تحقيق: ليندا زراقط
يرتكب البعض ممن يحملون هوية الإسلام المعاصي، غير آبهين بالالتزام بأحكامه، فيمضون سنوات من عمرهم غارقين في مستنقعات الذنوب. وفجأة، تلفحهم نسمات الهداية والتوبة فيقفون عند عتبات أنفسهم باكين متسائلين: هل للقلب أن يعود؟.. أن يتوب ويرجع عن المعصية وعن إغضاب الله....؟ نعم، يمكن للقلب أن يعود إذا كان الإنسان الذي يملكه يرى أن الله موجوداً.. فالإنسان قد يولد مرة واحدة، وقد يولد مرتين: يوم ولادته وخروجه إلى نور الدنيا، ويوم يخرج من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ويسلك طريق الهداية والاستقامة. فالله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. وهذه قصص بعض المستبصرين الذين عرفوا الله ورسوله وعادوا عن المعصية، يروونها بأنفسهم لـ"بقية الله":
ميريام .ع (عزباء ) ارتدت الحجاب حديثاً.. تذرف الدمع حسرة على السنين التي ضاعت من عمرها دون حجاب.. يعتصر الألم قلبها وعزاؤها الوحيد طلب الغفران... استبدلت بثوب الإثم والمعصية ثوب التقوى والإيمان فحل مكان الخوف..الأمان.. وعوض القلق الاطمئنان. أراد الله بها خيراً فوفقها للتوبة والهداية. تروي قصتها فتقول: أنا فتاة من عائلة محافظة ومتمسكة بالقيم والمبادئ الإسلامية... كنت الابنة الصغرى في الأسرة بين الفتيات، ولذلك كُتب لي من الدلال ما سهّل لي البقاء من دون حجاب. وفاة شقيقي رحمة الله عليه كانت أحد أسباب ارتدائي الحجاب. كان شقيقي في ريعان الشباب لم يكمل الحادية والثلاثين من عمره. لم يكن يشكو من أي مرض. منذ سنتين، أصيب فجأة بإعياء شديد أدى إلى دخوله المستشفى، وبعدها بيومين أو ثلاثة، لقي ربه تعالى. وكان هذا النبأ بمثابة الزلزال الذي اقتلعني من مكاني، وجعلني أرتطم بشدة بحقيقة الحقائق وهي الموت.. فتأثرت جداً وبدأت أفكر بالموت والحساب والجنة والنار.. هذه الصدمة القاسية، كشفت لي حقيقة الدنيا، وما هي إلا متاع الغرور، فقررت على الفور الالتزام بالحجاب.. حتى قبل دفن جثمان أخي رحمة الله عليه. أنا نادمة على كل لحظة مضت من حياتي من دون حجاب. لذلك، أنا أدعو كل الفتيات السافرات إلى أن لا يؤجلن قرار ارتداء الحجاب.. قبل الحجاب لم يكن في الوقت والمال بركة.. وكذلك، فقد كانت النقود تضيع على المكياج وغير ذلك من حاجات تافهة. وكان الوقت يمر دون أن أستفيد منه. أما الآن، فإن أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها في طاعة الله وقراءة الدعاء وحضور مجالس أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
* باب الله لا يُغلق
ح .أ (متزوج وله ابنتان)، أصابته ضائقة مالية شديدة وتردّت أوضاعه.. وقلّ ما في يده.. فاضطر لتقديم الخمور.. أغلقت في وجهه جميع الأبواب إلا باب واحد، باب الله الذي لا يُغلق، فلجأ إلى الله وعاد إليه. وهنا، وجد السعادة التي كان يبحث عنها. التقينا به فحدثنا عن قصته وقال: كنت أشعر دائماً بالخجل من نفسي وأنا أقدم الكحول التي هي ضد معتقدي وديني. ومن كرم الله على عباده أنه أثناء قيام أحد الأصدقاء بزيارة لي أخبرته بقصتي، فساعدني على إيجاد عمل في أحد المطاعم التي يملكها أحد المؤمنين ومنحني راتباً كافياً لي ولعائلتي، وبارك الله لي في هذه الوظيفة الشريفة التي تجر المكسب الطيب الحلال. الحمد لله على نعمة الهداية وأشكر الله على أن وفقني للتوبة وترك هذا العمل الشنيع ومال الحرام. وأنصح الشباب بالصبر والتوكّل على الله تعالى وألا يقدموا على أي كسب محرّم أو عمل محرّم وغير مشروع، فالصبر مفتاح الفرج وإن الله مع الصابرين.
* لعنة المال الحرام
د .م ( سنة متزوج وأب لفتاة)، تاجر بالسموم البيضاء وروجها بين الشباب لكي يعيش ويموت غيره... كان ضحية لظروف اجتماعية قاسية. عاش أوقاتاً صعبة وعانى كثيراً.. ذاق مرارة السجن وعذاب الضمير ولوعة الألم والحزن، فقرر أن يتوب إلى الله لعلمه أنه يجد الراحة النفسية والجسدية. يقول: ولدت في بيئة منحرفة مليئة برفاق السوء الذين اختلطت بهم من صغر سني، ولم ألقَ إهتماماً من والدي لأنه كان يقضي كل وقته في العمل. كان عمري آنذاك تسع أو عشر سنوات لا غير، حين تركت الدراسة من المرحلة الابتدائية واتجهت للعمل.. وفي سن الخامسة عشرة، عملت بتجارة المخدرات. وأثناء قيامي بهذا العمل، كنت أشعر دائماً بالخوف وعدم السكينة، رغم أني كنت أكسب الكثير من المال. والموقف الذي كان من أسباب توبتي ورجوعي إلى الله والذي دفعني للإقلاع عن تجارة المخدرات هو السجن القاسي الذي كان بمثابة الصدمة القوية.. استيقظت من غفلتي في ظلمة السجن.. وخاصة بسبب ما جرى عليّ داخل السجن من أمراضٍ معدية كالسل الذي كان سيودي بحياتي وأشرفت على الموت بسببه، فعندئذ ندمت وبكيت أكثر أيام سجني. وكانت توبتي قبل خروجي من السجن وأقبلت على الصلاة. وحينها، شعرت بأني ولدت من جديد، وأنني حر طليق، وراء القضبان.. وأنصح كل الشباب أن يسلكوا طريق الإيمان والطريق السليم في الاستحصال على المال، لأن نهاية طريق الشر والأذى تودي بصاحبها إلى نهاية تعيسة دون ريب، والمال الحرام يذهب وأهله .
* انحنى بالذنوب ظهري:
خضر ، شابٌ يافع شُجاع .. لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره... كان غارقاً في المعاصي، كل ذلك بحثاً عن السعادة، ولكنه لم يجد إلا الشقاء والتعاسة. ولكنه تاب إلى الله توبة نصوح ورجع إليه منيباً... أما قصته وسبب توبته، فيرويها لنا قائلاً: كنت تاركاً للصلاة، وإذا صليتها كنت أصليها بدون أن أعقل منها شيئاً، أما إذا أسدل الليل ستاره فأقضيه مع رفقاء السوء وسماع الغناء وشرب الخمر. أسرفت على نفسي وانحنى بالذنوب ظهري.. كانت حياتي حياة لهو وضياع وعدم مسؤولية وعدم وجود رادع وشخص يرشدني لطريق الصواب، الأب مقعد، والوالدة مريضة، وإخوتي في الخارج، فلم أجد من يمنعني أو يرشدني وينصحني أو يسألني عن حياتي وماذا افعل. باختصار شديد كنت في غفلة وضياع. وعندما أراد الله بي خيراً، ذهبت لزيارة قريب لي والتقيت هناك بشاب ظريف ومؤمن وتوطدت الصداقة، وبدأ ينصحني بحضور مجالس أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وعزم على دعوتي للذهاب معه إلى المسجد للصلاة، محاولاً أن يسحبني إلى عالم الخير والهداية والصلاح.. ونصحني بالإقلاع عن شرب الخمر لأن شارب الخمر لا تقبل صلاته أربعين يوماً. كنت أقول له لا أستطيع، فيرد علي قائلاً: بل أذكر الله وادْعه أن يُفرّج همّك ويشرح صدرك ويعينك على بلواك بإذن الله. وكان يعظني وينصحني بكلام جميل وطيب، يؤثر في الصخر... حتى تأثرت بذلك تأثراً بالغاً وبدأت أستمع للمجلس الحسيني. شعرت بالندم وتبدّلت حياتي وانقلبت رأساً على عقب، وبدأت بصيام الأيام التي فاتتني. وفي سنة 2006، كرمني الله بزيارة ضريح ومقام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وفي تلك الروضة الشريفة كانت التوبة الحقيقية والإخلاص لله والبكاء الشديد، واعتصر قلبي ندماً على ما مضى وما فاتني، ولكني حمدت الله على الهداية.ِ
* من جاهر بالمعصية فليجاهر بالتوبة
هو صوت.. ينشد كالبلبل.. يترنم بلحن عذب.. ونبرات شجية.. ليُخْرِجَ لنا أناشيد تقطر عذوبة وإشراقاً بمدح النبي وآل بيته عليهم السلام. كان شاباً يحلم بالنجومية الساحقة وكان مولعاً بالغناء محباً للطرب ولم يكن يفكر في حرمة الغناء وعواقبه. ومما زاد حبه لهذه المعصية ذلك الصوت الجميل الذي وهبه الله له، صوت شجي خلاب يحرك المشاعر والأحاسيس.. بعد أحد عشر عاماً من احتراف الفن ومصادقة أهله، خلع الحاج محمد رمال عن نفسه هذه الحياة وطلقها طلاقاً بائناً وأعلن توبته على الملأ، اقتناعاً منه بأن من جاهر بالمعصية عليه أن يجاهر بالتوبة. أسرار عديدة عن هذه الرحلة وتحولاتها المتناقضة يكشفها المنشد محمد رمال (دبلوم بالعلوم الموسيقية والنوتة والسولفيج) لمجلة "بقية الله" فإلى التفاصيل: كان عمري تسع سنوات عندما بدأت رحلة الفن والغناء. نشأت في أسرة محافظة وملتزمة دينياً، حيث كان والدي قارىء عزاء، وكنت صغيراً آنذاك حين أغراني متعهد الحفلات بالمال الكثير، فظننت أنني أستطيع من خلاله تغطية فقر العائلة. الوالد والوالدة كانا يرفضان الموضوع بشدة، لدرجة أني كنت أذهب لإحياء الحفلات بالسر. وعندما كبرت، خيّرني الوالد بين الطرد والبقاء في مجال الغناء، لأنهم كانوا يعتبرون مالي حراماً. كنت ملتزماً بالصلاة والصوم ولم أقطع فرضاً. كنت أعلم بأن الغناء حرام، ولكن الشيطان كان يهوّن لي ذنبي ويقول لي دائماً: أنت لا تزني ولا تشرب الخمر. كان البعض من الأقارب يسدي لي النصائح بالابتعاد عن هذا الطريق، لكن هناك حادثة كان لها الأثر الكبير في توبتي: كنا في إحدى المرات أنا وأصدقائي على شاطئ البحر وكانت إحدى الراقصات تتزلج على المياه. وبينما هي على سطح الماء، التفّ سلك الفولاذ الذي يربط اليخت بالكورنيش حول رقبتها فنزع رأسها عن جسمها. هنا تأثرت كثيراً وبدأت تنتابني حالة خوف ورعب من الموت والحساب والآخرة وأدركت أن الموت حقيقة لا يمكن إنكارها، وأخذت أراجع نفسي وأتساءل: إلى متى سأظل هكذا من دون أن أعمل للآخرة؟
وكان والدي رحمة الله عليه قبل هذه الحادثة بشهر تقريباً قد أرسل لي قصيدة بالغة ينصحني فيها بالتوبة أحدثت في نفسي ردة فعل قوية. وفي يوم من الأيام عندما انتهيت من وصلتي الغنائية، ذهبت إلى البيت واستمعت لمجلس عزاء للقارىء عبد الوهاب الكاشي رحمة الله عليه ـ، فكانت هذه أول لحظات التوبة. وضعت يدي على القرآن وناجيت ربي قائلاً: يا الله، أنت تعلم ما في الصدور، أتوب إليك توبة نصوحة خالصة لك، وإن وجدتني أهم بالعودة للغناء، أصبني بالشلل، ابتلني بالمرض.. أو افعل بي أي شيء يحول بيني وبين الرجوع إلى الغناء. أعلنت التوبة لله سبحانه وتعالى وتركت مال الفن، وحتى الثياب وزعتها على الفقراء، وبدأت من جديد في عالم الموالد والإنشاد، وكانت الساحة تفتقر لهذا الأمر وكان ما كان من النجاحات المستمرة بمدح النبي وآله الأخيار عليهم السلام والأناشيد الوطنية والثورية والأناشيد في المقاومة الإسلامية، ولاقت عند الناس صدى ونجاحاً كبيراً بفضل الله تعالى. بعد التوبة أصبحت مرتاحاً نفسياً ومعنوياً. وبالنسبة للأمور المادية، فإن الحلال ألذ طعماً وأعظم بركة، ويكفي أنني توجهت من "ذل معصية الله إلى عز طاعته". وأنا أنصح كل إنسان موالٍ لأهل البيت سالكٍ في طريق المعصية أن يعلن توبته إلى الله، والله ليس ببعيد عنا إنه قريب جداً لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة).
هنيئاً للمستبصرين الذين منّ الله عليهم بهديه وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وبالتأكيد لا نستطيع حصر أعداد المستبصرين، فضلاً عن أن قوافل التائبين والتائبات لا تزال ماضية.