نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أنا ابن هذا الشعب أقدم له روحي بإخلاص

الشيخ إسماعيل حريري

 



ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في كلام له مخاطباً عاصم بن زياد، الذي شكاه أخوه أنَّه لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا: "إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس كي لا يتبيّغ(1) بالفقير فقره"(2). ومن كتاب له عليه السلام لعامله على البصرة عثمان بن حنيف وقد بلغه أنّه دُعِيَ إلى وليمة قوم وأجاب الدعوة ـ: "ألا وإنّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(3)، ومن طعمه بقرصيه... فوالله، ما كنزت من دنياكم تبراً(4)، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(5)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً..."(6). 

من هذين الحديثين عن أمير المؤمنين عليه السلام، ترتسم أمامنا صورة الحاكم العادل الذي ينظر إلى قومه وناسه فيواسيهم ويعيش مثلهم، يتألم لآلامهم ويحزن لأحزانهم ويرثي لحالهم ويعمل على تحسين أوضاعهم خصوصاً الاجتماعية بكل ما أُوتي من قوة، لأنه مسؤول عنهم، وقد نصّب نفسه إماماً عليهم. وقد ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً"(7)، فكيف إذا كان الإنسان في موقع الحاكمية والقيادة والإمامة؟ وقد بيَّن أمير المؤمنين عليه السلام مواساته كإمام للناس بقوله في الكتاب المذكور لعثمان بن حنيف: ".... هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع... إلى أن يقول: أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش!؟"(8).

ومن هذا الباب، ندخل على جانب من جوانب شخصية الإمام روح الله الموسوي الخميني قدس سره، وهو جانب اهتمامه بأمور الناس والعيش معهم والتأثر بأحوالهم، والسعي إلى التخفيف عنهم بكل ما يقدر عليه، واحترامه وتقديره لشعبه وأمّته، التي وقفت إلى جانبه في كل المحطات التي رافقته قبل الثورة ومعها وبعدها، فكان رضوان الله عليه محتذياً بجده أمير المؤمنين، ومقتبساً من نوره نوراً ومن فيوضاته فيضاً، كيف لا وهو الذي ما تحرّك وما سكن إلاّ باقتداء به وبأهل بيته الأطهار عليهم السلام؟!

* قبسات من تلك الحياة المباركة الزاخرة.
نذكر منها:
1- تأثره بأوضاع الفقراء والمستضعفين: نقل بعض الأفاضل ممّن عايش الإمام قدس سره بعضاً من ذلك. فقد حكى آية الله الشهيد المحلاّتي أنّه قبل انتقال الإمام من طهران إلى قمّ بُعيد انتصار الثورة، عرضوا في محل إقامته فيلم (القصر والكوخ) الذي يصوّر الأوضاع السيئة التي يعيشها أصحاب بيوت الصفائح في جنوب طهران، وقد ظهر الأذى الشديد على وجه الإمام وتغيّر حاله إثر رؤية هذه المشاهد"(9).

2- شدّة حبّه لهم: فقد حكى حجة الإسلام والمسلمين توسّلي أنه سمع مراراً الإمام قدس سره يقول: "إنني أشعر بالخجل من هذه الجماهير المستضعفة... لقد حال الاستكبار دون أن أنفّذ الوعود التي أعلنتها، وأن أقدّم منجزات للفقراء والمحرومين والمستضعفين"(10).

3- سعيه الدائم للتخفيف عنهم بما يقدر عليه: فقد حكى السيد حميد الروحاني أنّ الإمام قدس سره وهو في تركيا بعد نفيه إليها لم يغفل عن إعانة الفقراء والمستضعفين. ففي رسالة كتبها إلى إيران أكّد فيها ضرورة توزيع الفحم على المحرومين لمواجهة شدّة البرد في شتاء ذلك العام الذي أدّى بردُهُ القارس إلى وفاة بعض الناس كما نُقل(11). بل ما كان يُهدى إليه من متاع كالقماش والعمامة والجبّة والقميص والسجّاد ونحو ذلك، كان يأخذ منه ما يحتاجه ويأمر بإعطاء الباقي لمن يحتاجه، كما نقل ذلك حجة الإسلام والمسلمين رحيميان(12).

4- تأثره بالعاطفة الجيّاشة التي كان يكنّها له شعبه وأمّته: وكان يعبّر عن ذلك لبعض جلسائه ومقرّبيه. فقد حكى السيد حميد الروحاني أنّ الإمام قدس سره بعد استقباله لحشود جماهيرية جاءته مسلّمة وعبّرت عن عاطفتها اتجاهه برفع أصواتها بالصلوات على محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا أدري ما الذي أفعله في مقابل كل تلك المشاعر الجيّاشة؟ ثم ستر وجهه بمنديل وغرق في البكاء"(13). وينقل حجة الإسلام والمسلمين فردوسي بور أنّه سمع الإمام قدس سره مرّة يعبّر بشأن تلك العواطف الجيّاشة للشعب وتضحياته في ميادين الجهاد: "إنها تلقي على عاتقي مسؤولية جسيمة، وإنني عاجزٌ عن شكر الشعب ومجازاته عليها"(14).

5- مصلحة الشعب أمام ناظريه: من المعلوم لكلّ من تابع تحركات الإمام قدس سره قبل انتصار الثورة وبعدها أو اطّلع على تلك التحركات، أنّ الإمام كان دائماً يضع مصلحة الإسلام ومصلحة الشعب أمام ناظريه، وكان يعبّر دائماً عن ذلك في مجالسه وحواراته وخطبه، وكان يدعو الآخرين إلى خدمة هذا الشعب والتضحية في سبيله، لأنه أهلٌ لذلك بعد أن ابتلاه فوجد منه الوفاء والإخلاص والتضحية في سبيل القيم الإلهية العليا وفي طريق الحرية والاستقلال ورفض التبعية للاستكبار العالمي. وكان في كثير من الأحيان، يعبِّر عن تقديره لعطاءات هذا الشعب ولحضوره الدائم والفعَّال والمؤثر في الساحات وفي جميع المحطّات قبل الثورة وبعدها وفي أثنائها أيضاً. وهذا بعضٌ من كلماته في ذلك:

أ- مما قاله في خدمة الشعب: نقل السيد محمد جواد المهري أنّ الإمام قدس سره قال مرّة في باريس: "إنّ خدمتكم هي التي تهوّن عليَّ آلام وأذى الإقامة هنا" وقال بعد انتصار الثورة في إحدى خطبه: "إنني أقدّم بإخلاص روحي التي لا قيمة لها، من أجل خدمة الإسلام وهذا الشعب النبيل"(15).

ب- في دعوته إلى خدمة هذا الشعب، فقد نقل السيد محسن رضائي أنّ الإمام قدس سره في بعض لقاءاته بقيادة حرس الثورة توجه إليهم قائلاً: "لقد اكتسب الحرس حبَّ الشعب، ينبغي أن يزداد هذا الحبّ كل يوم، كونوا دائماً خدماً للشعب، واجتهدوا في كسب موقفه إلى جانبكم"(16).

ج- تقديره لعطاءات الشعب من خلال نسبة الإنجازات المهمة التي قامت نتيجة الثورة، وتواضعه في ذلك، حيث ينقل حجة الإسلام والمسلمين الآشتياني أنّه في إحدى المرّات خاطبه أحد أعضاء الوفود التي زارته بأنَّ الإسلام بدأ يُعرض في أكبر المحافل الدولية ببركة وجود القائد المعظم للجمهورية الإسلامية وكان يقصده فأجابه الإمام قدس سره: "إنّ الذي أعزّنا هو حضور الشعب في ميادين الجهاد والعمل. لقد وجد الشعب صراطه وعرفه. كما أنّ المسؤولين يعرفون ما يجب عليهم القيام به. فالمسيرة مستمرّة سواءٌ كنتُ موجوداً أو غير موجود فيها. أنا أثق أنّ الشعب الإيراني سيواصل حضوره في الميادين، بل وسيزداد حضوره قوّة"(17). وكان يعرف قيمة شعبه واستعداده للتضحية إذا طُلب منه ذلك، ولذلك كان يقول: "إعلموا أنَّ شعبنا أفضل شعب"(18). وفي إحدى كلماته إثر استجابة الشعب لكلمات الإمام حول اجتناب شراء البضائع الأمريكيّة في موسم الحج، قال: "لدينا شعب نبيل، حفظ الله هذا الشعب"(19).

د- مواساته للشعب حتى في الحرّ والهواء، فقد حكى آية الله السيد عباس خاتم اليزدي (من أعضاء مكتب الإمام) أنّه في فترة وجود الإمام قدس سره في النجف الأشرف وبسبب شدّة الحرّ التي كانت تتجاوز أحياناً خمسين درجة، بحيث يصعب على الإنسان تحمّلها اقترحوا على الإمام الانتقال إلى الكوفة، لأنّ الجوّ فيها أفضل وهو شيخ كبير لا تناسبه شدّة الحر، فأجابهم: "وكيف أذهب إليها سعياً للتمتّع بهوائها الطيّب وإخوتي في إيران يعيشون في السجون؟!"(20). هكذا كان الإمام الخميني قدس سره يتعامل مع شعبه، بصدق وإخلاص، ومحبّة، ومن الطبيعي أن يبادله الشعب هذه المشاعر النبيلة، لأنّه وجد فيه الأبّ والقائد والمسؤول الذي لا يتوانى عن أن يقدّم نفسه فداءً لشعبه حبّاً به وخدمةً له.

ولهذا، كان قدس سره مثالاً واضحاً ومصداقاً بارزاً لكلام أمير المؤمنين عليه السلام في صفات الإمام العادل، إن من جهة مواساته لفقراء شعبه ومستضعفيه، أو من جهة السعي الحثيث لرفع ذلك عنهم بكلّ ما يقدر عليه. وهكذا هي صفات علمائنا الأبرار الذين وصفوا في الأخبار أنهم ورثة الأنبياء(21)، وأمناء الرسل(22)، والأمناء على الحلال والحرام(23). وقد كان الإمام الخميني قدس سره في صدارة هؤلاء العلماء في زمانه، فحاز قصب السبق في كل ذلك، حيث جمع بين الفقاهة العليا والقيادة المثلى، فكان نعم الفقيه ونعم القائد.


(1) أي يهيج به فقره.
(2) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده،ج2، ص188.
(3) أي ثوبيه الباليين، والطمر بالكسر هو الثوب الخلِق.
(4) التبر: ما كان من الذهب غير مضروب، أي الذهب الخام، أو فتات الذهب قبل أن يُصاغ.
(5) وفراً: أي المال.
(6) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ج3، ص70.
(7) الكافي، ج2، ص164، ح6.
(8) شرح النهج، ج3، ص70 وما بعدها.
(9) حوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج4.
(10) قبسات من سيرة الإمام الخميني، الحياة الاجتماعية، ص240.
(11) المصدر السابق، ص 227.
(12) المصدر السابق، ص239.
(13) من كتاب أزهار من بساتين الذكريات.
(14) من كتاب حوادث خاصة في حياة الإمام الخميني، ج4.
(15) من مجلّة باسدار إسلام، العدد33.
(16) صحيفة جمهوري إسلامي 14 7 1360هـ.ش.
(17) من مجلة مرزداران، العدد 85.
(18) صحيفة جمهوري إسلامي 24 9 1359هـ.ش.
(19) كتاب خطوات في أثر الشمس، ج1، ص263.
(20) قبسات من سيرة الإمام الخميني، الحياة الاجتماعية، ص109.
(21) الكافي، ج1، ص32، ح2، عن الإمام الصادق عليه السلام.
(22) المصدر السابق، ص46، ح5، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(23) تحف العقول، ص238 عن الإمام الحسين عليه السلام.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع