آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي
"بقيّة" على وزن "فعليّة"، وهي صفة مشبهة من "بقي" أُلحقت بها "ة" للمبالغة. وأما مصدر هذه المادة فهي "البقاء" (ضد الفناء): ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك﴾ (الرحمن: 26 27). ويساهم تقابل هذين الاصطلاحين في وضوحهما، فالفناء في الآية هو نفوذ الزوال والعدم إلى حريم الشيء، وعلى هذا الأساس يكون المقصود من البقاء عدم نفوذ الزوال والعدم إلى حريم الشيء. بناءً على ما تقدم يطلق "بقيّة الله" على الشيء الذي جعله الله تعالى باقياً لا يتطرق إليه الزّوال والعدم (1). ويجب أن يشار إلى مسألة وهي بما أن النفي في النفي يستلزم الثبوت وفُسِّر البقاء بعدم الزوال، فإنّ هذا التحليل يعود إلى عدميّة الفناء ووجود البقاء.
* الباقون الإلهيّون
"بقيَّة الله" في المفهوم القرآني هو كلّ موجود فيه منفعة من رب العالمين للبشر. والذي يحمل آثاراً وبركات باقية هو الذي يحمل السعادة؛ لأنه سيكون مظهر "هو الباقي" من خلال امتلاكه هكذا أوصاف. وقد أطلق في كلام شعيب عليه السلام "بقيّة الله" على ما فيه ربح ومنفعة عن طريق الحلال: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ (هود: 86). والسر في ذلك أنّ المنفعة الحلال، هي رزق نازل من الله تعالى، وبما أنها منسوبة إلى ما وراء الطبيعة ومستفيدة من "وجه الله"، فهي مظهر "هو الباقي"، فتكون منشأ خيرات وبركات للإنسان ووسيلةً لتأمين سعادته. بناءً على ما تقدم فكل ما يصدق عليه أنه "وجه الله"، هو مظهر اسم "الباقي" المبارك وسيكون بقيّة الله. يقول الإمام الصادق عليه السلام في تعريف أهل البيت عليهم السلام: "نحن وجه الله"(2). وقيل في وصف إمام الزمان عجل الله فرجه: "أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء" (3). وعلى هذا الأساس فالأئمة عليهم السلام هم المظهر التام للاسم "الباقي" المبارك والمصداق الكامل لبقيَّة الله، على الرغم من أن الآخرين يستفيدون من هذا الفيض العظيم أيضاً.
* إشارات
1- معيار البقاء والفناء
إن كل موجود يعبر عالم الطبيعة ويصل إلى كمال الكون "عند الله"، سيكون باقياً بشكل دائم، بينما الموجود المحدود بعالم الطبيعة والذي لا يستفيد من الانتساب إلى الله تعالى، سيزول مع زوال عالم المادة؛ فالله تعالى هو الوحيد المصون من الزوال والتغيّر والتبدّل: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاق﴾ (النحل: 96). يعتبر القرآن الكريم أن البقاء مخصوص بـ"وجه الله" وكل ما سواه فهو محكوم بأصل الفناء الكلي: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 26 - 27)، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (القصص: 88). جاء الحديث في هذه الآيات الشريفة عن بقاء "وجه الله" و "ما عند الله". فكل منسوب إلى الله تعالى، هو باق وبعيد عن سهام الزوال والفناء. فالأعمال الخالصة التي يؤتى بها لمجرّد رضى الله تعالى، يمكنها أن تكون الوسيلة للوصول إلى "وجه الله" والنسبة إلى الله، وفي النتيجة يمكنها أن تشكّل، من خلال حضورها موقف القيامة، منفعة تعود إلى عاملها. وإلّا فإن الأعمال التي يؤتى بها لمقاصد أخرى فإنّها تزول مع زوال تلك المقاصد. مع العلم أن القرآن الكريم شجع على العمل الصالح ورتَّب الثّواب على ذلك: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾ (الكهف: 88).
من هنا تحدَّثت عدة آيات شريفة عن الإتيان بالحسنات في موقف القيامة: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ﴾ (الأنعام: 160) أي إن صاحب العمل يمكنه الإتيان بحسناته معه. وما لم يتخذ العمل الصالح صبغةَ البقاء، لا يمكنه مرافقة الإنسان في المعاد. وهذا هو السر في المحافظة على الإخلاص عند القيام بالعمل. الأئمة الأطهار عليهم السلام، وكل واحد منهم عبارة عن إنسان كامل ومعصوم، قد وصلوا إلى مرحلة الفناء المحض في الذات الإلهية المقدسة حيث كانت كافة حركاتهم وسكناتهم لأجل تحصيل رضاه. لذلك كانت أعمالهم، لا بل جواهر ذواتهم، عبارة عن "وجه الله" ومظهر "هو الباقي".
2 - لقب مليء بالفخر
إنّ "بقيّة الله" هو أحد الألقاب المليئة بالفخر لخاتم الأوصياء ولي العصر عجل الله فرجه والذي قد يتصف بـــ "الأعظم".أما أول كلامه عجل الله فرجه بعد خروجه: "... فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فأوّل ما ينطق به هذه الآية ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ثم يقول: أنا بقيَّة الله وخليفته وحجته عليكم فلا يسلّم عليه مسلم إلّا قال: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه"(4). طبعاً، هذا اللَّقب غير مخصوص بحضرته، بل يُطلق على جميع الأنبياء والأولياء والعلماء الربانيين والمجاهدين في سبيل الله الذين يجاهدون لأجل إعلاء كلمة الله تعالى؛ مع العلم أن الأئمة الأطهار عليهم السلام هم قادة هذه المسيرة. تحدّث أصحاب الإمام الباقر عليه السلام عنه بعنوان "هذا بقيّة الله في أرضه" (5). وقد وقف خطيباً أمام الناس في المدينة عندما رجع من السفر الشبيه بالأسر في الشام يرافقه الإمام الصادق عليه السلام فقال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ إلى قوله: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (هود: -84 86). ثم وضع يده على صدره وقال بصوت عالٍ: "أنا والله بقيَّة الله، أنا والله بقيَّة الله" (6).
تتحدث والدة الإمام الرضا عليه السلام عن قضية ولادته وتقول: "فلما وضعته... دخل أبوه موسى بن جعفر عليه السلام فقال لي: هنيئاً لك يا "نجمة" كرامة ربك، فناولته أياه في خرقة بيضاء فأذَّن في أذنه الأيمن وأقام في الأيسر ودعا بماء الفرات فحنّكه به ثم ردَّه إليَّ وقال: خذيه فإنّه بقية الله عزّ وجلّ في أرضه" (7).
3 - مظاهر "بقيّة الله"
لم تتمكّن القرون والأعصار من إضافة الفناء والنسيان على الآثار العلمية والكتابية للعظماء أمثال: الشيخ الطوسي، الشيخ المفيد، ابن سينا، الفارابي... وما زالت كتبهم تشكّل المحور الأساس في عملية التعليم والتعلم في الحوزات والمراكز العلمية والثقافيّة. والسرّ في ذلك أن علماء الدين الكبار يدركون ويفهمون كلام الأئمة عليهم السلام والذي هو عبارة عن رسالة الذات الإلهية المقدَّسة، ويقدّمونه إلى مشتاقي المعارف الدينية. وبعبارة أخرى هم تراجمة علوم الأئمة المعصومين عليهم السلام الوجدانية ومن هذه الجهة فهم مرتبطون بتلك الذوات القدسيّة التي هي "بقيَّة الله" ومن خلالهم يرتبطون بالله تبارك وتعالى. بناءً على ما تقدم ما دام "الله" باقياً، فــــ "بقيَّة الله" باقٍ وما دام "بقيَّة الله" باقياً، فالمرتبطون به (العلماء والعظماء) باقون أيضاً. لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "العلماء باقون ما بقي الدهر" (8). يتحدث الإمام عليه السلام عن نشأة الطبيعة. ومعنى كلامه أنه ما دامت الدنيا باقية، فالعلماء الإلهيون باقون أيضاً. وهو لا يريد التحدث عن البقاء في النشأة الآخرة باعتبارها أمراً مسلماً لا يقبل الإنكار.
4- تأثير العلم والعمل في البقاء
علماء الدين والعاملون المخلصون هم مظاهر البقاء الإلهي، بمقدار علمهم الصائب وعملهم الصالح. وقد استعمل القرآن الكريم عبارة ﴿أُوْلُوا بَقِيَّةٍ﴾ في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ (هود: 116). و﴿أُوْلُوا بَقِيَّةٍ﴾ تختلف عن "الباقي" كما أنّ أولي الألباب غير اللبيب، فأولو البقيّة هم الذين يقومون بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بإزالة الفساد من المجتمع الإنساني ليحفظ من المعاصي. وعلى كل تقدير فأولو البقية هم الصالحون في العلم والعمل، وهم وسيلة حفظ المجتمع من الزوال والفناء، وبهم وفي ظلِّهم يُنعم الله على المجتمع بنعمة البقاء. وعلى هذا الأساس فعلماء الدين باقون، هذا من جهة ومن جهة أخرى هم أولو بقية، وذلك بمقدار علمهم ونصاب عملهم الصالح، ونصاب تأثيرهم في إحياء الحقّ وإماتة الباطل، وحفظ الأمة الإسلامية من الغوص في المعاصي. على كل الأحوال فإن نصيب أهل بيت العصمة عليهم السلام من عنوان ﴿أُوْلُوا بَقِيَّةٍ﴾ أكثر من الجميع؛ لأن الآخرين يحظون بالبقاء من خلال الوجود إلى جانب مائدتهم عليهم السلام.
1.راجع: التحقيق في كلام القرآن، مصطفوي، ج 1، ص 300، "بقي".
2.تفسير نور الثقلين، الحويزي، ج 5، ص 192.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج 99، ص 106.
4.م. ن، ج 24، ص 212.
5.م. ن، ج 46، ص 259.
6.م. ن، ص 315.
7.تفسير نور الثقلين، م. س، ج 2، ص 391.
8.نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج4، ص36، الحكمة 147.