وأيَّدهم بالدلائل. ولولا ذلك، لكان الناس على سواء، ولادَّعى أمرَ الله عزَّ وجل كلُّ أحد، ولما عُرف الحقُّ من الباطل، ولا العالمُ من الجاهل"(1).
هذه العصمة للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، والتي صرَّح بها القرآن الكريم في حديثه عن أهل الكساء الخمسة بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33)، والتي تبرز أهميتها في تبليغ النبي للرسالة في أنَّها عن الله تعالى بتمامها وكمالها حيث يجب التسليم بها، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 – 4)، إنما ترفع من مقام النبي والأئمة إلى مصاف التفوق البشري في القيادة والقدوة. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله سيد البشرية من الأولين والآخرين، وأولهم وأعظمهم بلا منازع، والأئمة عليهم السلام من بعده سادة البشرية وأشرف نماذجهما، وقد حصلوا على أعلى المراتب البشرية التي يمنحها الله تعالى للأنبياء والأئمة.
*إشكالات في غنى عنها
يحاول البعض تجاوز حدود صفات الأئمة عليهم السلام التي منحها الله تعالى لهم بالمغالاة، والاقتراب من موقع الربوبية، مخالفاً في ذلك ما ورد في الصحيح من الروايات عن النبي والأئمة، علماً بأنَّ ما يرتبط بالعصمة هو الأعلى، وهو الاقتراب من محضر قدس الرحمن من دون الوقوع في الشرك. نذكر حادثة جرت مع جماعة من المسلمين أجاب عنها الإمام المهدي عجل الله فرجه. فقد اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عزَّ وجل فوَّض إلى الأئمة عليهم السلام أن يخلقوا أو يرزقوا، فقال قوم: هذا محال، لا يجوز على الله تعالى، لأنَّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عزَّ وجل. وقال آخرون: بل الله تعالى أقدَرَ الأئمة على ذلك، وفوَّضه إليهم، فخَلَقوا ورَزَقوا. فتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، فتسألونه عن ذلك، فيوضِّح لكم الحق فيه، فإنَّه الطريقُ إلى صاحب الأمر عجل الله فرجه؟ فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلَّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته (جهة الإمام المهدي عجل الله فرجه) توقيعٌ، نسخته: "إنَّ الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسَّم الأرزاق، لأنَّه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وأمَّا الأئمة عليهم السلام فإنَّهم يسألون الله تعالى فيخلُق ويسألونه فيرزُق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقهم"(2). فلننصرف إلى ما يرفع عنَّا التكليف بدل الغرق في الصفات التي تُوقعنا في الإشكالات التي نحن في غنىً عنها، خاصة وأنَّ الروايات واضحة في هذا الشأن، ولنبحث عما يُسجَّل في صحيفة أعمالنا من الإيمان والعمل الصالح، ويمهِّد الأرضية المناسبة لتعجيل فرج إمام زمننا عجل الله فرجه، وليكن همنا فيما ننجزه في حياتنا اليومية بدل الجدل الذي لا ينفعنا ولا يوصلنا إلى نتيجة. خط الاستقامة ميسَّر وواضح. إنَّه طريق الله الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا يشبهه شيء ولا يعادله شيء.
أرسل أنبياءه المعصومين ليبلغوا رسالة السماء إلى البشرية من أجل صلاحها، وأتبعهم بالأئمة المعصومين عليهم السلام لاستكمال هذا الهدف. فالله ربٌّ لا يُنازع في الربوبية. والأنبياء والأئمة عليهم السلام بشرٌ لا ينافسهم البشر في قدوتهم وصلاحهم. عن يوسف بن السخت البصري قال: رأيت التوقيع بخط محمد بن علي، فكان فيه: "الذي يجب عليكم ولكم أن تقولوا: إنَّا قدوةُ الله وأئمة، وخلفاء الله في أرضه وأمناؤه على خلقه، وحججه في بلاده، نعرف الحلال والحرام، ونعرف تأويل الكتاب، وفصل الخطاب"(3). ونحن نعبد ربنا ونقتدي بنبينا وأئمتنا ليهدونا إلى طريق الفلاح والاستقامة، وهو الطريق الذي يجعلنا من جند الإمام المهدي عجل الله فرجه إذا ما أحسنّا الفهم والأداء. جعلنا الله وإياكم من جند الإمام المهدي عجل الله فرجه.
(1) الشيخ الطوسي، الغيبة، ص: 288.
(2) الشيخ الطوسي، الغيبة، ص: 293 و 294.
(3) تفسير العياشي، ج1، ص: 16.