الشهيد السيّد مصطفى الخمينيّ قدس سره
اعلم، يا أخي في الله، ويا عزيزي السالك: أنّ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ (البقرة: 2)، فإذا اجتهدت في تعلّمه، والتعيّن بحقيقته، والتشخّص بشخصيّة مثله، فلن يكون لديك رَيب أيضاً، فلماذا لا تشتاق إلى أن تسلك سبيله، حتّى ينتفي الرّيب كلّه عن ذاتك؟! أفما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين وأولادهما عليهم السلام من هذه النشأة؟! فإذا كانوا كذلك، فكيف ارتقوا إلى تلك المقامات، وتعيّنوا بتلك الصفات حتى نُفي عنهم الرّيب؟!
•كتاب الهدى
ثمّ اعلم، يا صديقي ويا نور عيني: أنّ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى﴾ (البقرة: 2)، فعليك الجدّ والاجتهاد في أن تكون هدىً، ولا تكتفِ بكونك هادياً، ولا تقنع بأن يهتدي بهديك الآخرون، فضلاً عن القناعة بأن يكون الإنسان خارجاً عن زمرة الضالّين والمضلّين، فاسعَ سعيك، وجدّ جدّك في طريقك المثلى ونهجك المقرّر حتّى تصل إلى هذه المرتبة العليا، ولا يكون ذلك، إلّا بالتدبّر والتفكّر، والاقتداء بالصالحين، وباتّباع الأولياء المقرّبين المنتشرين في البلاد والقرى.
•لاَ رَيْبَ فِيهِ
هذا الكتاب الإلهيّ جاء ليعلّم الناس ما يصيرون به مثالاً له، فلا يكون فيه ريب، ويكون هدىً من الضلالات في جميع النشآت، فتخلّقوا بأخلاق الله، حتّى يتمشّى لكم ما تمشّى له من المشيّة المطلقة، فإنّ الإنسان هو الصورة الجامعة الإلهيّة.
ثمّ يا أيّها الحجّة الباقية القائمة، أعنّا على ذلك كلّه حتّى نُدرَج في زمرة المتّقين، ونستضيء بأنوار الحقّ واليقين، فإنّ الكتاب الإلهيّ قد حثّ على ذلك بأنحاء كثيرة، ومن أحسنها هذه الآية الكريمة: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 2)، فإنّها تومئ إلى اعتبار السنخيّة بين المهتدين بالقرآن العظيم، وبين الكتاب الذي لا ريب فيه، فإنّه لا يعقل هداية الضالّ. وإنّ صورة الضلالة هي الصورة الآبية عن قبول الهداية، فلا بدّ من أن يكون متصوّراً بتلك الصورة حتّى يكون قابلاً للاهتداء بمثل ذلك الكتاب. فإذا كنت رافضاً للشهوات، والبليّات، وأهواء النفس، وأحكام المادة، والشيطنة، يُخرجك الله من الظلمات إلى النور.
•كتاب الوعظ والإرشاد
اعلم يا أخي، إنّ الكتاب الإلهيّ كتاب الوعظ، والإرشاد، والتنبيه، والتوجيه، وهذه الجهة هي أقوى وأعظم شأناً من سائر الأمور الأُخر، وإنّه يلاحظ جانب الإرشادات الخاصّة بأنحاء التعابير المختلفة، ليخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى الصراط المستقيم، والخلاص من الجحيم. فإذا قال: ﴿آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ (البقرة: 13) فعليك الإجابة بالأجوبة القلبيّة والقالبيّة، والإصغاء والاستماع إلى ندائه ورأيه عملاً وعلماً، ولا تكن كالمنافقين ومن يحذو حذوهم في الخروج إلى حدّ الإفراط أو التفريط، بل اللازم مراعاة الحدّ الأوسط، واتّخاذ الحدّ العدل والخطّ المستقيم من الابتداء إلى الانتهاء، وعدم الانحراف عنه ولو للحظة، وذلك لا يحصل بمجرّد تلاوة الكتاب، أو كتابة تفسيره، أو مراجعة كتب المفسّرين، وغير ذلك، بل هو أمر لا يمكن تحقيقه إلّا بالجدّ والاجتهاد...
•إيمان السفهاء
إيّاك أن تكون من السفهاء في لسان القرآن، واحذر التشبّه بالمنافقين، وقد عرفت أن ّمن النفاق الرياء، والمراؤون يتبعون أهواءهم، وهم في النفاق آكد من المنافقين، لما أنّ إيمانهم وَدَعيّ غير راسخ ولا حقيقيّ. فكلّ إنسان كان نظره وقلبه متوجّهين إلى غيره تعالى –في فعاله وصنيعه- فيه نوع نفاق، ويقول بلسان الحال: ﴿قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء﴾، ويجاب بقول الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾(البقرة: 13)(1).
•أمراض القلوب
يا أخي، لقد أُرسل إليكم كتابٌ فيه المواعظ والحكم، وأُنزل إليكم نورٌ تستضيء به القلوب والنفوس، وفي جميع آياته ومواعظه الإلهام والإيماء إلى الحسنات ولزوم نيلها، والزجر والتحذير عن السيّئات ووجوب التّنفّر عنها، فإذا استمعت إلى قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ (البقرة: 10)، فلا تظنّ أنّ هذه الآية مخصوصة بجماعة من المنافقين وأنت لست منهم وبريء عنهم. كلّا، بل عليك أن تحسب نفسك فيهم حتّى تقوم من مقامك وتجتهد وتجدّ في الخروج من هذا الأمر الفزيع الفجيع، وذلك لما تحرّر وتبيّن في محلّه: أنّ الأمراض المتحصّلة في النّفوس إذا صارت ملكةً، فقد بلغت إلى حدّ يقرأ عليها ﴿فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾ (البقرة: 10). فإنّ الله تعالى وتبارك خلق الخلق على نظام الأسباب والمسبّبات، ولا يخصّ أحداً بنظرةٍ رحيميّةٍ خارجةٍ عن اقتضاء المرجّحات والأسباب؛ لأنّ الحقّ الرؤوف عادلٌ مستوي النسبة إلى العالم، فإذا حصل في قلبك مرض الحسد، والبخل، والكبر، والأنانيّة، والجبن، وحبّ الدّنيا، والرئاسة، وغير ذلك، وما أخذت في إزالتها وإفنائها، بل قوّيتها بالواردات والمؤيّدات، وسلكت مسالك الأباطيل والشياطين، فقد زادها الله تعالى مرضاً.
•الاستنارة بأنوار القرآن
ونعوذ بالله العزيز من هذه الفجائع والعظائم والبلايا والرذائل، فإنّها إذا استقرّت في النفس وصارت الأنفس محكومةً بها حتّى تحرّكت فيها حركةً طبيعيّةً، يكون لهم عذابٌ عظيمٌ بما كانوا يصنعون. فعليك يا أخي: أن تأخذ بنجاتك من هذه الورطة الظلماء، وتشدّ عضدك وظهرك للاستنارة بأنوار القرآن، بأن تعمل به عمل إخلاصٍ، وتتدبّر في آياته تدبّراً حسناً وتفكّراً مفيداً لدنياك وآخرتك، ولا تكن ممّن أقفلت قلوبهم بالمحاسن المعنويّة واللفظيّة والدقائق الحِكَميّة والعرفانيّة، فإنّها كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً(2).
•طريق المفلحين
على الإنسان أن يطبّق روحيّته على القرآن الكريم والصراط المستقيم، وأنّه عندما يقرأ هذه الآيات في ابتداء سورة البقرة، لا يقتنع بمجرّد اللقلقة وتحسين الصوت وتجويد الحروف والكلمات، بل يكون على بصيرة من أمره، مهتدياً بالآيات، ومترنّماً ومترقّياً بالحروف والكلمات، مواظباً على إيلاجها في قلبه وإرساخها في روحه ونفسه، ويستمدّ منها، ويتغذّى بغذائها، كما يتغذّى بسائر الأغذية، ويجاهد في سبيل ربّه بهدى الربوبيّة، حتّى يكون من المفلحين الفائزين الذين مدحهم إله العالمين.
(*) مقتبس من: تفسير القرآن الكريم، للعلّامة المحقّق آية الله المجاهد الشهيد السعيد السيّد مصطفى الخميني قدس سره.
1.تفسير القرآن الكريم، الشهيد السيد مصطفى الخميني، ج3، ص473-474.
2.(م.ن)، ج3، ص378-379.