الشهيد السيّد عبّاس الموسوي (رضوان الله عليه)
يقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 251). هذه الآية توضّح حقيقة كبيرة، وهي أنّ الدفاع في وجه الظالمين والمستكبرين، هو الذي يمنع الإفساد في الأرض، بينما إذا تُرك الظالم والمستكبر ليُفسد في الأرض ويسفك الدماء، ستفسد عندها الأرض بكاملها: ﴿لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ (البقرة: 252).
•استهداف بيوت الله
ثمّة تعبيرٌ آخر في المضمون نفسه، والألفاظ نفسها، ولكن مع تفصيل أكثر: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 41). هذا التعبير يوضّح أنّ الإنسان المستكبر عندما يُطرد، لا يترك دُوراً للعبادة إلّا ويستهدفها، ويصبح مجرّد التوجّه إلى الله ممنوعاً، سواء من خلال كنيسة، أو بِيَع لليهود، أو مساجد يُذكر فيها الله كثيراً.
•قصّة طالوت وجالوت
الجميل في الآية الأولى أنّها أتت بعد سرد قصّة طالوت وجالوت، حيث يُبيّن الله عزّ وجلّ أنّ قوم طالوت وداود عليه السلام كانوا خائفين جدّاً من جبروت جالوت، ولا يجرؤون على مواجهته، فهو كان مستكبراً جدّاً، ويملك قوةً كبرى، فسخّر الله تبارك وتعالى شابّاً كان لا يزال في مقتبل العمر، وهو داود عليه السلام، وتقول الآية: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾، بمجرّد أن قُتل جالوت، هدأت نفوس الناس، وشعروا بالقوّة. كانوا يظنون أنّ جالوت فوق الموت، وأنّه جبّارٌ لا يمكن أن يطاله أحد، فإذ بهم يتفاجؤون بشابٍّ فتيٍّ في مقتبل العمر، استطاع أن يقتله بآلة بسيطة.
بعد هذه القصّة، ساق الله عزّ وجلّ هذه الآية: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾؛ أي لولا وجود أمثال داود عليه السلام، وطالوت، وأنصار طالوت الذين دافعوا بقوّة في وجه جبروت واستكبار جالوت، لفسدت الأرض.
•الحفاظ على الكعبة يمرّ بكربلاء
توجد قاعدة راسخة في التاريخ أنّ الظالم إذا تُرك، أفسد في الأرض؛ ولذلك أوّل ما يتوجّب على المؤمنين القيام به هو أن يدفعوا ظلم الظالمين؛ لأنّه لا يمكن أن تُقبل عند الله عزّ وجلّ صلاة لإنسان إلّا إذا كانت في هذا الطريق؛ لذا، على الإنسان أن يتسلّح بالمعنويّات إذا أراد أن يؤدّي صلاة جماعة أو فرادى في المسجد، حتّى يواجه الظالم، ويدفع ظلمه.
وهذا المعنى عبّر عنه الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عمليّاً. فالإمام الحسين عليه السلام كان في الحجّ عندما دعا داعي الجهاد إلى كربلاء. وكانت جموع كبيرة من الناس من حوله، هذا يطوف حول الكعبة، ذاك يسعى بين الصفا والمروة، ثالثٌ يصلّي ركعتي مقام إبراهيم عليه السلام، وهكذا... لكن بنظر الإمام الحسين عليه السلام هذه الأعمال كلّها لا قيمة لها أمام أمر آخر أعظم منها. فالضرورة تقضي أن يتوجّه الجميع إلى كربلاء، حيث الوضوء بالدماء بدل ماء زمزم. لم يُكمل الإمام الحسين عليه السلام حجّه؛ وبعبارة أوضح: من يريد أن يحافظ على الكعبة عليه أن يمرّ بكربلاء، ومن يريد أن ترتفع راية الحرية والإسلام فوقها عليه بكربلاء، ومن يريد العزّة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة عليه بكربلاء، وإلّا فإنّ الكعبة ستُهدم إذا لم يتوجّه المسلمون إلى هناك. وفعلاً، لأنّ الناس لم يتوجّهوا إلى كربلاء، رُميت الكعبة بعد فترةٍ وجيزةٍ بالمنجنيق من قِبل الحكّام الظالمين. فعندما يبقى الحاكم الظالم فوق رؤوس الناس، تُهدم المساجد، وتُنتهك حرماتها، ولا تبقى حُرمة للكعبة، أو لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لمقام إبراهيم عليه السلام، أو للصفا والمروة وعرفات، أو لأيّ شعيرة من شعائر الله في مكّة أو المدينة؛ ولذلك في عصر الإمام الحسين عليه السلام، كان طريق بناء المساجد وعزّتها يمرّ من كربلاء.
•حدود العزّة والكرامة
من أراد أن يُعمّر مساجد الله، ويُبنى مجد الإسلام، عليه أن يمرّ على حدود جنوب لبنان والبقاع الغربيّ، فهذه حدود العزّة والكرامة. في عصرنا الحاضر، إنّ التحصينات الأساسيّة لهذه الأمّة تتمثّل بالمقاومة الإسلاميّة التي قاتلت إسرائيل عبر البقاع الغربيّ وجنوب لبنان، فهل يوجد تحصينات يمكن أن تنطلق على أساس الأمّة لتُبنى قوّتها، وعزّتها، ومجدها خارج إطار المقاومة الإسلاميّة؟!
•خريج المسجد
توجد قصّة عن رجل مؤمن من مصر، تبيّن موقعيّة المسجد في حياتنا المعاصرة. توجّه الأخ المجاهد نصير [سيّد]، إلى احتفال حاشد لليهود في قلب الولايات المتحدّة الأمريكيّة، قلب عواصم الكفر والاستكبار العالميّ، وقام بقتل زعيمٍ يهوديّ، هو كاهانا [مائير]. وعندما أرادوا أن يحقّقوا مع هذا الشاب، استخدموا مختلف أساليبهم في التحقيق، ولكنّهم لم يصلوا إلى أيّ نتيجة، فلم يجدوا سبيلاً إلّا أن يفتّشوا أين كان يتردّد، فاكتشفوا أنّه كان خرّيج مسجدٍ. لقد قصدوا المسجد وراحوا يُجرون تحقيقاً حوله، وحول كلام إمامه، والمصلّين الذين يقصدونه، ومحتوياته، وكلّ ما يتعلّق به.
•صانع الثورة
من الذي صنع هذه الحالة؟ من الذي صنع من المسجد متراساً، وجعل من الكعبة المشرّفة من أرض مكّة المكرّمة أرضاً لمسيرة براءة ضدّ المشركين؟ من الذي حوّل أرض المدينة المنوّرة إلى مسيرة وحدة إسلاميّة؟ من الذي علّمنا الصلاة الحقيقيّة؟ من الذي عرّفنا كيف يُتلى كتاب الله، وتُقرأ سيرة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ من الذي عرّفنا كيف تدمع أعيننا على الإمام أبي عبد الله عليه السلام؟ إنّه روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره. فالإمام قدس سره لم يبنِ ثورةً في إيران فقط، وإنّما بعث روحاً ثوريّةً في كلّ شيء. لقد بعث الثورة في أرواحنا، والروح في صلاتنا، وعباداتنا، وفي كلّ كلمةٍ من كلماتنا. لقد أصبحت الكعبة ذات معنى، بعد أن أراد لها الأمريكيّون من خلال آل سعود أن تكون منتزهاً، وموقعاً تجاريّاً، وموقعاً لاستغلال الناس واستعبادهم، ومكاناً يذهب إليه الناس حتّى يلقوا بالتحيّة عليهم. فالإمام الخمينيّ قدس سره حوّل هذه الأماكن المقدّسة إلى أماكن يرتفع فيها شعار الإسلام: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل".
•بركات الإمام الخمينيّ قدس سره
إنّ كلّ ما لدينا هو ببركات الإمام قدس سره، فهو ليس رجلاً عاديّاً، فليس بيننا وبينه روابط عاطفيّة، وليست العلاقة بيننا وبينه علاقة عائليّة هاشميّة، أو أيّ رابطة أخرى، المسألة ليست كذلك، وإنّما الإمام هو باني أمّة، ومفجّر ثورتها، ولولاه، لما كان هناك إسلامٌ في عصرنا الحاضر، ولذلك فإنّ هذه المسيرة المباركة في لبنان، مسيرة المقاومة الإسلاميّة، هي إحدى تعليماته.
(*) كلمة ألقاها (رضوان الله عليه) بتاريخ 26/9/1991م.