ولاء إبراهيم حمود
... هذا التحقيق أردته في عيد الأم تحية عرفان لأمي، ولكل أمهات اليتامى، اللواتي أنكرن ذواتهن ولم يعترفن بعد ترملهن إلا بيتاماهن. لذلك، إليهن جميعاً أقدم مع صفحاته شكري وعرفاني. وأعلم أنني عاجزة عن أقل الوفاء... فعليهن مني سلام الله ورضوانه، وحبي لزينب عليه السلام حوراء كربلاء وأم يتاماها... التي اقتدت بها أمهاتنا وأنشدت لها القلوب أناشيد الحب والولاء، كلما لاذ يتيمٌ وأمه بصرح الكرامةِ والكبرياء وعاش في يتمه عزَّ الإباء.
* القرآن... جناحُ اليتامى
السيدة فاطمة حسن موسى (أم حسين، أم لسبعة أولاد) تقول: "كان عمر زوجي الأستاذ علي إبراهيم 48 سنة عندما توفي بعد صراعٍ مع المرض الذي دام تسع سنوات. كنت على مشارف الأربعين، فوضعت روحي معه في لحده، ولم أعد أريد من الدنيا سوى أولادي، تابعتُ تعليمهم وبدأنا نقتصد بعد أن كنا في بحبوحة... فتعلمت الخياطة في منزلي. كنت أستخرج قطعة جديدة من القديمة، حفاظاً على أناقة فتياتي الأربع وفتياني الثلاثة. بعت بضاعة وأدوات تجميل. وذكرتني بعض أحلامي بقراءة مجالس العزاء، فمضيت إليها متسلحة بثقافتي الدينية والتعليمية، فاعترض عليّ ابني السيد حسين وعندما سألته عن العيب في ذلك، أجابني: "لا عيب إطلاقاً، ولكن لا تتقاضي مقابل تلك القراءة مالاً"، فأكدت له أنني لا أطلب ولا أشترط. لقد بعت لتعليم أولادي ميراثي من أهلي (قطعة أرض في زبدين)، أما أرضهم في بلد أبيهم، فلم أبع منها شبراً واحداً، لأنهم كانوا أحق بها مني. لقد وعى أولادي هذه الأمور باكراً، فالسيد حسين أنهى وبتفوق كبير دراسته الجامعية (دكتوراه في اللغة العربية وآدابها) والحوزوية أيضاً... لقد درَّس السيد نفسه بنفسه، وقد أنهى أخواه محمد وسامر دراستهما بتفوق في (العلوم الطبيعية) و(الصيدلة).
أما الفتيات، فقد تخصصت أمل في هندسة الكمبيوتر في فرنسا، ومنى درست الصيدلة في روسيا، وقد أنهت هدى الدكتوراه في اللغة العربية في فرنسا وإجازة في المسرح وأخرى في الإعلام. أما سمر، فقد تابعت بعد زواجها دراستها في (إدارة الأعمال)". وتوجهت أم حسين إلى زوجات الشهداء، الشابات منهن تحديداً، بوجوب الصبر على رعاية اليتيم، ودعتهن للمثابرة على قراءة كتاب الله، حيث كانت كل آية تصادفها عن اليتيم تُبكيها بمرارة، واعتبرت أن على الأم التضحية ولو بحياتها ـ، لتؤمن لأولادها حياة كريمة تقيهم بعد رحيل أبيهم شرَّ العوز والفاقة والضياع فوق أرصفة الشوارع.
* لقمة الكرامة
رفضت "أم علي" ذكر كنيتها، ولكنها تحدثت بلسان الأكثرية الصامتة من أمهاتنا، اللواتي كافحن ومضين دون أن يسمع أحدٌ أنين عذاباتهن، فقالت: "ترملت في السادسة والعشرين من عمري. كنت أماً لثلاث بنات، كبراهن في الثالثة، والوسطى عمرها سنة، والصغرى عمرها شهران. كان زوجي شاباً في الثلاثين من عمره، كان أهله فقراء وأهلي، وكنت أُمية، فتعلمتُ مهنة الخياطة في منزلي، ثم صنعت الصوف، وتعلمت صنع المناديل، وذلك في ظروف صعبةٍ للغاية. والآن، أنا أحمدُ الله كثيراً، لأنني نجحت في تربيتهن مستقيمات، فاضلات. لقد وصلت الأولى إلى الشهادة المتوسطة، وهي التي لم ترغب في المتابعة. أما الثانية والثالثة، فقد درستا مهنة التمريض وبدأتا العمل وهما على مشارف الجامعة، وتزوجتا فيما بعد، لأعيش مع أطفالهما أحفادي فرحة طفولةٍ ضائعة في جحيم يتم الأب المبكر وفرحة الأم المفجوعة بأعز أمانيها، فقد شريك الحياة باكراً". تضيف الحاجة أم علي: "لقد بعت الملابس، وعملت في البيوت، وأقمت ناطورة في بناية، ولم أخجل بأي عمل شريف كي أنتج لفتياتي لقمة الكرامة. لم أقف يوماً على باب أحد. وعندما زوَّجت الفتيات بعد تأمينهن في مهنٍ لائقةٍ بهن، نسيت كل ذاك التعب وذاك العناء". تنصح أم علي كل أرملة أو زوجة شهيد، أن تربي أطفالها على تقوى الله وعلى ما يُرضيه سبحانه، وأن تعلم أن كل من تتزوج تاركةً أطفالها في مهب رياح اليتم، ستقف أمامهم يوم القيامة وهم يشكون عذابهم بعد انشغالها عنهم.
* عِلْمُهم... عمادهم
الحاجة آمنة إبراهيم هاشم (أم علي) تقول: "كنتُ شابةً (28 عاماً) عندما اختطف مني الموت بعد مرض، زوجي الشاب (36 سنة) وبقيت وحدي مع ستة أولاد، كان أكبرهم "علي" (9 سنوات) وأصغرهم "محمد" (سنة وشهران). كان زوجي متفانياً في تأمين راحتي مع أطفالي. حتى في مرضه، دعاني للتفرغ لأطفالي لأنه "محكوم بالاعدام" كما كان يقول، بعد أن أقعده المرض. وقد آلمني كثيراً عدم نجاح "علي" في شهادة "السرتفيكا" أثناء مرض أبيه، لأنه مات محروماً من هذه الفرحة. كان يشجعني بقوله: "السنة القادمة بإذن الله سينجح فاذهبي إلى قبري أخبريني". وفعلاً، هذا ما حدث". وتتابع الحاجة الجليلة التي زادها جهاد السنين وقاراً ومهابةً "بالصبر والإيمان، واجهت فقده الفاجع. عملت مع جد أولادي (عمي والد المرحوم) في محل كان يديره وكان عبارة عن دكانة وملحمة، تحت منزلنا. ولأنني أردت تعويض أطفالي يتمهم، أردتهم رجالاً قبل أوانهم، وضعتهم في أرقى المدارس، وعملت في الحديقة التي تحيط بيتنا، زرعت التفاح والباذنجان. كان الله يبارك لي، وكانت الأرض تفيض خيراً. كنت لأجلهم أتحمل كل شيء برحابةٍ صدر ولم أرضَ العمل تحت أيدي الآخرين. كنت أخبز باكراً لنا ولعمي، وكنت أجرم الذبيحة وأسلخها وأقطعها وأشاركه البيع في الدكان، لأنه كان هرِماً ابن ثمانين عاماً". بنت الحاجة أم علي في يتاماها قيماً أخلاقية أبرزها: السَّخاء، والإيمان، والصبر، والإحسان إلى المحتاج، والقيام بواجب وحب العلم الذي رفع فعلاً بيتها بعد أن هوى عماده باكراً. كانت تعلق شهادات أبنائها العلمية على جدران منزلها، وكان ولدها الحاج عباس يعترضها ملاطفاً "على تعليق الشهادات" فكانت تجيبه "هذه ثمرات تعبي ويتمكم، هذه أمنيات أبيك قبل أن يموت". والآن نسيت الحاجة أم علي آلام معاناتها بعد نجاح أبنائها. وتتساءل خاتمةً حديثها، مجيبةً بنفسها على تساؤلها: "لماذا أوجدوا عيد الأم؟ لأن الأم تلمّ". وقد لمَّت هذه الحاجَّة فعلاً شمل عائلتها تحت جناحها: الحاج عباس هاشم ممثلاً للشعب في مجلسه، وعلي تاجراً ناجحاً في تجارته، وجمال مهندساً لعمران بلده، ومحمد رجل أعمال يرافقه مع أشقائه دعاء أمٍ كانت وما زالت لهم أماً وأباً ولنا قدوة ومثالاً.
* أسألهم... الحب
زينب طراد أم حسين يحيى، قالت: "كنت في الثانية والعشرين من عمري، عندما توفي "علي" زوجي وكان في السابعة والعشرين. كان حسين أكبر أولادي في السنة السادسة، والصغيرة رانية كان عمرها أربعة أشهر، وكان عمر يحيى سنتين، وآيات ثلاث سنوات ونصفاً. وبعد وفاة والدهم، رأيتهم كباراً فقلت لنفسي: "لا أقبل غداً أن يقول أحد لابني أو لابنتي أنا ربيتك". رفضت مساعدات الجميع، وفتحت محلاً بالضيعة. ثم جاءت بهم إلى المبرة. "عملت كطباخةٍ خارج دوامي في المبرة أيضاً "Delivery" وفتحت مطعماً". تعتبر أم حسين أن قيامها بثلاث وظائف في آنٍ معاً ليس صعباً، في سبيل أولادها. وهي لا تطلب منهم إلا الحب الذي أصرت على زرعه في قلوبهم حتى لمن ظلموهم. صار حسين إعلامياً وهو يُعلِّم في معهد الآفاق في اختصاصه الجامعي الثاني "إدارة وتسويق". أما يحيى، فهو الآن في السنة الرابعة الجامعية "صيدليّ"، وقد درست آيات T.S.2 محاسبة ومعلوماتية، ورانية كأخيها تركيب أدوية.. وقد تزوجوا جميعهم وأنجبوا لها الأحفاد الذين أنسوها كل ما مرَّ عليها من آلام. لم تشعر يوماً، رغم العمليات الجراحية المتكررة في يديها، أنها تعبت. هي تعذبت كثيراً للفوز بهم وقد نجحت. ختمت أم حسين بقولها: "أهنئ زوجات الشهداء على صبرهن"، ويؤلمها قليلاً أن المرحوم زوجها والد أولادها، كان في صباه مقاوماً لكنه لم يمض شهيداً. ويسعدها اليوم أن أولادها يتابعون خط أبيهم ونهجه ويحفظون وصاياه، علماً واستقامةً و... مقاومة.
* خالدة في شغاف القلب
أم حسين حمدان "حكمت السباعي"
عن جهادها وصبرها، كأم يتامى، تحدث آل حمدان عن أمهم التي لم يكن قد مضى على رحيلها عشرون يوماً. وقد استشهد الوالد في حزيران 84، وهو يقوم بواجبه في إطفاء مستشفى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وقد كان صائماً وفي أيام شهر رمضان، ولم يناهز الخمسين عاماً. كان عمرها حينها واحداً وأربعين عاماً، وقد كانت أكبر بناتها (زينب) في الثامنة عشرة من عمرها، لم تترك الوالدة أولادها يشعرون بقسوة الفاجعة التي ألمَّت بهم، وعلمتهم الاعتماد على أنفسهم، فتخرّج صغارها ناجحين ومتفوقين: فالكبرى نالت إجازة في إدارة الأعمال، وسناء شهادة في التربية الحضانية، وحسين ولظروف صحية أنهى الأول الثانوي فقط. أما ياسر، فقد تابع ليسانساً مهنياً في الالكترونيك، وهو الآن معاون في الجيش، ووفاء مهندسة في مجال الاتصالات. أما رحاب التي كانت الدموع تخنق حديثها عن أمها الراحلة، فقد حصلت على إجازة في التاريخ وجدارة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ختمت ابنتها الكبرى الجلسة بالتوجه إليها وحدها، وهي صورة خالدة فوق شغاف القلب وبلسانهم جميعاً "سامحينا، إذا قصَّرنا بحقك، والله أنت ما قصرت معنا... يا طاهرة". تؤكد شخصيات هذا التحقيق بإنجازاتها الكبيرة مقولة الشاعر المغايرة والواقعية لليتيم الحقيقي وهو في كنف والديه لا في غياب أحدهما:
ليس اليتيم من انتهى أبواه |
من همِّ الحياة وخلفاه ذليلاً |
إن اليتيم هو الذي تلقى له |
أماً تخلت أو أباً مشغولاً |
... وما تخلت أمهات يتامانا ولا زوجات شهدائنا... لقد كانت كل أم أمةً من القيم والجهاد، وكانت أمتنا أماً لكل يتامى الجهاد... وستبقى.