صحيح أن هداية الرسول العظيم طوال قرون متمادية لم تستغرق بعدُ البشرية برمتها، بيد أن هذا المصباح الوضّاء، وهذا المشعل المتوهّج موجود بين البشرية وهو يهدي البشر طوال السنوات والقرون نحو ينبوع النور. وخاصة إذا نظرنا في التاريخ بعد بعثة الرسول وولادته صلى الله عليه وآله. لقد سارت الإنسانية نحو القيم، وعرفت القيم، وهذا ما ينمو وينتشر تدريجياً وتتضاعف شدته يوماً بعد يوم، إلى أن يظهره الله ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33) إن شاء الله.. هذا يستغرق العالم كله فتبدأ البشرية سيرها الحقيقي في طريق الهداية والصراط المستقيم. والواقع أن حياة الإنسانية تبدأ منذ ذلك اليوم.. اليوم الذي تكتمل فيه حجة الله على الناس وتضع الإنسانية أقدامها على هذا الطريق. نحن، الأمة الإسلامية اليوم، نقف أمام هذه النعمة الكبيرة وعلينا الانتفاع منها. علينا تنوير قلوبنا، وديننا، وأفكارنا، وكذلك دنيانا، وحياتنا، وبيئتنا ببركة تعاليم هذا الدين المقدس. ولأنه نور، فهو بصيرة وبوسعنا تقريب أنفسنا منه والنهل من معينه. هذا هو واجبنا العام نحن المسلمين.
* الجهاد من أجل الوحدة:
ما أشدّد عليه اليوم وهو من واجباتنا الكبرى والأولى نحن المسلمين هو قضية الاتحاد والوحدة. ينبغي أن نعمل ونتجه صوب الوحدة. العالم الإسلامي اليوم بحاجة للوحدة. وهناك عوامل تفرقة ينبغي التغلّب والانتصار عليها. كل الأهداف الكبرى بحاجة إلى الجهاد والكفاح. ما من هدف كبير يحصل بدون جهاد، والاتحاد بين المسلمين لا يحصل بدون جهاد وعنت. من واجبنا الجهاد والعمل لأجل اتحاد العالم الإسلامي. بمقدور هذا الجهاد حلَّ الكثير من العقد والمشكلات، وبوسعه إعزاز المجتمعات والشعوب المسلمة. انظروا حال البلدان الإسلامية. انظروا واقع المسلمين الذين يشكلون اليوم ربع السكان في العالم، كيف أن تأثيرهم في سياسات العالم وحتى في قضاياهم الداخلية أقل وأضعف بكثير من تأثير القوى الأجنبية والأطراف ذات النوايا السيئة. لسنا نحذر أنفسنا ومخاطبينا من القوى الأجنبية لأنها أجنبية وحسب، بل لأنها سيئة النية أيضاً وذات محفزات هيمنة.
* عوائق أمام طريق الوحدة:
يريدون إذلال الشعوب المسلمة وتحطيمها وفرض الطاعة المحضة عليها. حسناً، ما هو طريق هذه البلدان الإسلامية التي يربو عددها على الخمسين وشعوبها المسلمة إذا أرادت الوقوف بوجه مثل هذه النوايا السيئة الواضحة والكبيرة والتعسّفية سوى الوحدة؟ علينا الاقتراب من بعضنا البعض. هناك عاملان أساسيان يعيقان طريق الوحدة وينبغي علاجهما: العامل الأول عامل داخلي فينا.. تعصباتنا والتزامنا بعقائدنا، كل فريق لنفسه.. هذا ما يجب التغلب عليه. إيمان الإنسان بمبادئه وأصوله وعقائده شيء جيد ومحمود جداً، والإصرار عليها جيد أيضاً. غير أن هذه الحالة يجب أن لا تتجاوز حدود الإثبات إلى حدود الإقصاء المصحوبة بالتطاول والعداء. على الإخوة في منظومة الأمة الإسلامية أن يحترموا بعضهم. وإذا أرادوا الحفاظ على عقائدهم، فليفعلوا، لكن، عليهم احترام بعضهم البعض، وحدود بعضهم البعض، وحقوق بعضهم البعض، وأفكار وعقائد بعضهم البعض، وترك النقاشات والجدال لمجالس العلم. ليجتمع العلماء وأهل الخبرة ويتناقشوا مذهبياً إذا شاءوا. إلا أن النقاش المذهبي العلمي في الأروقة العلمية يختلف عن تبادل الإساءات في العلن وعلى مستوى الرأي العام وأمام ذهنيات عاجزة عن التحليل العلمي. على العلماء احتواء هذا الشيء، وعلى المسؤولين احتواؤه أيضاً. كل الفئات المسلمة تتحمل واجباً في هذا المجال. الشيعة عليهم واجباتهم، والسنّة أيضاً عليهم واجبات. عليهم السير نحو الاتحاد. هذا أحد العاملين وهو عامل داخلي. وهناك العامل الخارجي، وهو يد الأعداء المغرضة العاملة على التفرقة. ينبغي عدم الغفلة عن هذا. ليس اليوم فقط، بل منذ أن شعرت القوى السياسية المهيمنة على العالم أن بوسعها التأثير على الشعوب ظهرت يد التفرقة هذه، وهي اليوم أشد من أي وقت آخر. ووسائل الإعلام العامة والاتصال الحديثة تساعد بدورها على ذلك. إنهم يؤججون النيران وينحتون الشعارات للتفرقة. ينبغي التيقّظ والحذر. وللأسف، يصبح البعض داخل الشعوب والبلدان المسلمة وسائل لتنفيذ أغراض أولئك الأعداء الأصليين.
* إنتصارات المقاومة انتصار للمسلمين:
إن في هذا لعبرة كبيرة؛ لاحظوا أنه حينما انتصر شباب المقاومة وحزب الله في لبنان على إسرائيل، وأذلّوا الكيان الصهيوني بتلك الصورة، واعتبر ذلك انتصاراً وازدهاراً للمسلمين في العالم الإسلامي، بادرت أيدي التفرقة من فورها لطرح قضية الشيعة والسنّة وتشديد العصبيات المذهبية سواء في لبنان أو في منطقة الشرق الأوسط أو في كل العالم الإسلامي. وكأن قضية الشيعة والسنّة قد ظهرت لتوِّها! وذلك لأجل التفريق بين أبناء الأمة الإسلامية الذين ازدادوا تعاطفاً في ظل ذلك الانتصار الكبير عبر إثارة قضية التشيع والتسنن. حين وقع انتصار آخر كبير ومتألق للأمة الإسلامية ألا وهو انتصار المقاومة الفلسطينية على العدو الصهيوني في غزة. كان هذا انتصاراً كبيراً للمسلمين وقد زاد من تعاطف المسلمين مع بعضهم البعض. ولم يكن بوسعهم إثارة قضية التشيع والتسنن هنا، فأثاروا قضية القومية.. قضية العروبة واللاعروبة.. معركة أن قضية فلسطين تختص بالعرب، والإصرار على أنها خاصة بالعرب لكي لا يحق لغير العرب التدخل في هذه القضية! لماذا؟ قضية فلسطين قضية إسلامية وليس فيها عرب أو عجم. إذا تدخلت النزعة القومية في قضايا العالم الإسلامي فستكون أكبر عامل تفرقة. حينما يُقحمون العامل القومي في قضايا العالم الإسلامي فيفصلون العرب عن الفرس، عن الترك، عن الكرد، عن الأندونيسيين، عن الماليزيين، عن الباكستانيين، عن الهنود، فما الذي سوف يبقى؟ إنه عَرضٌ للأمة الإسلامية وقواها وقدراتها في المزاد العلني. هذه حيل الاستكبار التي يقع فيها البعض في العالم الإسلامي للأسف. لا يرومون بقاء حلاوة الانتصار في لبنان وفي غزة في أفواه المسلمين، لذلك، يثيرون على الفور عوامل الاختلاف والتفرقة.
* إنه هتاف المستكبرين:
على الأمة الإسلامية أن تبقى متيقّظة وتقف بوجههم. والواجب الأول يقع على عاتق رجال السياسة. على مسؤولي وساسة البلدان الإسلامية أن يتيقظوا. قد يصدر هذا الهتاف من حناجر بعض الساسة المسلمين، لكننا لن نخطئ.. إننا لن نخطئ في تشخيص العامل الرئيس. يخرج الهتاف من أفواههم لكنه ليس هتافهم بل هتاف غيرهم.. إنه هتاف القوى الاستكبارية في العالم. هم الذين يعارضون وحدة الأمة الإسلامية. وإذا صدر من حناجر أشخاص ينتمون إلى الأمة الإسلامية، فإنهم مخدوعون. ليس هذا الصوت صوتهم، بل صوت أولئك. نحن نعرف هذا الصوت. الساسة والمسؤولون بالدرجة الأولى، وأيضاً المفكرون ومن يتعاملون مع عقول الناس وقلوبهم؛ علماء الدين والمثقفون، والكتّاب، والصحفيون، والشعراء، والأدباء في العالم الإسلامي يتحملون هذا الواجب الكبير بدرجة عالية، وهو أن يعرِّفوا للناس الأصابع التي تروم الإخلال في هذه الوحدة وإخراج هذا الزمام الإلهي المتين من أيدي المسلمين.
* اعتصموا جميعاً:
يقول لنا القرآن بصراحة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103).. يقول لنا اعتصموا سويةً بحبل الله. يمكن الاعتصام بحبل الله كلٌّ على انفراد، لكن القرآن يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾.. أي كونوا سويةً.. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.. حتى في الاعتصام بحبل الله، ناهيك عن أن يعتصم البعض بحبل الله والبعض بحبل الشيطان. حتى حينما يريد الجميع الاعتصام بحبل الله، يقول ﴿جَمِيعًا﴾.. أي افعلوا ذلك بتعاطف وتراضٍ والتحام. هذه هي قضية العالم الإسلامي الكبرى.
* مقتطف من كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في 15/3/2009م في مؤتمر الوحدة الإسلامية.