آية الله الشهيد مرتضى مطهري
علمنا من الدروس السابقة أن التربية تختلف عن الصناعة في أنها عملية تكاملية تدخل إلى الاستعدادات والقابليات الحية. ولكن بين الموجودات الحية يوجد اختلاف آخر فالنباتات مثلاً لا يمكن أن تتكامل من جهة دون أخرى بينما يمكن أن يحصل هذا الأمر في الوجود الإنساني، ويؤدي ذلك إلى اختلال التوازن المطلوب. لذلك فإن التربية الحقيقية هي التي تلحظ جميع القابليات الإنسانية بدون استثناء.ومن الممكن أن يقول البعض أن جزءً من التربية يتعلق بالتكامل والجزء الآخر عبارة عن صناعة. وهذا هو الاختلاف بين نظرية العلماء القدماء ونظرية علماء الغرب المعاصرين.
* التربية عند القدماء
لم يكن هناك أدنى شك عند القدماء في وجود البعد الأخلاقي في الإنسان والذي ينبغي أن يربّى، وبتعبير آخر لا بد من زرع الفضائل الأخلاقية لتصبح ملكات في الإنسان. فهم يرون أن الإنسان المتربي هو الذي حصل على الفضائل بصورة أصبحت فيه ملكة راسخة.
والفضيلة التي لم تصل إلى حد الملكة أو لم تتبدل إلى الطبيعة الثانوية للإنسان فهي في مرتبة "الحال" التي تزول مع الأيام. ولهذا نجد العلماء القدماء يعرِّفون العدالة بأنها ملكة راسخة في التقوى. حتى أنهم يقولون أن الإنسان إنما يصل إلى الأخلاق الفاضلة عندما لا يصدر منه ما هو مناف للأخلاق حتى في عالم الرؤيا. "وكان المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري يقول في عالم الرؤيا لو شاهدت امرأة غير محرم غضضت نظري".
ولهذا أيضاً يتركز الاهتمام على التربية في مرحلة الطفولة. وقد قيل: إن التربية هي فن تشكيل العادة. فروح الإنسان في البداية تكون كالطين اللازب أو العجين الرطب الذي يجف فيما بعد ليتخذ الشكل الأخير، ويمكن أن يصب في قالبٍ يشبه الخنزير أو الديك. لذلك يقال أن روح الإنسان في مرحلة الطفولة تكون لينة، وكلما كبر الإنسان مالت نحو القساوة.
وقد قيل: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" وهذا لا يختص بالعلم وإنما ينبغي أن يقال: "التربية في الصغر كالنقش في الحجر".
بالطبع إن علماء اليوم يولون الاهتمام الزائد بتربية الأطفال. فالطفل في المرحلة الأولى يمتلك قبولاً أفضل مما في المراحل اللاحقة. والإنسان عندما يصل إلى سن الخمسين تكون شخصيته قد انعقدت. ولكن لا ينبغي المبالغة هنا، فالإنسان موجود يمتلك قابلية التغيير دائماً ويمكن أن يحصل هذا في عمر المئة، ولكن هذا يكون صعباً جداً.
* مثل مولوي
يضرب "مولوي" مثلاً فيما يتعلق بعمر الإنسان وصفاته يقول: إن رجلاً زرع شوكاً في طريق الناس، وكان الناس يتأذون منها. فأعطى وعداً بقلعها في السنة المقبلة، وفي السنة التالية قال مثل ما قاله في السنة السابقة وهكذا استمرت السنوات تمضي والرجل يقول كالسابق. وكانت نبتة الشوك تزداد قوة وتكبر سنة بعد سنة والرجل يزداد ضعفاً.
هذا هو الإنسان فهو في مسيرة حياته يشبه زرع الشوك وقلعه، ومع مرور الأيام تتجذر الصفات فيه وتضعف إرادته. فمقدرة الشاب على إصلاح نفسه أقوى من العجوز.
ويذكرون أن معاوية كان يقول: إنني سأعمل عملاً في الأطفال بحيث أنهم عندما يكبرون سيكرهون علي بن أبي طالب. أو كما يقال في أمثلتنا، أن ما يدخل مع حليب الأم لا يخرج إلا بالموت... وعلى هذا الأساس، وكأن علماء الأخلاق القدماء لم يكن لديهم شك في أن الصفات والملكات الفاضلة لا بد أن يُعتاد عليها بصورة نوعية، والعادة صناعة وليست تربية.
فالتربية هي إنماء للقابلية الموجودة، أما العادة فهي الانسياق تحت أوامر رغبات النفس فالنفس تكون كالعجين أو الجبلة التي تقبل أي شكل. وعلى هذا الرأي فإن الإنسان موجود قابل للبناء، وأكثر الأخلاقيات أمور صناعية عليه أن يعتاد عليها دون أن يكون لها جذور في الإنسان.
فالشجاعة مثلاً: يمكن أن نربي شخصاً حاصلاً عليها والعكس أيضاً. ويمكن أن نجعل إنساناً ما معتاداً على العفة أو على الخلاعة. وطبقاً لهذا الشرح يمكن القول: إذا قلنا أن التربية عبارة عن مجرد التكامل دون البناء أو الصناعة فهذا غير صحيح.
فالقسم الأعظم للتربية هو صناعة الإنسان بشكل مرضٍ، ولهذا فإن كل ثقافة تصبغ الأمة كما تشاء، وكما يقال الناس على دين ملوكهم.
* نظرية علماء الغرب
هناك نظرية جديدة برزت بين علماء الغرب في باب التربية مفادها أن التربية هي تكامل بحت، ولأن كلامهم كان يدور حول التربية الأخلاقية - وقد بحثوا في العقل والإرادة دون الحس الديني وحس الجمال - فقد قالوا أن التربية هي فقط وفقط تربية العقل والإرادة الأخلاقية. ولا ينبغي أن يعتاد الإنسان على أي شيء - سواء كان حسناً أو قبيحاً - لأن العادة سيئة على نحو الإطلاق. لأن كل ما يعتاد عليه الإنسان يتحكم به نتيجة الأنس به فلا يقدر على تركه بعدئذٍ. فإذا صدرت منه الأفعال المعتادة لم تكن أفعالاً عقلية ولا إرادية لأنه لم يسبقها تشخيص دقيق في كونها حسنة أو قبيحة وإنما بسبب العادة وعدم القدرة على الترك.
وقد جاء هذا الأمر في الحديث النبوي والصادقي. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة".
وهناك رواية عن الإمام الصادق عليه السلام تفسر الحديث المذكور: "لا تنظروا إلى طول ركوع المرء وسجوده فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته".
ويدل هذا الحديث على أن العادة تسلب القيمة الأخلاقية للعمل ولا يمكن أن تكون معياراً للإنسانية والإيمان.
فهؤلاء - علماء الغرب - يقولون أن كل شيء (حتى أعظم الأعمال والفضائل الإنسانية) إذا صدر عن مجرد العادة فإنه يفقد قيمته الحقيقة. ويترأس هذه المدرسة كل من "كانت" و "روسو".
يقول "روسو" في كتاب "أميل": "ينبغي أن نعوّد أميل على أن لا يعتاد على شيء". وهذا الرأي يقف تماماً في مقابل عقيدة القدماء الذين اعتبروا أن التربية هي فن تشكيل العادة". إذاً ما هو الشيء المعتبر في التربية غير العادة؟ إنها تقوية الروح والإرادة التي تجعل العقل يفكر بحرية في كل عمل وتقرر الإرادة الأخلاقية ما تشاء، وتحارب العادة بالخصوص. وهذا ما دفع هؤلاء إلى تجويز بعض الأمور التي نعتبرها سيئة بسبب أن الشيء الحسن إذا اعتاد عليه الإنسان أصبح سيئاً وينبغي مخالفته والتمرد عليه.
هنا تطرح مسألة الحرية الأخلاقية في التربية. فهم يدافعون عن الحرية في الأخلاق، ويعتبرون أن الحرية جوهر روح الإنسان، ويصرّون على عدم سلب الحرية منه بأي شكل من الأشكال. ويمكن القول أن أكثر كلمات "روسو" في كتابه تدور حول محاربة العادة. فهو يقول ناقداً للتربية القديمة: "إن الطفل يأتي إلى الدنيا أسيراً ويخرج منها أسيراً". ويقصد بذلك أن الطفل حين يولد يوضع ملفوفاً في المهد وعندما يموت يوضع ملفوفاً في الكفن. فهو منذ الولادة حتى الموت يبقى أسير العادة.
* نقد هذه النظرية
ولكن: هل هذه النظرية صحيحة؟ وهل أن الأعمال الحسنة لا ينبغي الاعتياد عليها؟
نحن نرى أن هذه النظرية ليست صحيحة مئة في المئة. فهم قد قالوا أن العادة تجعل الإنسان مثل الآلة، وتسلبه روح الإبداع وتفقده الحرية والاختيار.
يقول "كانت": "كلما ازدادت عادة الإنسان، قلت حريته". وبالطبع فالمقصود هو حرية العقل. وقد اعتقدوا أن العادة تضعف الإرادة بحيث لا يبقى للإنسان القدرة على مخالفة ما استأنست به قواه الروحية والجسمانية فهي إذاً، أمر شيء. وخلافاً لقول القدماء، قالوا: "إن التربية هي فن تحطيم العادة". وبالطبع فإن ما قالوه حول أثر العادة في سلب حكم العقل والإرادة صحيح تماماً، ولكن هذا ليس دليلاً على أن العادة أمر سيء مطلقاً. لأن العادات تنقسم إلى فئتين: 1 - العادات الفعلية. و2 - العادات الانفعالية.
فالعادة الفعلية هي ممارسة عمل ما بمهارة وإتقان دون الوقوع تحت تأثير عامل خارجي. فالفنون عادة، كما أن الخط عادة. نحن إذا لم نكتب باستمرار لن يكون لدينا خط جميل. فالكثير من الملكات النفسانية عادات فعلية، كالشجاعة وقوة القلب. ويمكن أن يكون البعض قد حازوا على جزء من الشجاعة بشكل طبيعي، ولكن وقوف الإنسان بصلابة أمام الأخطار ينجم عن العادة. فالإنسان الذي تمر عليه المهالك والمخاوف الكثيرة يصل إلى هذا الحد من الشجاعة. والجود والسخاء والعفة من هذا القبيل أيضاً.
إذاً، فلماذا لا نرى أشكال كانت وأمثاله صحيحاً؟ لأن خاصية هذه العادات أولاً ليست في استئناس الإنسان بها، بل إن الإنسان إذا لم يكن معتاداً عليها فسوف تكون إرادته ضعيفة ومقاومته لا تقدر على مواجهة الأمور المضادة. مثل ما يذكره الفقهاء حول ملكة التقوى والعدالة. فروسو وكانت يريان أن الإرادة الأخلاقية هي التي تتبع أوامر العقل، وترك هذه الخصال لن يجعل الإنسان حزيناً. فهناك قوة واحدة لا غير.
ثانياً: وهو متمم للأول: إن علماء الأخلاق عندما يولون اهتماماً بالغاً بالعادة يقولون أن العادة تسهل على الإنسان العمل الذي هو صعب حسب الطبيعة.
فالإنسان يريد أحياناً أن يقوم بعمل خلاف طبيعته. وعندما يعتاد الإنسان على الأمر الصعب ويصبح فيه ملكة راسخة، تزول الصعوبات عند مواجهته الطبيعة، ولا يعني هذا أن يصبح الأمر مأنوساً لديه. لنفرض أن إنساناً اعتاد أن يستيقظ وقت السحر. فهو في البداية كان يرى هذا العمل صعباً وعلى أثر الممارسة شيئاً فشيئاً اعتاد عليه، وليس هذا إلا تسهيلاً له. وبعبارة أخرى، كان هذا الإنسان أسيراً لطبيعته، وعلى أثر هذه العادة قوي على مواجهتها فتحرر منها واتبع عقله وتشخيصه للمصلحة، فهو الذي يقرر متى ينام ومتى يستيقظ. فهذا الأمر لا يمكن عده سيِّئاً، فهل نقول إن الإنسان بعد أن يعتاد على القيام في أوقات السحر ينبغي أن يحطم هذه العادة ويعود إلى طبيعته؟!
ثالثاً: علماء الغرب لا يدور بحثهم حول حاكمية الإرادة الأخلاقية على الإنسانية من الناحية الدينية، ولكن نحن عندما نبحث من الجانب الديني ينبغي أن نقول أن الإرادة الأخلاقية للإنسان ينبغي أن تكون تابعة لعقله وإيمانه. ولكن لأجل تثبيت حكومة العقل والإيمان هل نقوم بإضعاف القوى الأخرى كالعادة والطبيعة؟!
بالنسبة لهذا الأمر يوجد طريقان: الأول أن نضعف الجسم والطبيعة حتى يقوى عقلنا. وهذا مثل ذلك الذي يريد أن يصبح بطلاً ومنتصراً فهو يقول اجعلوا خصمي ضعيفاً وهزيلاً حتى انتصر عليه.
ولكن هذا ليس عملاً صحيحاً، فالفن أن تغلب القوي. وفي صدر الإسلام كان العديد من الرجال يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبون منه أن يجيز لهم عقم أنفسهم فكان يجيبهم: "إن هذا العمل حرام في ديني".
فليس الفن عند من يريد أن يبقي على إيمانه صافياً أن يعقم نفسه حتى لا يبقى فيه أي أثر للميول الجنسية. وإنما الفن فيمن يشعر بذلك ولكن عقله وإرادته من القوة بقدر بحيث تجعل الشهوة الجنسية تابعة لها. هذا في باب الطبيعة.
فماذا يقول كل من "كانت" و "روسو" في هذا المجال؟ لا خيار لهم في القول بأنه ينبغي تقوية كفة الإرادة لترجح على كفة الجسم والطبيعة. ونحن نقول أن هذا الأمر ينطبق على العادات، لأن العادة هي الطبيعة الثانية.
وهنا ينبغي أن ننظر إلى قوة العادة هل هي فعالة أو لا؟
نحن نجدها فعالة لأنها تهون الأعمال علينا. ولكن في نفس الوقت علينا أن نحفظ العقل والإرادة - أو العقل والإيمان - في قوتيهما حتى لا يقعا تحت تأثير العادة والطبيعة. ففي الواقع، عندما يصبح الشيء عند الإنسان عادة، يأنس به ويؤديه كفعل الآلة وأحياناً يكون خلافاً للعقل والإيمان. وبتعبير آخر، إذا أمره العقل والإيمان بخلافه لا يلتزم.
يُذكر أن شيخاً كان يقدر على ترك الصيام في شهر رمضان بسبب كبر سنه، ولكنه كان يصوم، وعندما قيل له: "إن الفقهاء يجيزون للشيخ والشيخة ترك الصوم ودفع الكفارة". فأجاب: "إن روحي العاميّة لا تدعني".
وهكذا فإن الكثيرين يعانون من هذه الحالة. ولذلك فإن البعض يقول: لو مت لا أفطر. (ويتصورون أن هذا من الإيمان) فحتى لو قال لهم الله ورسوله أفطروا لا يفطرون، هذه عادة. ولكن الإنسان في صومه ينبغي أن يتبع إيمانه. فإذا قال الإيمان ينبغي أن تفطر في الحالات الفلانية فعليه الالتزام. وغالباً ما يقع الإنسان أسيراً للعادة فينجر إلى مخالفة الإيمان. ولكن هذا لا يصبح دليلاً على أن ننفي الملكات على نحو الإطلاق، كالعدالة وقيام الليل.
يروى أن رجلاً كان يقول لأحد الأئمة عليهم السلام: "لو قلت لي أن نصف هذه التفاحة حرام والنصف الآخر حلال لصدقت". وكأن هذا يعني أن عدم الاعتياد على أي شيء يشمل عدم إطاعة العقل والإيمان أيضاً؟!
فقد علمنا أن نظرية علماء الغرب إلى هذا الحد صحيحة؛ وذلك الحديث الذي يقول: "لا تنظروا إلى طول ركوع..." يشير إلى هذا المطلب.
* إيجاد الأنس في العادات الانفعالية
ذكرنا أن الأنس يتولد من العادات الانفعالية التي تجعل الإنسان أسيراً. وهي العادات التي تجعله يؤدي العمل تحت تأثير العوامل الخارجية.
يروى أن رجلاً أراد أن يحصل على تعريف للشعر والنثر. فقالوا له أن النثر هو ما نتكلم به الآن. فقال: عجيب؟ نحن منذ مدة طويلة نقول نثراً ولا نعرف.
والمقصود أن العادات الفعلية هي التي لا ترتبط بعامل خارجي. أما العادات الانفعالية على العكس، فالتدخين يتحول عند البعض إلى عادة. ومعظم التربيات الجسمانية تتحول إلى عادات انفعالية. فالبعض يعتاد على غذاء معين بحيث لا يقدر على تركه أو تناول غيره. وهذا النوع من العادات سيء.
المطلب الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه، وسوف يتم البحث حوله في الدرس اللاحق يتعلق بملاك الفعل الأخلاقي وقد طرح هذا المطلب بواسطة الغربيين. فما هو الفعل الإنساني الذي ينبغي اعتباره طبيعياً أو أخلاقياً؟ وهذا يرجع إلى السؤال الذي يدور حول تقييم العمل هل هو جيد أن سيء؟ وهل يمكن القول أن كل عمل اختياري وإرادي هو عمل أخلاقي، وأن ملاك العمل الطبيعي هو صدوره بدون إرادة؟ فحركة القلب مثلاً، حركة طبيعية وهي كالتنفس ليست فعلاً أخلاقياً؟ أما الذهاب لتناول الغذاء أو التكلم فهو عمل أخلاقي؟! كلا، فهذا ليس صحيحاً. إن مجرد كون الفعل إرادياً لا يعطيه قيمة أخلاقية.
ويمكن أن يعتبر البعض أن ملاك الفعل الأخلاقي هو ارتباطه بالغير، بمعنى إيصال النفع للآخرين أو إضرارهم. وبتعبير آخر هو تلك العواطف والدوافع الإيجابية أو السلبية تجاه الآخرين. ولكن هذا ليس صحيحاً. فإن الكثير من الأفعال الإنسانية تكون أخلاقية بدون أن ترتبط بالغير. ومن الممكن ثانياً أن يكون هناك فعلاً مرتبطاً بالآخرين دون أن يكون أخلاقياً، كفعل الأم التي تقع تحت تأثير عواطف الأمومة تجاه ابنها فتخدمه وترعاه. ففعل الأم لا يمكن اعتباره أخلاقياً، لأن "حب الولد من طبيعة الأم"، والأم تتحرك تحت تأثير أحاسيسها فلا يمكنها مخالفة ذلك، بل تتألم عند مخالفته. فنفس هذه الأم لا تتصرف مع طفل غيرها بنفس الحنان - كابن زوجها - بل غالباً ما يصدر عنها خلاف ذلك. فلا يمكن القول أن هذا من الأخلاق. أي هي الأخلاق التي تأمر بالاهتمام بطفلنا وترك الطفل الآخر. لهذا لا يمكن اعتبار "الارتباط بالغير ملاكاً للفعل الأخلاقي".
أولئك الذين قالوا بأن أعمال الإنسان ينبغي أن تتبع العقل والإرادة اضطروا أن يقبلوا هذا الكلام وهو أن الفعل الأخلاقي هو الذي ينبع من العقل ولا دخل للعاطفة فيه. سواء ارتبط بنفس الإنسان أم بغيره.
لا يوجد في الفعل الأخلاقي معياراً يقبله الجميع. فكل مدرسة جعلت الفعل الأخلاقي حسب رؤيتها الكونية وإيديولوجيتها الخاصة بحيث يمكن أن يكون عند البعض مخالفاً للأخلاق. فالبعض اعتقدوا بأن الفعل الأخلاقي هو ما ينبع من وجدان الإنسان وهو الفطرة الموجودة في كل إنسان؛ وهذا صحيح إلى حد ما: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾.
وكان "كانت" يعتقد بأن الوجدان الأخلاقي موجود في كل البشر. وتحوز فلسفته العملية على أهمية أكثر من فلسفته النظرية. فقد قال: "أمران يبعثان على التعجب الذي لا يخف أبداً: السماء المليئة بالنجوم فوقنا والوجدان الموجود في أعماقنا" وقد كتبت هذه العبارة على قبره. فهم يرون أن الوجدان هو معيار صحة العمل وأخلاقيته بمعزل عن التربية والعادة. أما أولئك الذين لم يؤمنوا بالوجدان فما هو المعيار الذي جعلوه حاكماً؟
أولئك الماديون، يمكن القول أنهم قد جعلوا القيم الأخلاقية في الحضيض، وقد قالوا أن عصرنا هو "عصر تزلزل القيم". ويقصدون أنه عصر لا قيمة فيه للقيم الأخلاقية. مدرسة "النهليم" إضافة إلى كافة المدارس المادية يقولون بذلك. فالجميع يدعي الأخلاق، ولكن إيديولوجيتهم أسقطت كل القيم الأخلاقية.