د. حسن سلهب
عندما فكّر السابقون في تحويل عملية التعليم إلى مؤسسة، وأطلقوا عليها اسم "مدرسة"، لم يَدُر في أذهانهم على الأرجح أنهم يسعون في نمط جديد لحياة الأجيال الجديدة. فالمعارف والمهارات الأولية كانت تشكل جلّ أهدافهم ومعظم أمانيهم، لكن ما حدث بعد ذلك كان أكبر وأوسع، فلقد تحوّلت المؤسسة الوليدة مع مرور الوقت إلى بيتٍ ثانٍ، شكّل على الدوام محوراً رئيساً في حياة الأجيال، لا يضاهيه أو يدانيه شيء. فالطفل عندما يتردّد إلى المدرسة يومياً إنما يتردد إلى المكان الذي تتفاعل فيه شخصيته بشكل لا مثيل له في أي مكانٍ آخر، وتتكثّف فيه كل تجارب المجتمع وتقاليده وأعرافه، وتلتقي فيه معظم نماذج المجتمع المتنوعة والمتعددّة.
* أي هدف للمدرسة؟
فالمدرسة تحوّلت مع تطوّر الظروف والأهداف، من مكان يجتمع فيه المعلّم بتلامذته، إلى بيئة تتفاعل فيها وحولها كل العناصر والمكوّنات. ولا نبالغ إذا ما قلنا إنّ ما يجنيه التلميذ من المدرسة على المستوى الاجتماعي يفوق بحجمه وتأثيراته على شخصيته ما يجنيه على المستوى العلمي البحت، لا سيما في السنوات الأولى من مسيرته المدرسية. من هنا، كان خيار الجمعيات والمؤسسات الدينية والسياسية في إنشاء المدارس، واستثمارها السخي، في خدمة الرسالة الدينية والسياسية التي تحمل. إذا كان الواقع كذلك، فهل يرقى التفكير والتخطيط إليه، أم لا تزال الأهداف القديمة للمؤسسة المدرسية هي الأهداف، وبالتالي التفكير والتخطيط؟ مع الأسف الشديد، لا تزال الأهداف القديمة تهيمن على ما عداها في معظم التجارب المعاصرة. وللتوضيح نقول: إن ما يبدو حياة فعلية بالنسبة للتلامذة، لم يتجاوز حدود الوظيفة، أو المهمة، بالنسبة للقيّمين على هذه الحياة. وبعبارة أخرى لم تتحوّل الفترات الزمنية بالنسبة إلى هؤلاء إلى نمط حياة، أو حياة مدرسية فعلاً. في كل الأحوال، لا بد من التوسّع قليلاً في مفهوم الحياة المدرسية، وبالتالي استيعاب القيمة الفعلية للمدرسة في وجود الطفل أو التلميذ.
* المدرسة نمط حياة
كيف يقضي التلميذ أوقاته الخاصة بالمدرسة، وماذا يجني منها؟
معظم التلامذة في هذه الأيام يستيقظون من نومهم قبل السابعة صباحاً إذا لم نقل قبل السادسة في كثير من الأحيان ـ، وذهنهم مشغولٌ بشؤون المدرسة وشجونها. وكل ما يصرفونه من وقت وجهد هو وقت مدرسي بامتياز. وهذا لا ينحصر بوقت الاستعداد للذهاب إلى المدرسة، بل بوقت ما بعد العودة منها أيضاً. وقد يصح القول إن وقت المدرسة هو وقت مدرسي فعلي، ووقت البيت هو وقت مشترك بين الاثنين، أي المدرسة والبيت. يغادرون البيت إلى المدرسة، يلتقون بزملائهم، وببعض الراشدين الذين يقدمون بعض الخدمات لهم، والقِبْلَة الوحيدة للجميع هي المدرسة، وعندما يصلون إليها يبدو العالم كله كأنه لحظة اختصار مدرسية، فالكون كلُّه تحوّل إلى مدرسة، ولم يعد ثمّة إنسان غير معني. لقد تكثف الاجتماع الإنساني في بقعة واحدة، وغدت المدرسة أرضاً تتوافر فيها كل شروط الحياة الراقية والمتألقة. يدخل التلامذة إلى صفوفهم وليس لديهم أدنى شك بأنهم يمارسون نمطاً من أنماط حياتهم، مهما بدا صعباً أو شاقاً في بعض الأحيان. فالوقت يتّسع للقيام بتلبية مجموعة من الحاجات الشخصية والنفسية والجسدية، تبدأ من الطعام، مروراً بالإفادة من المرافق والوسائل المتنوعة، من دون أن تنتهي بحياكة أول وأهم تجربة في العلاقات مع الآخر، سوف يكون لها تأثير بالغ في المستقبل القريب والبعيد. على أنه وحين يكون التلميذ مشغولاً بالتعلّم، لا يبتعد عن هذا النمط، بل هو حاضر في طريقة تفكيره الخاصة، وأسئلته وإجاباته، وكثيرٍ من سلوكياته المقبولة أو غير المقبولة.
إنها الحياة بكل معانيها وتفاعلاتها تتجسد في خصوماته وصداقاته، في اعتراضاته وموافقاته، في خياراته واستبعاداته، في طريقة نطقه وألفاظه، في حبِّه وبغضه. وإذا كانت الحركة أكثر مظاهر الحياة وضوحاً، فهي في المدرسة تصل إلى أعلى مستوياتها وتجلياتها، سواء في المضمر منها، كحركة الذهن أو النفس، أو الظاهر كحركة الجسد والحواس. لا تنحصر حيوية التلميذ المدرسية في المقصود أو المخطّط له، فكل شيء في المدرسة يمارس تأثيره الخاص به، والتلميذ لا ينفك يفتح المعاني ويحلُّ الألغاز، فهو يفكر بطريقة نطق المعلّم أكثر مما يفكر بالمنطوق، ويهتم بحركاته أكثر مما يهتم بتوجيهاته، وتستوقفه طريقة تصرّف الآخرين، أكثر مما يعنيه مضمون هذه التصرُّفات ومقصدها، وأعماقه مشرعة أمام الإنساني أكثر من أي شيء آخر، بما فيه العلمي والمنطقي.
* المدرسة تشكيل حياة
يمر التلميذ بأنماط حياتية عديدة، وقد يكون لبعضها أثر ملحوظ يفوق ما للمدرسة. لكن نمط الحياة المدرسية مؤهلٌ دائماً ليكون هو الأبرز، والأكثر حيوية في تاريخ شخصيته، والسر يكمن ليس في حجم الوقت الذي يقضيه فيها، ولا في العلاقات المميزة التي ينشئها فحسب، بل في استعداداته الهائلة التي يمتلكها في تلك الفترة الغنية من حياته، حتى إذا ما توافر في المدرسة ما يحوّل هذه الاستعدادات إلى حالات فعلية، فإن قيمة ما يحدث في المدرسة يتجاوز كونه نمط حياة، إلى ما يشبه تشكيل حياة، وهو أعلى ما يمكن أن تصل إليه المدرسة المعاصرة. عندما يذهب التلامذة إلى المدرسة، فإنهم يقومون بعملٍ يشبه عمل الراشدين عندما يذهبون إلى أعمالهم، وربما يشعرون بالكثير مما يشعر به هؤلاء نحو الواجب في الحياة. والسؤال المطروح: كيف تصبح حياة هذه الأجيال الصاعدة، إذا ما تم توفير أسباب علمهم في البيت، بعيداً عن المدرسة، وبالتالي كل التفاعلات الحيوية التي تحملها؟ مما تقدم نخلص إلى القول إن عملية دخول التلميذ إلى المدرسة ليست مهمة مفصولة عن حياته الحقيقة، كما أنها ليست خروجاً عن نمطه الشخصي، بل هي ممارسة طبيعية للحياة تتضمن كل الشروط والعناصر الضرورية. وكلما ابتعدنا عن هذا المفهوم، فإننا نسهم في تعسير الحياة المدرسية، من دون أن نؤثر على حقيقة وجود حياة فعلية فيها. وهذا يعني ضرورة السعي لتوفير الظروف المساعدة لجعل هذه الحياة يسيرة وغنية، وأن لا تكون نمطاً مخالفاً لحياة التلميذ خارج المدرسة، بل نمطاً متكاملاً ومتصلاً بها. بهذه الطريقة يمكن الحديث عن حياةٍ واحدة في أماكن متعددة، ومواقف متنوعة، وهذا ما تصبو إليه المدرسة المطلوبة.