الشيخ تامر محمد حمزة
لقد قضت المشيئة الإلهية بأن تكون رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله هي خاتمة الرسالات، ونبوته هي آخر حلقة في الوحي للتواصل بين الأرض والسماء. من البديهي عندنا، أنه لا اضمحلال لهذه الرسالة ولا زوال لها، وهي باقية ما دام الليل والنهار إلى يوم القيامة. نعم، الخشية والخوف من الانحراف الذي قد يصيب بعض الأفراد أو الشعوب ومن التيه والضياع، اللذين قد يقعان نتيجة الجهل والالتباس، هذا كله فضلاً عن الأيادي الخبيثة العاملة على تزوير الحقائق وتشويه التاريخ. وأما نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله، فهو على دراية تامة بما يحدث في المستقبل، بل قد علم بإذن الله ما هو واقع بالفعل، وقد أخبر عن الكثير من المغيبات، كقضية كربلاء وما يجري على ولده الإمام الحسين عليه السلام. لذا، قام بكل الإجراءات فعلاً وقولاً لصون الرسالة وحفظ الأمة من المخاطر المستقبلية المحدقة بها، ونحن نشهد لله سبحانه وتعالى أنه قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة. وللإضاءة على هذا الموضوع وتمامية البحث فيه نتعرض للمحاور التالية:
الأول تتميز الرسالة الخاتمة بعدة أمور:
أ - هي رسالة جامعة دون تمييز بين فرد وآخر، أو بين طبقة وأخرى، وكذلك ألغت الفوارق على مستوى اللغة واللون والعرق وغير ذلك ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: 158).
ب - هي رسالة كاملة، بمعنى أنها تعالج جميع النواحي الحياتية المتعلقة بالفرد والمجتمع ﴿... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89).
ج - هي رسالة شاملة للظرفين المكاني والزماني، بمعنى أنها تستهدف كل إنسان أينما حل وحيثما وُجد وفي أي بقعة من الأرض وذلك في عصر النزول، وكذلك موجهة لكل فرد في أي زمن وجد وإلى يوم القيامة. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28). ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام: 19).
د - هي رسالة إنسانية تعنى بالأبعاد الثلاثية للإنسان (العقل، الروح، المادة)، عنه صلى الله عليه وآله: "جئتكم بخير الدنيا والآخرة". وبعبارة مختصرة: رسالة خاتم الأنبياء هي رسالة أممية، وليست محدودة جغرافياً أو تاريخياً، ولا يقتصر فيها على صفات بشرية خاصة كاللغة أو اللون أو العرق. ولذا أطلق على المتمسكين بهذه الرسالة عنوان الأمة، والتي ينضوي تحتها الناس على اختلافهم وتنوعهم، ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
الثاني الإجراءات العملية للحفظ:
أ- ليس الخوف على زوال الرسالة، وإنما الخشية في مقام تطبيق تعاليم الرسالة.
وبعبارة أخرى، المشكلة في المستقبل ليس في التنزيل وإنما في التأويل. من هنا، بذل صلى الله عليه وآله أقصى درجات الجهد للتوضيح والتفسير، لكشف القناع عن المستور وما هو مورد شبهة لدى الناس، وعمد إلى إجراء مهم جداً لحفظ الأمة ولتوحيد كلمتها وصَفّها، وهو ما جاء في وصيته المباركة، إذ هي الضمانة الأساسية من خلال التمسك بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة. "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل البيت، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(1). يعتبر هذا الحديث من الأخبار المتواترة معنى، وهي مفيدة للقطع واليقين بصدوره، هذا على مستوى السند. وأما على مستوى المصادر، فأدرج في أكثر من ثمانين مصدراً من أمهات المصادر الحديثية عند الفريقين، ولا يناقش في سنده أحد على الإطلاق. وأما متناً ودلالة، فإن لم ندع كونه نصاً، فعلى الأقل هو ظاهر، والظهور حجة عند المسلمين، وهل يناقش أحد في القرآن أنه هو غير الكتاب الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وآله، أو يناقش في العترة الطاهرة أنها غير أهل العصمة والطهارة؟ وهل يناقش ما معنى التمسك بهما؟ وأن المتمسك بهما لا بأحدهما لن يضل ولن ينحرف ولن يسقط؟ وهل يناقش في عدم افتراقهما حتى إلى يوم القيامة؟
ب- إجراءات معنوية:
منها: إطلاق عنوان الأخوة على العلاقة الإيمانية بين أفراد الشعوب وبين شعوب الأمة. من منا لم يدرك عمق العلاقة القائمة على أساس الأخوة النَّسَبية؟ فلأجل ذلك نزَّل النبي صلى الله عليه وآله العلاقة الإيمانية منزلة العلاقة الأخوية النَّسَبية، وزاد ذلك في بيان ترتيب بعض الآثار عليها كقوله صلى الله عليه وآله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"(2). ومنها: تحصين العلاقة بين المسلمين بالأحكام الشرعية، بما لها من ميزة القانون الالزامي بغية تشكيل هالة معينة لحرمة الفرد والمجتمع، كقوله صلى الله عليه وآله: "حسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(3). وكذلك جاء مضمونه في خطبة النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: "إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام". منها: تصوير تماسك المسلمين وتوحيد صفوفهم كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً، كما جاء على لسانه المبارك "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وشبك بين يديه"(4). ومنها: أبلغ العبارات وأحسن الصياغات في هذا المجال، ما تضمنه الحديث الذي يصور الأمة على اختلافها وسعة رقعتها وتباعدها الزماني، في محبتها وتراحم أفرادها وتعاطف شعوبها، بأعضاء الجسد الواحد التي تعاني جميعها إن أصاب أحدها ألم، وكأنه صلى الله عليه وآله يريد أن يزرع ثقافة الوحدة في الكلمة والتضامن في الموقف، وهذا ما ندركه بالوجدان، فإذا أصابت شوكة أي نقطة من أجسامنا، فنشعر بالألم في المكان المصاب؛ إلا أن سائر الأعضاء مستنفرة متألمة، فلا تنام العين حتى ولو كان الألم في أحد أصابع القدم، فقد قال صلى الله عليه وآله: "المسلمون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"(5).
ج - إجراءات مادية:
من خلال إلغاء الفوارق الطبقية، سواء كان منشأها العرق أو اللغة أو اللون. وهي أمثلة للزوم الإلغاء لكل شيء يشكل حاجزاً بين المسلم وأخيه المسلم، سواء كان فارقاً جغرافياً أو تاريخياً، وسواء كان له دخل في الخلقة البشرية أو غير ذلك، كما جاء في خطبته في حجة الوداع، حيث قال صلى الله عليه وآله: "ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى". هذه كلها إجراءات داخلية. وهناك إجراءات خارجية، وهي كثيرة أجراها النبي صلى الله عليه وآله بنفسه، وهي دروس لنا لنستفيد منها إن تعرضنا لظروف مشابهة، كإجراء العهود والمواثيق مع الأطراف المحيطة بالأمة التي تكونت حديثاً في المدينة، وعلى سبيل المثال وقد اتفق عليه الفريقان : "لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة، وادعته اليهود كلها وكتب بينه وبينها كتاباً وألحق رسول الله صلى الله عليه وآله كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أماناً وشرط عليهم شروطاً، فكان فيما شرط ألا يظاهروا عليه أحداً". فالملاحظ في مثل هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وآله قام بكل الإجراءات التي تعطي الأمة القوة، دون أن يكون شيء على حسابها، ولم يكن فيها شيء من الأمور التي تضعف الأمة، أو تعرقل مسيرتها التنموية، أو تزلزل شيئاً من عقائدها، أو تنقص شيئاً من اقتصادها.
الخلاصة: ما قام به النبي صلى الله عليه وآله من إجراءات داخلية وخارجية، صنع من الشعوب والقبائل التائهة والضائعة أمة ذات حضارة وثقافة واقتصاد، فزرع المحبة بينهم وحثهم على حماية أنفسهم من الأيادي الخبيثة، فأرادهم أن يكونوا مصداقاً لقوله تعالى في كل زمان ومكان: ﴿... أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الأحزاب: 29).
(1) الشافعي، توضيح الدلائل، الترمذي: الجامع، مسند أحمد، الحنفي آل محمد، صحيح مسلم الطبراني، الأوسط صحيح مسلم، إخفاق الحق للتستري، بحار الأنوار للمجلس.
(2) بحار الأنوار، ج75، ص16.
(3) صحيح البخاري 2341، وصحيح مسلم 2585.
(4) صحيح مسلم 2586.
(5) التكامل لابن الأثير، ج2، ص221، والنهاية لابن كثير 2 266، وأمثال الحديث لابن خلاد الرامهزي 82 2175.