مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

ما حقيقة توقيع صاحب الزمان عجل الله فرجه؟!

الشيخ نعيم قاسم

 



بدأت الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله فرجه سنة 260هـ، باستلام زمام الإمامة من الإمام الحادي عشر الحسن العسكري عليه السلام، الذي استشهد في ذلك العام، وكان الإمام يتواصل خلال غيبته مع الناس من خلال سفراء له عيَّنهم لهذه الغاية: فكان السفير الأول عثمان بن سعيد العمري الذي استمرت سفارته لخمس سنوات، أي إلى حين وفاته عام 265هـ، والسفير الثاني ولده محمد بن عثمان بن سعيد العمري، وقد استمرت سفارته أربعين سنة، والثالث من بعده، أبو القاسم، الحسين بن روح النوبختي، وقد استمرت سفارته إحدى وعشرين سنة، والرابع والأخير، علي بن محمد السمري، وقد استمرت سفارته ثلاث سنوات، إلى حين وفاته عام 329هـ، حيث لم يُعيِّن الإمام سفيراً من بعده، وبذلك بدأت الغيبة الكبرى.‏ 

اعتمد الإمام عجل الله فرجه على سفرائه الأربعة في نقل رسائل شيعته وأسئلتهم الشفوية والخطية، وكان يجيب الناس عبرهم، فإذا كان الجواب خطياً وَرَدَ بخطه، وهو ما يُسمى في الروايات بالتوقيع، فحيثما وردت عبارة "التوقيع" مقرونة بأحد السفراء الأربعة، أو بالحديث عن إجابات وتوجيهات للإمام المهدي عجل الله فرجه، تكون تعبيراً عن كلام قاله حجة الله عجل الله فرجه، وهو بمثابة رواية عنه، كما هي الروايات عن الأئمة عليهم السلام.‏  وقد تميَّزت "التواقيع" الواردة عن الإمام المهدي عجل الله فرجه بشموليتها وتنوع موضوعاتها، وقد يشمل توقيع واحد عدة موضوعات في العقيدة والفقه والتوجيهات المختلفة، كما في "التوقيع" الذي رواه الشيخ الكليني صاحب "الكافي"، أحد الكتب الأربعة المعتمدة عند الشيعة.‏  سنورد هذا التوقيع أجزاءاً متسلسلة يفصلها بعض التوضيحات، لتسهيل قراءته وفهم مضمونه. روى الشيخ الصدوق، في كتابه "كمال الدين وتمام النعمة"(1)، عن الشيخ الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألتُ محمد بن عثمان العمري (السفير الثاني) رضي الله عنه، أن يوصل لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه: "أمَّا ما سألتَ عنه أرشدك الله وثبَّتك ـ، من أمر المنكرين لي، من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنَّه ليس بين الله عز وجل وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني، وسبيلُه سبيلُ ابن نوح عليه السلام. أما سبيل عمي جعفر وولده، فسبيلُ إخوة يوسف عليه السلام".‏

بيَّنت هذه الفقرة ما هو موجود من تشكيك بإمامة المهدي عجل الله فرجه من بعض أقربائه، بعد استشهاد والده الإمام العسكري عليه السلام، وأن إمامته التي لا تشكِّل حصانة لأحد لا يؤمن بها، لا ترتبط بالقرابة وإنما بالتكليف الإلهي. فهذا ابن نوح لم يسلم من الغرق، لأنَّه كفر بالله تعالى. وأمَّا عمه جعفر الكذاب، فشأنه شأن إخوة يوسف عليه السلام الذين كذبوا على أبيهم يعقوب عليه السلام عندما أخبروه بأن الذئب قد أكله عليه السلام.‏  "أما الفقاع فشربه حرام، ولا بأس بالشلماب(2)، وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل، ومن شاء فليقطع، فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم".‏  انتقل في هذه الإجابة إلى بعض المسائل الفقهية التي أوردها السائل، مبيناً أن المال يطهر صاحبه، ولا يزيد الإمامَ شيئاً، فما عند الله خيرٌ وأبقى.‏  

"وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره، وكذب الوقاتون. وأما قول من زعم أن الحسين عليه السلام لم يقتل فكفرٌ وتكذيبٌ وضلال".‏  حسم الإمام مسألة ظهوره بإرادة الله تعالى، في توقيت لا يعلمه إلاَّ هو، وأن الإمام الحسين عليه السلام استشهد في كربلاء خلافاً لمن ادَّعى بأنَّه لم يقتل، كما هو ظاهر الجواب عن سؤالٍ بهذا المعنى.‏  "وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم. وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه، فإنَّه ثقتي، وكتابُه كتابي. وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي، فسيصلح الله له قلبه، ويزيل عنه شكه. وامَّا ما وصلتنا به، فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر. وثمن المغنية حرام. وأما محمد بن شاذان بن نعيم، فهو رجلٌ من شيعتنا أهل البيت. وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع، فملعون، وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، فإني منهم بريء، وآبائي عليهم السلام منهم براء".‏

في هذه الإجابة جملة من المسائل الهامة:‏
1-لا تقتصر معرفة الأحكام على نص الإمام مقروناً بوجوده المباشر، بل يمكن العودة إلى الرواة الثقاة الذين ينقلون النصوص، ويعطون الأحكام الشرعية. وفي هذا الكلام إرشادٌ إلى اعتياد غيبة الإمام، وعدم انتظار الإجابة منه مباشرة، لوجود علماء وفقهاء مؤهلين يعرِّفون الأمة بالأحكام الشرعية.‏

2-حدَّد أسماء رواة معتبرين وثقاة، وأسماء آخرين كذابين وضَّاعين، ما يستلزم أن لا نأخذ روايات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من أي راوية، بل يجب التحقق من مدى إيمان الراوي ووثاقته، إذ لا ينطبق على كل من عايش النبي صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام عنوان القبول بنقله وفتاويه، وهذا ما بيَّنه لنا الفقهاء العدول والثقاة.‏

3- ترتفع مسؤولية المكلفين بأخذ تكاليفهم من الفقهاء المعتبرين، فهم حجة عليهم، والإمام حجة على الفقهاء، وبالتالي تبرأ ذمة المكلفين بالالتزام بالأحكام الشرعية التي يعلمونهم إياها.‏  "وأما المتلبسون بأموالنا، فمن استحلَّ منها شيئاً فأكله، فإنما يأكل النيران. وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا، وجُعلوا منه في حِلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا، لتطيب ولادتهم ولا تخبث".‏  الخمس واجب شرعي، ويجب إخراج حق الإمام لأهله، كي يصرف في غيبته كحقوق شرعية لمستحقيها، رفعاً لحاجتهم، وتسهيلاً لأمر معاشهم.‏  "وأما ندامةُ قومٍ قد شكّوا في دين الله عزَّ وجل على ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال، ولا حاجة في صِلة الشاكين".‏  

الشاكون بدين الله تعالى عبء على المسيرة الإسلامية، ولا حاجة للإمام بأولئك المذبذبين، فإذا أرادوا التخلي عن اتِّباع أهل البيت عليهم السلام فهذا شأنهم، فهم مقالون من التزاماتهم بعد أن شكوا بدين الله وندموا، فالاقتداء بالأئمة عليهم السلام رحمة لمن سار على هذا الطريق، ولن يُلزم الأئمة أحداً.‏  "وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله عزَّ وجل يقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، إنَّه لم يكن لأحدٍ من آبائي عليهم السلام إلاَّ وقد وَقَعت في عنقه بيعةٌ لطاغيةِ زمانه، وإني أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحدٍ من الطواغيت في عنقي. وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، وإني لأمانٌ لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم. والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب، وعلى من اتبع الهدى".‏  

يبدو أن أسئلة الموالين عن الغيبة كثيرة، وهي محل اهتمام كبير عندهم، لذا كان لا بدَّ من هذا التفصيل، لطمأنة المؤمنين، وتعريفهم بما يمكنهم معرفته مع بقاء قدرٍ من الغيب المجهول الذي لا يمكنهم الاطلاع عليه، فلا داعي للإلحاح بالسؤال عن تفاصيل وقوع الغيبة، فقد وقعت بإرادة الله تعالى وحكمته، فلنتعامل معها بوجودها كحقيقة، ولا نضيِّع جهدنا أو نشوش أفكارنا بكثرة الأسئلة التي قد توصلنا إلى المحذور، طالما أن المقدَّر سيحصل في وقته. وتكفي ميزة عدم وجود بيعة في عنق الإمام المهدي عجل الله فرجه لطاغية، لتكون سبباً لهذه الغيبة، يدفع انتظار جلائها إلى تحقيق الأمل الكبير لمستقبل البشرية.‏  أمَّا وجه الانتفاع بالغيبة، فشبيه باحتجاب الشمس، حيث يُحجب ضوءُها المباشر، لكن نورها يبقى، وكذلك احتجاب الإمام المهدي عجل الله فرجه عن الرؤية، بحيث يبقى نور إشراقه ورعايته ومتابعته واستعداده للظهور موجوداً بكل آثاره التي تنعكس على شيعته، والذي يعطي الأمل بالفرج وقيادة البشرية نحو الصلاح.‏  

إنَّ علينا أن نكثر الدعاء بالفرج، بعد أن نقدِّم الولاء والطاعة، ونهيئ الأرضية المناسبة لنصرته والسير تحت لوائه، فنحن نملك الاستعداد بما مكَّننا الله فيه، ولكن الفرج بيد الله تعالى، الذي يلبي دعاء المؤمنين الذي يعتبر جزءاً من مقومات تعجيل الظهور.‏


(1) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 483 - 485.‏
(2) الشلماب: لفظة فارسية، وهو نوع من الشراب يجلب النعاس، يؤخذ من حب صغير مستطيل أحمر، لكنه غير مسكر

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع